عناصر الخطبة
1/ أحكام مخالطة الناس وعزلتهم والتوازن فيها 2/ أحكام حسن الظن وسوء الظن وكيفية التوازن فيهاهداف الخطبة
اقتباس
تناولنا من قبل ضمن الحديث عن التوازن في حياة المسلم مشاعر الحب والبغض والإنفاق والإمساك، وبينَّا كيف يكون الإنسان متزنًا في حبه وفي بغضه، وكذلك في إنفاقه وفي إمساكه عن الإنفاق. ثم وصلنا إلى سلوك الخلطة والعزلة، وبينَّا أن الناس في هذا السلوك يتفاوتون في مدى قابليتهم للخلطة والاجتماع ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تناولنا من قبل ضمن الحديث عن التوازن في حياة المسلم مشاعر الحب والبغض والإنفاق والإمساك، وبينَّا كيف يكون الإنسان متزنًا في حبه وفي بغضه، وكذلك في إنفاقه وفي إمساكه عن الإنفاق.
ثم وصلنا إلى سلوك الخلطة والعزلة، وبينَّا أن الناس في هذا السلوك يتفاوتون في مدى قابليتهم للخلطة والاجتماع، أو الخلطة والاعتزال، وذكرنا أمثلة للأسباب المؤثرة في هذين السلوكين.
والاختلاط بالناس -يا إخوة- إما أن يفضي إلى خير أو إلى شر، ومن الشر ضياع الوقت، يعني ألا يفضي بشيء أبداً وهو شر؛ لأنه وقت المسلم أعظم شيء عنده.
وتأملوا قوله -تعالى-: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
قال بعض المفسرين: "أي لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون"، فنفى الخيرية عن أكثر اجتماعات الناس وما يدور فيها من نجوى، واستثنى الأمر الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس.
وحتى إذا غشي الخلطة شيء من اللهو والمرح والأنس بين فترة وأخرى فلا بأس في ذلك إذا قُصد به ترويح النفس؛ كي يستأنف الإنسان عمله الجاد بنشاط.
الحاصل أنه إذا كان في الخلطة شيء من هذه المنافع فالحمد لله، أما إذا كان من تبعات تلك الخلطة الإثم والعدوان والغيبة والنميمة والمنكر والباطل، فالإنسان نحوها بين طريقين:
الأولى: أن يغشو تلك النوع من المجالس من أجل إصلاحها والقيام بالنصح والدعوة إلى الله والصبر على ذلك.
والثانية: ألا يقدر على الإصلاح فالواجب أن يعتزل ذلك المجلس إلى مجلس خير منه، وينجو بنفسه من الفتن؛ لئلا يكون قد جلس مع قوم فكسب إثمهم لسكوته وعدم إنكاره.
ولذلك فضل الدعاة على غيرهم في الحديث المشهور: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" [أخرجه الإمام أحمد].
فهذا يخالطهم من أجل الإصلاح فنفعه متعدٍّ بخلاف الذي لا يقدر على ذلك فيعتزل.
المقصود أن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
إن هذه الخلطة ينبغي أن تكون إما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو أن تكون في مشاهد الخير لا من مجالس اللغو، كما قال الإمام النووي: "مثل حضور جمعهم وجماعاتهم ومجلس الذكر معهم، وعيادة مريضهم، وحضور جنائزهم ومواساة محتاجهم وإرشاد جاهلهم، وغير ذلك من مصالحهم، وهذا ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- وكذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم علماء المسلمين وخيارهم".
هكذا يكون المسلم متوازنًا في اختلاطه في الناس وعزلته عنهم، أما الزوجة والأولاد فينبغي أن يكون لهم نصيب وافر بل النصيب الأوفر من المخالطة، فكثير من الأزواج اليوم أكثر وقتهم يمضونه مع الأصحاب في الاستراحات والمجالس، وبعضهم يمضي وقته كله أو يقرب من ذلك في متابعة ماله وأعماله، ولا يجد لزوجته وأولاده سوى نادر الأوقات، فهذا ليس من العدل ولا من الإنصاف.
فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- رغم تحمله قيادة الأمة كلها؛ الإمامة والتعليم والقضاء والتشريع وقيادة الجيوش، ومع ذلك تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- كما صح في سنن ابن داود "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، امْرَأَةً امْرَأَةً، فَيَدْنُو وَيَلْمِسُ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيتَ عِنْدَهَا".
هكذا كانت خلطة النبي -صلى الله عليه وسلم- قائد الأمة ونبيها والمسئول عن كل شؤونها؛ هكذا كانت خلطته لزوجتاه يخالطهن بشكل شبه يومي، يزور كل امرأة من نساءه في بيتها، ويمكث عندها قليلاً يسأل عن حالها يؤانسها دون أن يعاشرها ثم ينتقل إلى الأخرى، وهكذا حتى يستقر عند التي هي ليلتها، وكن تسع نسوة.
وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، جاء ذلك في السنن من حديث ابن عباس.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس مع أصحابه ويخالطهم وكان يعلم الناس ولكن هذا لا يشغله عن أن يعطي لأهله الوقت المناسب ولا ينساهم.
إذاً ينبغي أن يكون الإنسان متوازنًا في سلوك الخلطة والعزلة، وأن يحرص فيهما على أن ينتفع بوقته فيما يقيم به دينه ودنياه، وأن يؤتي كل ذي حق حقه.
معاشر الإخوة: حسن الظن والريبة ولنقل بدلاً عن ذلك سوء الظن كيف يكون الإنسان متوازنا فيه.
أولاً: ينبغي للمسلم ألا يلتفت كثيرًا إلى أفعال الناس يراقب هذا ويتابع ذاك، ويفتش عن أمر هذا لا يهدأ، لا بل الواجب عليه أن يُقبل على نفسه فيصلح شأنها، ويقوِّم خطأها، ويرتقي بها إلى مراتب الآداب والأخلاق العالية؛ فإنه إذا شغل نفسه بتهذيب نفسه إصلاحها لم يجد وقتًا ولا فكرًا يشغله في الناس وظن السوء بهم.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:12].
ولقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تتبع أمور الناس وعوراتهم؛ ففي صحيح أبو داود من حديث أبي برزة الأسلمي قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته".
وثانيًا: سوء الظن بالظن أربعة أقسام: سوء ظن محرم، وآخر جائز، وآخر مستحب، وآخر واجب، فسوء الظن المحرم هو كل سوء ظن ليس عليه دليل صحيح معتبر شرعًا يسيء الظن بلا دليل معتبر فيصدقه صاحبه أي يصدق ذلك الظن ويستمر عليه ويتكلم به.
فالمؤمن صحيح الإيمان الأصل فيه السلامة ما لم يظهر منه أو عليه ما يدل على خلاف ذلك ظهورًا واضحًا بينًا جليًّا، من اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالمعاصي فهذا لا يحسن الظن به.
أما المسلم الذي لم يظهر عليه شيء من تلك المظاهر، بل على العكس فيحرم أن يظن به ظن السوء حتى لو جاء خبر يخالف حاله.
ولذلك قال -سبحانه-: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) [النور:12]، قال أهل العلم في تفسير الآية: "فيه دلالة على أن الاشتراك في الإيمان يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه وأخته في الدين ولا مؤمنة على أخيها وأختها في الدين قول عائب ولا طاعن.
وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام، فإذا نسب سوء إلى عرف بالخير ظن أن ذلك إفك وبهتان حتى يتضح البرهان".
يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "يحرم سوء الظن بمسلم"، قال: "وأما من عُرف بالفسوق والفجور فلا حرج أن نسيء الظن به لأنه أهل لذلك، ومع هذا لا ينبغي للإنسان أن يتبع عورات الناس ويبحث عنها".
قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:94].
قال المفسرون: "فهذا دليل على أن من ظهرت عليه شعائر الإسلام أنه من المسلمين له ما لهم من حفظ الحقوق وبراءة الذمة حتى يطرأ عليه ما يسلبه العصمة –يعني عرضه-، فإذا كانت الذي ظهرت عليه شعائر الإسلام محفوظ العرض فكيف بمن ظهرت عليه شعائر الصلاح والهداية".
ولذلك قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
ونحن في زمن كثر فيه النقل بلا توثيق ولا روية، أخبار بلا توثيق ولا روية، لاسيما في ما يسمى بالواتساب، فالبهتان الباطل الذي يحمل على إساءة الظن بالمعصوم عرضه يولد ويُصدق ويرعى وينمى لا بل يساهم في نقله عشرات بل مئات الآلاف من حيث يشعرون أو لا يشعرون أنهم يتناقلون البهتان.
ولذا يقول تعالى على هذه العجلة في الاستماع إلى الخبر الكاذب والبهتان العظيم دون تريث ولا تفكير مما يؤدي إلى سوء الظن لا محالة: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15].
ثالثًا: الظن المستحب وهو ما كان بين الإنسان وعدوه، قال أبو حاتم البستي في سوء الظن المستحب: "فهو كمن بينه وبينه عداوة أو شحناء في دين أو دنيا يخاف على نفسه مكروه فحينئذ يلزمه سوء الظن بمكائده، ومكره لئلا يصادفه على غره، بمكروه فيهلكه".
فكما أن على الإنسان أن يحسن الظن بمن هو جدير بحسن الظن، فكذلك عليه أن يحذر ويسيء الظن بأن يتوقع غدره أو أذاه.
قد نقل ابن عبد البر مقولة عمر بن الخطاب: "لستُ بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يَخدعُني" أي لست بالماكر المخادع، ولن يخدعني الماكر المخادع، ولذا كان المغيرة بن شعبة يقول: "ما رأيت أحداً أحزم من عمر، كان والله له فضل يمنعه أن يجزع، وعقل يمنعه أن يُخدع".
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبعد..
فسوء الظن الرابع: هو الواجب وهو ما احتيج إليه لتحقيق مصلحة شرعية كجرح الشهود ورواة الحديث.
معاشر الإخوة: ينبغي أن يكون المسلم عدلاً متزنًا في ظنه؛ لا تجره العاطفة يمينًا فيظن الخير فيمن يحبه، ولو كان ظالمًا لغيره، ولا ثورة الغضب شمالاً فيظن السوء فيمن كره فيه شيئًا ما ولو كان مستقيمًا صالحًا، بل يكون قائمًا بالقسط في ذلك، ولذلك كان لأهل الورع وطهارة الظن واللسان مقامهم عند الله تعالى.
جاء في صحيح البخاري من حديث الإفك الذي اتُّهمت فيه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قولها في أم المؤمنين زينب -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل زينب بن جحش عن أمري، فماذا قالت زينب؟ فقال لزينب: "ماذا علمت؟ أو رأيت؟ -يعني من عائشة- فقالت يا رسول الله: "أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عنها إلا خيراً". قالت عائشة: "وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعصمها الله بالورع".
لا عاطفة تذهب بك يمينًا، ولا ثورة غضب تذهب بك شمالاً، وإنما تكون عدلاً مقسطًا في ظنك بالناس.
أسأل الله تعالى كما حسَّن خَلقنا أن يُحسن أخلاقنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
التعليقات