عناصر الخطبة
1/ أهمية التكافل والتراحم خصوصا عند الفتن والشدائد 2/ التنازل عن حظ النفس والمصالح الشخصية عند الأزمات 3/ قصص رائعة في تكافل المجتمع الإسلامي في عهد النبوة 4/ مأساة الشعب اليمني وبعض واجبات المسلم تجاه ذلكاهداف الخطبة
اقتباس
ليقوم كل واحدٍ منا بواجبه تجاه الآخرين من حوله، خاصة مثل هذه الأيام والشدائد والمحن، والحروب والصراعات، تعصف ببلادنا وبالمسلمين عصفاً، حتى رأينا انعدام الكثير من المواد الغذائية، والمشتقات النفطية، والمواصلات، وتوقفت الأعمال، ومصادر دخل الكثير من الأفراد والأسر، وارتفاع الأسعار. وهناك الكثير من الفقراء والمحتاجين والمساكين، ومن ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تفرد في أزليته بعز كبريائه، وتوحد في صمديته بدوام بقائه، ونور بمعرفته قلوب أوليائه، وطيب أسرار القاصدين بطيب ثنائه، وأسبغ على الكافة جزيل عطائه، وأمن خوف الخائفين بحسن رجائه، الحي العليم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في أرضه ولا سمائه، القدير لا شريك له في تدبيره وإنشائه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
يا رب:
أنا من أنا .. أنا في الوجود وديعة *** وغدا سأمضى عابرا في رحلتي
أنا ما مدت يدي لغيرك سائل *** فارحم بفضلك يا مهيمن ذلتي
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد، عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته، واقتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: لقد حرص الإسلام على بناء المجتمع المسلم البناء القوي والمنيع الذي يستطيع به أن يواجه الكوارث والأزمات، والفتن والتحديات في هذه الحياة.
ومن تتبع آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحياة المجتمع المسلم في القرون الأولى، يجد الكثير من النصوص الشرعية، والتوجيهات النبوية، والصور الرائعة، والممارسة العملية، التي تبين أهمية ذلك؛ من خلال الدعوة إلى التعاون والتكافل والتراحم والتعاطف، في كل وقت.
وأما عند نزول المصائب، وحلول الكوارث، وحدوث الفتن والشدائد،؛ فإن الأمر يكون أوجب، والأجر يكون أعظم، قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) [النساء:36].وقال -سبحانه وتعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71].
كما أن الفرد مأمور بإجادة أدائه الاجتماعي، بأن يكون وجوده فعالاً ومؤثراً في المجتمع الذي يعيش فيه، قال الله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" [البخاري: 467].
وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- حال أفراد المجتمع في تماسكهم وتكافلهم بصورة تمثيلية رائعة، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [مسلم:2586].
بل لا بد للمسلم في زمن المصائب والشدائد والفتن أن يتنازل عن حظوظ نفسه، ومصالحة الشخصية، من أجل مصلحة العامة، فالطمع والجشع، وحب الذات، يظهر في النفوس؛ لأنه لا يثبت على الأخلاق العظيمة في مختلف الظروف إلا العظماء، قال -صلى الله عليه وسلم-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة" [صححه الألباني في صحيح الجامع].
هذا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في عام الرمادة، وقد اشتد بالمسلمين الفقر والجوع، بسبب القحط، جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت، والزبيب، فجاءه تجار المدينة ، وقالوا له: تبيعنا ونزيدك الدرهم درهمين؟ فقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لهم: لقد بعتها بأكثر من هذا، فقالوا: نزيدك الدرهم بخمسة؟ فقال لهم عثمان -رضي الله عنه-: لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة، فقالوا له: فمن الذي زادك؟ وليس في المدينة تجار غيرنا؟ فقال لهم عثمان -رضي الله عنه-: لقد بعتها لله ولرسوله، فهي لفقراء المسلمين.
ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي، لكانت هذه الفرصة لا تعوض ليربح أموال طائلة، ولو كانت على حساب البطون الجوعى، والأجساد العارية، وآهات المرضى والجرحى والثكالى، وهموم أصحاب الحاجات!.
وقد وصف الله المجتمع المسلم، وهو في أحلك الظروف، وأشد الأوقات، عندما هاجر المسلمون إلى المدينة، وقد تركوا أموالهم وأعمالهم وتجارتهم، بسبب قريش وأعمالها العدائية ضدهم، لكنهم وجدوا الأنصار في المدينة أهل إيمان وتقوى، وحب للخير، فقد قسموا كل ما يمتلكون بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، في هذا الوقت العصيب من حياتهم، فخففوا العبء عنهم والشدة، فخلد الله ذكرهم، وشكر لهم ذلك العمل، فقال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9]
أيها المؤمنون.. عباد الله: ما أحوجنا إلى هذه المعاني السامية، وما أشد افتقارنا إلى التخلق بالرحمة والتعاطف والتكافل، وهذه القيم العظيمة التي تضمّد جراح المنكوبين، والتي تواسي المستضعفين المغلوبين، وتدخل السرور على المحزونين، وتعين المشردين والنازحين، بسبب الحروب والصراعات، والمشاكل والفتن، ولا سيما في هذا العصر، الذي تتعرض فيه كثير من بلاد المسلمين للشدائد والمحن، والذي تلاشت فيه الرحمة من أكثر الخلق، وقست فيه القلوب، فلا يسمع في هذا العصر لصرخات الأطفال، ولا لأنين الثكلى، ولا لحنين الشيوخ، ولا لكلمة الضعفاء، لا يسمع فيه إلا للغة القوة، ومنطق القدرة، ومبدأ المصلحة الشخصية، فأين نحن قول رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته، حتى يثبتها له أثبت الله -تعالى- قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل" [صحيح الجامع: 176].
وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- صورة من صور المجتمع المسلم، وهم في أحلك الظروف، وأشد الأوقات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا -أي: فني زادهم- فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ" [البخاري: 2354].
وأكد -صلى الله عليه وسلم- على علاقة المسلم بأخيه المسلم، فقال: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [البخاري:2310].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله" [صححه الشيخ شاكر في تخريج المسند:4880].
بل قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- قوم من مضر عراة ليس عليهم إلا كساء من صوف، وعليهم آثار الفاقة والحاجة، فتغير وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى من حالتهم، وكان أرحم بالناس من أنفسهم، فقام فصلى بالناس، ثم خطب بهم، فقال: "تصدق رجل من ديناره ، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة" فجاء، رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنه مذهبة -يشبه الذهب من الفرح-؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" [رواه مسلم].
فالمسلم لا يعيش لنفسه وحسب، بل لابد أن يتعدى نفعه، وخيره للآخرين، وفي وقت الشدائد والمحن والنكبات يكون الأمر أعظم، وفيه تظهر صورة المجتمع المسلم المتماسك والمتراحم والمتعاون، كما أمر الشرع بذلك، قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73]. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ما فسد من أحوالنا ...
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
عباد الله: ليقوم كل واحدٍ منا بواجبه تجاه الآخرين من حوله، خاصة مثل هذه الأيام والشدائد والمحن، والحروب والصراعات، تعصف ببلادنا وبالمسلمين عصفاً، حتى رأينا انعدام الكثير من المواد الغذائية، والمشتقات النفطية، والمواصلات، وتوقفت الأعمال، ومصادر دخل الكثير من الأفراد والأسر، وارتفاع الأسعار.
وهناك الكثير من الفقراء والمحتاجين والمساكين، ومن انقطعت بهم السبل والمشردين والنازحين من المدن والقرى، وهناك من لا مأوى لهم، وقد أنعم الله علينا من فضله، فلنجد على الآخرين من حولنا من فضل، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والعمل النافع خير تقدمه بين يدي الله ليوم القيامة، وإدخال السرور على الآخرين ليس له جزاء إلا الجنة، ودفع المصائب والفتن والكوارث، ومصارع السوء عن الفرد والأمة، لا يكون إلا بالتكافل والتراحم، والتعاطف والتسامح، وتقدير ظروف بعضنا البعض، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا، قالوا: تذكر، قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر، ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله -عز وجل-: تجوزوا عنه".
وفي رواية عند مسلم: "فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي" [مسلم:1560].
فأحسنوا العمل، وتراحموا فيما بينكم، وثقوا بالله، وتضرعوا بين يديه.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولها.
اللهم ادفع عنا كل بلاء، وجنبنا كل فتنة، وثبتنا على الحق حتى نلقاك.
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، ومن كل بلاء عافية، واحفظنا من شر الأشرار، وكيد الفجار، ومن شر طوارق الليل والنهار، يا رب العالمين.
هذا، وصلوا وسلموا على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
التعليقات