عناصر الخطبة
1/ كلمة التوحيد الكلمة الطيبة 2/أعظم نعم الله على خلقه 3/مفهوم الأوثان وصور عبادتها 4/ مسارب الشرك دقيقة وخفية 5/ مظاهر الشرك كثيرة في بلاد المسلمين 6/ مظاهر الشرك لا تنحصراهداف الخطبة
اقتباس
إن أعظم نعمة يُنعمُ بها العبد أن ينشأَ محقِّقاً للتوحيد، معظِّماً لجَنابه، متطهراً من مظاهر الشرك؛ غير أن النشأةَ على صفاء العقيدة لا يعني أماناً مطلقاً من مزالقِ الشرك؛ فإن الشيطان لا يني في الوسوسة، والنفوس تضعف مع قوة الوارد؛ من فتنة تَحُل، أو شُبهةٍ تَعرِض، أو خطرٍ يَدلَهِم ..
أما بعد: فما تقرب عبد لربه بأفضل مما افترضه عليه، وأول ما افترضه الله على عباده إفرادُه سبحانه بالعبادة، والخلوصُ من الشرك، فهذا الفرضُ هو أصل دعوة الرسل، عليها توافقت رسالاتهُم وإن اختلفت شرائعهم، (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إلا أنا فاعبدون).
كلمة التوحيد هي الكلمة الطيبة، وهي أول ما يشهره الداخلُ في الإسلام من شعائر الملة، فمن حققها وأخلص العبادةَ لله وحده لا شريك له كان مآلُه إلى الجنة وإن عُذِّبَ بالنار، ومن صَدف عنها وقد بلغته حجتُها، وأشركَ بالله وهو يعلم، ثم مات على ذلك، فقد حقّت عليه كلمة الله بالخلود في النار، (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)، وقال جل جلاله: (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً)، وهذا لمن مات على الشرك ولم يتب منه.
وأي ذنب أعظم من ذنب! وبقدر ما يَظهرُ من أهمية تحقيق التوحيد يستبين خطرُ الشرك، فالله لا يغفره لمن مات عليه، ويغفرُه لمن تاب منه.
إن أعظم نعمة يُنعمُ بها العبد أن ينشأَ محقِّقاً للتوحيد، معظِّماً لجَنابه، متطهراً من مظاهر الشرك؛ غير أن النشأةَ على صفاء العقيدة لا يعني أماناً مطلقاً من مزالقِ الشرك؛ فإن الشيطان لا يني في الوسوسة، والنفوس تضعف مع قوة الوارد؛ من فتنة تَحُل، أو شُبهةٍ تَعرِض، أو خطرٍ يَدلَهِم.
ولذا كان حقيقاً بكل مسلم أن يتعاهد تحقيقَه للتوحيد كتعاهده لثوبه ومالِه، وأن يحاذر الشركَ أن يشوبَ توحيده بشائبة، أو ناقضٍ من نواقضه؛ فإنّ محاذرةَ الشرك منهجٌ للأنبياء سار عليه الأتقياء، فهذا إبراهيم خليلُ الرحمن عليه السلام الذي شهد الله له بالإمامة في التوحيد يدعو ربه: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام).
ولا يقولنّ رجلٌ: إني لأستسخف عقولَ أولئك الذين يجثون عند أصنام التماثيل، ثم يدّعي لنفسه أنها في مأمن من عبادة الأصنام! فإن الأصنام المقصودة هي كل وثنٍ عُبد من دون الله، لا تنحصر صورتها في تماثيلِ الحجارة، والجمادات.
وعبادة الوثن لا تقتصر على التوجه إليه بالسجود أو الركوع، بل هي شاملة لكل فعل من أفعال العبودية القلبية والعملية من خوف ورجاء، ومحبة واستغاثة، وتوكل وصلاة، بل وتدخل في ذلك أعمال التشريع، بأن يُقصى شرعُ الله ويُقدَّم عليه شرعُ غيره رغبةً فيه وتفضيلاً، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) فقال ـ وكان نصرانياً ـ فقال: "يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا؟" قال: "بلى، أليس يحلون لكم ما حرم الله عليكم فتحلونه، ويحرمون عليكم ما أحل لكم فتحرمونه؟" فقلت: بلى. فقال: "تلك عبادتهم".
وقال بعضُ السلف في قوله جل جلاله :(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال: أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم، فكانت تلك ربوبيتهم.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا أَحَلُّوا شَيْئًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ، أوَ حَرَّمُوا شَيْئًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ - فَإِنَّهُمْ يَزْدَادُونَ كُفْرًا جَدِيدًا بِذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَيدل لذَلِكَ قولُه- تَعَالَى -: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زُين لهم سوء أعمالهم وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
وحين قال جل جلاله: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألاّ تعبدوا الشيطان) كان المقصود هو طاعته المطلقة في معصية الله، وسلوكُ سبيله المتجانفِ عن الصراط المستقيم، لا أنهم قصدوه بالعبادة؛ فكثير من المشركين يعبدون الشيطان وهم لم يتوجهوا له بعبادة، ولم يصرفوا إليه وجهاً من وجوه القربات؛ ولكنهم لما استبدلوا سبيلَه بسبيل الله، وقدموا طاعته على طاعة الله، كانت تلك عبادةً له من دون الله.
وليعلم كل موحد أن للشرك مساربَ دقيقةً وخفية توجب الحذر، وتمنع العجب بالعمل؛ ولذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته، فقال مخاطباً أصحابَه -خيرَ أمته رضوانُ الله عليهم-: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا: وما هو يا رسول الله، فقال: "الرياء"، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "الشرك في أمتي أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصفاة السوداء"، فقال أبو بكر رضي الله عنه : "فكيف الخلاص منه يا رسول الله"؟ فقال: "أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلمُ، وأستغفرك لِما لا أعلم" أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح.
أيها الموحدون: قد يجد الرجلُ من نفسه بُعداً ونفرةً وحصانةً من بعض مظاهر الشرك العملية؛ كالسجود أو الذبحِ أو الدعاء لغير الله، فيظن نفسَه في مأمنٍ من صور الشرك كلها، وهذا غفلةٌ أو اغترار لا يُفضي إلى خير.
وإذا كان الشركُ يقع بالفعل، فإن منه ما يقع بالقول، ومنه ما يقع بمجرد الاعتقادِ المستكنّ في القلب، وهذه حقيقةٌ تعطفُ بأبصارنا إلى مسارب خفية يتسلل بها الشركُ إلى القلب، يستحقرها بعض الناس وهي عند الله أشد الموبقات.
نعم! إن القلب ليعتصرك حسرةً وألماً وأنت ترى مظاهرَ الشرك ضاربةً بأطنابها في كثيرٍ من بلاد المسلمين، من استغاثةٍ بالموتى وطوافٍ بالقبور وذبحٍ للنذور عندها، ومن غلوٍ في جَنابِ النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بعضِ أصحابه بأعمال تنافي العقل فضلاً عن الشرع.
وكل هذه الشركيات من أعظم المنكرات التي توجب الصدع بإنكارها وتحذيرَ الناس منها، وتوعيتَهم بأنها أعمال تضر أكثر مما تنفع وتستنزف المال والجهد في غير طائل.
ومن المقطوع به: أن هذه الشركيات ما انتشرت وعمت بها البلوى إلا بضعف أهل الحق عن قول الحق في تلك البلاد، وبحماية السادةِ والكبراء لها، ففيها مورد من موارد رزقهم، وبكثرة الجهل الذي جعل العامة يحسبون تعظيم الأولياء والصالحين فوق قدرهم ديناً يتقربون إلى لله به، وما يزيدهم عنه إلا بُعداً.
على أن انتشار تلك الشركيات محسوب من تسلط أهل الشر والفساد، وما تسلطوا إلا بتخاذل أهل الحق وخورهم وتركهم لجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ).
ولذا فمن شاء أن يُعظِم الإنكار على هذه الشركيات فليجعل في قلبه تعظيماً لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا يكون ممن يصدون عن هذه الشعيرة، ويخذِّلون عنها وهو لا يشعر.
بارك الله......
الخطبة الثانية
أما بعد: فإن خُلوَّ بلدِنا من مظاهر تلك الشركيات المنتشرة في الأرجاء نعمة تستحق شكراً، وبركةً تستحق دعوةً لمن سعى في تطهير البلدِ منها، وتلك بركة من بركات الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأجزل مثوبته.
على أن طول العهد وتباعد الزمان قد يرد الأجيال المتباعدة إلى ما قد نُهي عنه الآباء، وطول الأمد مظنةٌ لقسوة القلب وتبدل الحال واسترخاء العزيمة، مما يتطلب تحذيرات متعاقبة، وتوعيةً تتضمن إيضاحاً لحقيقة العبودية لله رضي الله عنه وإلفاتاً إلى مظاهر أخرى للشرك غيرِ المعهودة في أذهان الناس؛ حتى يدركوا أن مظاهر الشرك لا تنحصر فيما تقدم من طوافٍ بالقبور واستغاثةٍ بأصحابها وذبح ونذر لها.
وحتى يعلموا أن السلامة منها لا يعني لزاماً السلامةَ من مظاهر الشرك كلها؛ فإن من الشرك صوراً أخرى يجب أن تُحذَر كذلك؛ كالتطير، وتعليق التمائم، وتصديق الكهنة والعرافين، وإتيانِ السحرة ومطاوعتهم على ما يريدون، واعتقادِ أن في الخلق من يعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. أو أن يرجو أحداً أكثر مما يرجوه من الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو أن يكونَ لمخلوقٍ أشدَّ خوفاً من الله؛ كأن يخاف السحرةَ والجن فيما لا يستطيعه أحدٌ من الخلق، وتفضيل القوانين على شرع الله...إلى غير ذلك من مسارب الشرك المستترة في أعمال القلوب.
وعلى كل مسلم أن يتفقد نفسه وبيته ورعيته أن يكون قد ابتُلي بشيء من هذه العظائم.
اللهم آت نفوسنا ..
التعليقات