التهيئة والإعداد من أهم أسباب الفلاح

إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني

2024-07-25 - 1446/01/19
عناصر الخطبة
1/التطلُّع للكمال في شتى شؤون الحياة 2/من الأسباب المعينة للرقي في سُلَّم الكمال 3/حسن التهيئة والإعداد للعمل والعبادة 4/دورس مستفادة من نجاح الدعوة النبوية 5/ تهيئة وإعداد نبينا لقيادة الأمة 6/التهيئة للعبادة والاستعداد لها قبلها 7/ أهمية الإعداد والتهيئة للعمل في النظام الكوني والشرعي.

اقتباس

لما حسُنت تهيئة إعداد نبينا -بعد توفيق الله- لقيادة الأمة؛ انتصر دينه إلى قيام الساعة، وربَّى جيلاً فريدًا لقيادة الأمة للنصر، فهيَّأ صحابته وشوَّقهم للجنة، فأقدم الصحابة الكرام على العمل للدين، وكأنما يرقبون الثواب، ويرَونه بأعينهم، وتُحِسُّه جوارحهم....

الخُطْبَة الأُولَى:

 

 الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، وأرانا في خَلْقِهِ وأمره شيئًا من عظمته، وأرانا في آياته ما يدل على وحدانيته، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السراج المنير، والبشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنُّهَى، وعلى من تبِعهم بإحسان إلى يوم الملتقى.

 

أما بعد: فالتقوى جماع الخير كله؛ لذا تكرَّر في القرآن والسُّنَّةِ الأمرَ بها؛ فهي سبيل الرشاد والفلاح في الدنيا والآخرة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].

 

جُبِلتِ النفوس على التطلُّع للكمال في شتى شؤون الحياة؛ ولذا كلما عَلَتْ قدوتك، سَمَتْ أهدافك؛ ولذا تفضَّل الله علينا أن جَعَلَ رسوله محمدًا قدوتنا، حتى نظل سائرين في حياتنا في تقدم ورقيٍّ.

 

ومن أعظم الأسباب المعينة للرقي في سُلَّمِ الكمال: حسنُ التهيئة والإعداد للعمل والعبادة، فكلما حسنت التهيئة والإعداد، حسنت النتيجة، والعكس بالعكس، ولو تأملت أعظم نجاح في التاريخ على مستوى البشرية، تجده نجاح الدعوة المحمدية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام-، ولا عجب ولا غرابة، فمن كان الله مولاه، كان النجاح والتوفيق ملازمًا له في شتى مجالات الحياة.

 

تعال معي نقلِّب صفحات التاريخ، لنجد أن مولانا -سبحانه- حين أراد مبعث النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، هيَّأ مهبِطَ الوحي ومبدأ الرسالة؛ مكةَ، لهذا الحدث الجَلَلِ، وصدَّ عنها أبرهة وحبس الفيل بالطير الأبابيل، فزادت هيبة البيت في النفوس؛ قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)[الفيل: 1]، وهي السنة التي وُلِد فيها النبي عليه الصلاة والسلام.

 

نبيك -صلى الله عليه وسلم- قبل مبعثه وبعده كان صادقًا ذا خُلق نبيل وعظيم، ولو كان كاذبًا، لكان هذا أول مبررات تكذيبه، فتأمَّل هذا.

 

روى البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "لما نزل قوله -تعالى-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214]، صعِد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصفا فجعل ينادي حتى اجتمعوا فقال: "لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغِير عليكم، أكنتم مصدقيَّ؟"، قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا، قال: "فإني نذير لكم بين يَدَيْ عذاب شديد"، فيا عجبًا أيُعقَل أن الرسول الذي لا يكذب على البشر يكذب على رب البشر؟

 

بل لم تكن التهيئة لأهل الأرض فحسب، بل حتى لأهل السماء؛ حيث حُرِست السماء بالشُّهُب، كي لا يستطيع الجنُّ سماع خبر السماء، فيختلط الحق بالباطل، وهو إيذان بتغيُّر حال إلى حال، وحكى الله استغرابهم؛ قال -تعالى-: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا)[الجن: 8، 9].

 

نبيك -عليه السلام- حُبِّب له التحنُّث الليالي ذوات العدد في غار حراء؛ تهيئةً واستعدادًا للوحي.

 

نبيك قبل مبعثه سلَّم عليه الحَجَرُ؛ روى جابر بن سمرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأعرف حجرًا كان يُسلِّم عليَّ قبل أن أُبْعَث".

 

ولما نزل الوحي على النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، جاء فَزِعًا لزوجه خديجة -رضي الله عنها-؛ وقال: "زمِّلوني زملوني"، فلما هدأ رَوْعُه، أخذته لابن عم لها اسمه ورقة بن نوفل، وكان عنده عِلْم من الكتاب، فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- الخبر، قال له ورقة: "هذا الناموس الذي أُنزِل على موسى".

 

ثم تأمل كيف هيَّأ ورقةُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- للمرحلة القادمة، قال: "يا ليتني كنت جذعًا إذا يخرجك قومك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- مستغربًا: أو مخرجيَّ هم؟ فقال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئتَ به إلا عُودِيَ"؛ ولذا لما حسنت تهيئة إعداد نبينا -بعد توفيق الله- لقيادة الأمة، انتصر دينه إلى قيام الساعة، وربَّى جيلاً فريدًا لقيادة الأمة للنصر، فهيَّأ صحابته وشوَّقهم للجنة، فأقدم الصحابة الكرام على العمل للدين، وكأنما يرقبون الثواب، ويرَونه بأعينهم، وتُحِسُّه جوارحهم، أولَمْ يقل أنس بن النضر مخاطبًا سعد بن معاذ: "الجنةَ ورب النضر، إني أجد ريحها دون أُحُدٍ".

 

في القرآن العظيم هيَّأ الله أهل بدر للنصر، قبل أن يبلغوه؛ قال -تعالى-: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ)[الأنفال: 7]، فلمَّا ذهبت القافلة، بقِيَ النصر، فكان الفرقان الذي فرَّق الله بين الحق والباطل.

 

عبد الله: حُسْنُ الإعداد والتهيئة للأخبار السارة والمفرحة، أو الأخبار المحزنة، دالّ على كمال العقل ورجاحته؛ فيوسف -عليه الصلاة والسلام- لما أراد لقاء والده أمر بذهاب قميصه تمهيدًا وتهيئة للقائه؛ قال الله -تعالى-: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ)[يوسف: 93، 94].

 

وفي التشريع المطهَّر نجد أغلبه شرع في العهد المدني؛ وذلك لأن النفوس قد تهيَّأت لاستقبال الدين وتعاليمه في العهد المكي، فتأمل هذا.

 

عبد الله: قلِّب معي كُتُبَ الفقهاء والأئمة في تراثنا العظيم، تجدهم كتبوا آداب المشي إلى الصلاة، وانظر إلى الأوامر التي أمر بها الشرع قبل الصلاة، وكيف مهَّد لها حتى تُقامَ خيرَ قيام.

 

فلقد شرع الله لها الأذان إيذانًا وإعلامًا بدخول وقتها، واستحب لسامع الأذان أن يقول ما يقول المؤذن إلا في الحيعلة، فإنه يُحَوقِل؛ كما روى الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سمعتم المؤذِّن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله بها عشرًا، ثم سَلُوا لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، ومن سأل الله لي الوسيلة، حلَّت له شفاعتي".

 

ثم أنت -أيها المسلم- مأمور بعد ذلك بإسباغ الوضوء وإحسانه، ثم قَول: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من فعل ذلك فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء"؛ كما روى الإمام مسلم من حديث عمر -رضي الله عنه-.

 

ثم هو مأمور بلبس أحسن اللباس؛ قال -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31].

 

ومن خرج متوضِّئًا محسنًا لوضوئه، ثم خرج لم يخرجه إلا الصلاة، كتب له آثار أقدامه، وصلت عليه الملائكة: اللهم اغفر له وارحمه، ما دام في مُصلَّاه؛ كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة.

 

كل هذه التشريعات حتى تُقام الصلاة كما أراد الله، فكلّ نقص في التهيئة والإعداد، ينقص بمقداره العمل وحُسْنِه.

 

وفي المحرمات التي اعتادها الناس، كان تحريمها تدريجيًّا؛ كالخمر مثلاً.

 

أيها المؤمنون: أمْعِنُوا النظر في الشريعة التي نقيمها الآن، وهي صلاة الجمعة، وقارن فعلك اليوم وصارح نفسك، ولا تجاملها: ما أثر الجمعة على نفسك وصلاتك؟ ثم ابحث عن السبب، أتعلم أن الشرع المطهر حثَّ على حسن الاستعداد للجمعة؟ واستمع لحديث أوس بن أوس الثقفي -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يَلْغُ، كان له بكل خطوة عمل سنة؛ أجر صيامها وقيامها".

 

ما أعظم هذا الأجر! وما أعظم تفريطنا! والنتيجة العملية أن من يأتي للمسجد مبكرًا يخرج منه متأخرًا، ومن أتى متأخرًا يخرج مبكرًا.

 

وهكذا شعبان لرمضان، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- صام أكثره، والعشرون الأولى من رمضان تهيئة للعشر الأواخر وليلة القدر، بلغنا الله وإياكم رمضان، ورَزَقَنا فيه حسن الاستعداد والعمل، والعشر الأوائل من ذي الحجة ممهِّدة ليومَي عرفة والنَّحر، فتأمل ذلك.

 

والموفَّق من وفَّقه الله، رزقنا الله وإياكم التوفيق، وحسن الإعداد والعمل؛ قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].

 

 

الخطبة الثانية:

 

وبعد أن تقرر أهمية الإعداد والتهيئة للعمل في النظام الكوني والشرعي، فكذا سائر شؤون الحياة، بقِيَ أن نسأل سؤالاً مهمًّا: هل نحن نهتم بعبادتنا، ونُعِدُّ لها؟ إن كان الجواب: نعم، فاحمد الله، واسأله المزيد، وإن كان: لا، فما السبب؟

 

السبب -والعلم عند الله- يرجع إلى عدم الاهتمام اللائق بالعبادة، وتلك مصيبة عظمى؛ لأن أعظم المصائب -عياذًا بالله- المصيبة بالدين؛ واستمع لهذا الحديث الذي يرويه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "من كانت الآخرة هَمَّه، جعل الله غِناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتَتْهُ الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه، جعل الله فَقْرَه بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولن يأتيه من الدنيا إلا ما قُدِّر له".

 

وقال ربك -تبارك وتعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 77].

 

الدعاء...

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life