عناصر الخطبة
1/ أخطاء وبلايا في فهم التقوى 2/ كم أساء الناس فهمَ التقوى على حقيقتها! 3/ حقوق التقوى ومتطلباتها 4/ أخطار الانزواء عن الحياة بمشكلاتها ومنكراتها 5/ الدروشة معناها ومساوئهااهداف الخطبة
اقتباس
وإن من الدعوةِ للدروشة -والناس يعيشون هذه المعاناة- أن يأمر أحدهم الناس بالتقوى لكشف الغمة ورفع البلاء، ويحاولَ جاهداً إفهامهم أن معنى التقوى هو الانزواء عن الحياة بمشكلاتها ومنكراتها، إلى صومعة الذكر والتحنث، وتركُ الحياة للمجرمين يعيثون فيها فساداً ويعمهون في طغيانهم ..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، اتقوا الله حيثما كنتم، وكيفما كنتم، اتقوا الله في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي اليسر والعسر، فإن أصدق اللجوء إلى الله في تقواه على اختلاف الأحوال، وفي لزوم تقواه خير التوبة والإنابة، وكمالِ الاستعانة بالله والتوكل عليه، وما استعان بالله في شدته حقاً مَن فرّط في تقواه سبحانه.
وكيف يسأل المرءُ عونَ ربه وتوفيقه وهو في أمر تقواه معرض مفرِّط، والله يقول: (واتقوا الله ويعلمكم الله)، ووعد سبحانه ووعده لا يُخلف، فقال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب)، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا).
في تقوى الله سبحانه صلاح المعاش والمعاد، وقد أعظم الفرية على الله وعلى دينه من ظن أن تقوى الله ليس إلا تعبداً يصلح الآخرة فحسب.
يخطئ هذا ويخطئ معه من يظن أن الأمر بالتقوى والتذكير بها ينبغي ألا يتوجه إلا لمن وقع منه انحراف سلوكي، أو ابتُلي بسوء عشرة، أو ظهر منه تقصير في حق الله، ... هذا هو محل الأمر بالتقوى في نظر هؤلاء، وهذه هي الحدودُ التي يقف عندها جدوى الأمر بالتقوى.
يعجب هؤلاء ممن يذكر الناس بتقوى الله إذا وقعت بلادهم في أزمة اقتصادية، أو صحية، أو أمنية... ما شأن التقوى تُقحَمُ في الأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية... ؟!!
ثم يقولون - سادرين في عجبهم-: هذه الأزمات التي تحار لها عقول المختصين، وتتشابك فيها العقدُ المستعصية، وينوشها الغموضُ في بعض جوانبها: أفيكون حلّها في حمل الناس على تقوى الله؟!
وهل تقوى الله هو ذاك المصباحُ السحري الذي سيحُل تلك العقدَ المستعصية! وتلك الأزماتِ المعقدة؟
وهكذا يستكثرون على التقوى أن يكون لها أثرُها المجدي في فكّ أزمات الأمة.
ثم يتمثلون قول الشاعر الأول: يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ....
وما هذا إلا ضربٌ آخرُ من الجهل بحقائق الدين وتكليفاته، وما هذا إلا من خطأِ الفهمِ لحقيقة التقوى، ومن خطأ الفهم لمدلول التذكيرِ بالتقوى...
لم تكن حقيقةُ التقوى أن يَتركَ الناسُ مواجهةَ مشكلاتِ مجتمعهم؛ ليتحنثوا في مصليات بيوتهم يصلون لله ويستغفرونه... منتظرين أن تنحلَ مشكلاتهم بمحض القدر دون أن تباشرَ حلَّها أيدي البشر ...
لو اعتكف المسلمون في دورهم ومساجدهم يصلون ويستغفرون مُددَ أعمارهم ما انحلت لهم مشكلةٌ من مشكلات معاشهم؛ بل ربما عُوقبوا على جهلهم وفهمهم الخاطئ لسنن الله بأن زيد عليهم من البلاء والمشكلات جزاءَ تفريطهم في الأخذ بالأسباب، وجزاءَ تفريطِهم في الأخذ بالتقوى على عمومها وشمولها.
إن هديَ المرسلين الذي أُمرنا باقتدائه والسيرِ على نهجه يبرأ من هذا لو فعله الناس، ويملي عليهم في أول ما يُمليه أن يخرجوا من صوامعهم ومعتكفاتهم ليواجهوا بتقوى الله مشكلاتِ معاشهم.
إن هديَ المرسلين يقول لنا: إن سلاح التقوى ليس سلاحاً معلقاً في المساجد والصوامع ليتزين به المتعبد؛ ولكنه ذلك السلاح الذي يملأ به المرءُ قلبَه وجوانحه؛ ليستعين به على مواجهة الحياة، وليستعد به لما بعد الحياة.
لم تكن حقيقة التقوى أن يتوب الناس من فعل الفواحش وإضاعةِ الفرائض فحسب منتظرين أن ينكشف ما حل بهم من غلاء ووباء واختلال أمن وتسلط أعداء... التوبة من ذلك تحقيقٌ لبعض التقوى، ولذا فإن الاقتصار عليه تقصير في تحقيق التقوى.
لم يكن الأمر بالتقوى حيلةً يلوذ بها الناس؛ لتُسقط عنهم تبعاتِ مواجهةِ المشكلات والأزمات... أو حيلةً ليسوِّغوا عجزهم وكسلهم.
وكم أساء الناس فهمَ التقوى على حقيقتها... فأساءوا لها تطبيقاً وعملاً، وحقّروا من أمرِها وأثرِها في حل مشكلاتهم.
إن من مقتضيات التقوى أن يتسابق الناس في مجتمعاتهم إلى التعاون على البر والتقوى، وأن ينتهوا عن مظاهر التعاون على الإثم والعدوان.
من مقتضيات التقوى أن يُحيي الناسُ بينهم شعيرةَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... أمراً بكل معروف.... ونهياً عن كل منكر، وألا يقتصر أمرهم ونهيُهم على الصور النمطية المعروفة.
إن دعوة الناس إلى تقوى الله سبحانه وتذكيرَهم بوجوب ملازمتها تقتضي منهم أن يتقوا الله في ضعفائهم وفقرائهم ومظلوميهم.... فتقوى الله لا توجب عليهم أن يحافظوا على أركان الإسلام فحسب، ولا أن يكتفوا بالمحافظة على بعض فضائل الأخلاق دون بعض، ولا أن يلتزموا ببعض شعائر التدين الظاهرة مكتفين بها عن غيرها.
من تقوى الله سبحانه أن تأخذ الأمة على يد الظالم، وتأطرَه على الحق أطراً، فإن تخاذلوا عن ذلك فما اتقوا الله حق تقاته.
من تقوى الله أن يتداعى الناس في مجتمعهم لنصرة المظلومين ورد مظلمته إليه، وأن يعلنوا الإنكار على من ظلمهم وبخسهم حقوقهم، فإن هم جبنوا عن ذلك فما اتقوا الله حق تقاته....
من تقوى الله أن يحتسب الناس في مدافعة شرّ المسرفين المترفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولقد أمر نبي الله صالحٌ قومَه بتقوى الله، ثم أردف ذلك بما يفسر التقوى على عمومها؛ فقال: (فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون).
وكذلك كان أمرُ هودٍ عليه الصلاة والسلام مع قومه، كانت دعوته إياهم للتقوى مُحقِّقةً لشمولها وعمومها، فقد أمرهم بتقوى الله على العموم، ثم أعقبه ببعض الكبائر التي كانت ظاهرةً فيهم فقال: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين) ثم عاد إلى التذكير بتقوى الله فقال: (فاتقوا الله وأطيعون).
وأمرَ شعيبٌ قومه بتقوى الله، ثم أردف ذلك بما تقتضيه تقوى الله فقال: (فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
وسياق الآيات ينطق بالحق الذي يتعامى عنه بعضنا، ويجهله منا كثير، وهو أن تقوى الله تستوجب فيما تستوجبه مخافةَ الله في حقوق العباد، والاحتساب في مظاهر الظلم والاستعباد، والأخذَ بالأسباب المحققة للإصلاح والتغيير.
لم يكن خطابُ شعيب عليه الصلاة والسلام في هذه الآيات موجّهاً إلى المستضعفين من قومه، المغلوبين على أمرهم؛ ولكنه كان خطاباً موجّهاً في أول ما توجّه إلى علية القوم، إلى كُبرائهم، إلى مترفيهم، إلى وُجهائهم وأغنيائهم..(أوفوا الكيل، زِنوا بالقسطاس...لا تبخسوا....لا تعثوا...)
إن الدعوة إلى تقوى الله تعني بالضرورة محاربةَ الظلم بكل صوره، وإنصافَ المظلوم من الظالم، وردَّ حقِ الضعيف من القوي.
بارك الله ...
الخطبة الثانية
أما بعد: فيعاني الناس غلاءً في الأسعار، وزيادةً في البطالة، وكثرةَ السرقة والجرائمِ الأخلاقية، وظهورَ معالمِ الطبقية في المجتمع بتآكل الطبقة الوسطى، تلك الطبقة التي تعيش حياة الكفاف والتي يدل اتساعها على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع.
وإن من الدعوةِ للدروشة -والناس يعيشون هذه المعاناة- أن يأمر أحدهم الناس بالتقوى لكشف الغمة ورفع البلاء، ويحاولَ جاهداً إفهامهم أن معنى التقوى هو الانزواء عن الحياة بمشكلاتها ومنكراتها، إلى صومعة الذكر والتحنث، وتركُ الحياة للمجرمين يعيثون فيها فساداً ويعمهون في طغيانهم.
وإن من الدروشة أن يقال للشعب فيما يعانونه من شؤون معاشهم: ليس لك من الأمر شيء، وتجمل بالصبر يأتيك الفرَجُ، ودع الأمر لأهله يعالجونه بالحنكة والحكمة...
وكم في هذا القول من سوء الظن بالشعب؛ لأنه يرى كل تصرف شعبي لا بد وأن يكون متلبساً بالفوضى والتهور.
وكم في هذا القول من الاستخفاف بالشعب؛ لأنه لا يراهم إلا جماعةً من البسطاء الأميين، أو الحمقاء المغفلين.
وكم في هذا القول من سوء الفهم لأوامر الشريعة ومعانيها العظيمة؛ لأنه يريد بكلامه هذا أن يفهمهم أن تقوى الله هو أن تنزوي في صومعتك وتخالفَ السنن الكونية التي تنتظم أفعال التغيير والإصلاح.
إن للإصلاح وسائل وأعمالاً وأسباباً لا تتحقق إلا بالمبادرات الشعبية، ومن الإصلاح أعمال لا يناسب أن يقوم بها إلا أفراد الشعب، ولا بد أن يُشركوا في الأمور التي هي من صلب معاناتهم.
والحقيقة أن الذي يدعو الناس إلى هذا إنما يدعوهم في الحقيقة إلى خذلان ولي الأمر والانخزال عنه، وهو من قبيل الإضراب الجماعي عن محاولات الإصلاح الجادة التي تبنّاها ولي الأمر وحرص على تحقيقها.
فإذا لم يكن لولي الأمر شعب يساعده على تحقيق ما يرومه، فكيف يتأتى لحالهم إصلاح وصلاح؟!
التعليقات