عناصر الخطبة
1/وضوح الحق وبيانه وحتمية الصراع مع الباطل 2/تنوع وسائل أهل الباطل في صدهم عن سبيل الله 3/أول من مكر على الحق وزين الباطل إبليس لآدم عليه السلام 4/لكل عصر وسائله للصد عن الحق وفي عصرنا المكر أكبر والوسائل أوقع.

اقتباس

وَفِيْ كُلِّ زَمَنٍ، لِلأَعْدَاءِ غَزْوٌ لِلْعُقُوْل، وَفِيْ عَصْرٍ التَّقْنِيَةِ والإِعْلامِ المَفْتُوْحِ، تَضَاعَفَتْ جُهُوْدُ المُبْطِلِيْنَ في غَزْوِ العُقُوْلِ وإِفْسَادِ الفِطَرِ، وَتَدْنِيْسِ الأَفْكَارِ وَتَخْرِيْبِ الأَخْلاق، وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ أَنْ يُحَصِّنُوا عُقُوْلَهُم وعُقُولَ أَولادِهِم، وأَنْ يَصُونوا أَفكارَهُم...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا

 

أيها المسلمون: أَبانَ اللهُ الحقَّ وأَظْهَرَه، وأَقامَ الحُجةَ وجَلَّاها؛ (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)، أَرْسَلَ المرسلينَ مُبَشِرِينَ ومُنْذِرِين، وأَنزَلَ مَعَهُم الكِتَابَ بالحقِّ المُبِين، فَفَصَّلِ للعِبادِ ما شَرَعَهُ لَهم، وأَبانَ لَهم حدودَ ما افْتَرَضَهُ عليهم؛ (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

 

صراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا عِوَجَ فِيه، بَيِّنٌ ظاهِرٌ لا لَبسَ فيه، بِهِ نَجاةٌ لِمَنْ سَلَك، وبِهِ فَوزٌ لِمَنْ اسْتَقَام؛ فَافْتَرَقَ الناسُ فيهِ إِلى فَرِيْقَين، فَرِيْقٌ أَبْصَرَ الحقَّ فاسْتَجابَ، وفَرِيقٌ تَعامَى عَن الحقِّ فأَعرَضَ؛ (فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ).

 

والحقُّ والباطِلُ، في صِراعٍ دائِمٍ، ومُنازَلَةٍ أَبَدِيةٍ، صراعٌ يَتَولَى ويَشْتَد، ويَتَجددُ ويَمْتَد، تُحْشَدُ لَهُ حُشُودٌ، وتُجَيَّشُ له جُيُوشٌ، وتُحاكُ للحقِّ فيهِ المؤَامَرَات.

 

صِراعٌ لَه جُذُورٌ ممتدةٌ عَبْرَ الزَمَن، مُنذُ أَنْ أُمِرَ إِبْلِيسُ بالسجودِ لآدَمَ فَأَبى؛ (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ)، وَسَيَبْقَى هَذَا الصِّرَاعُ قَائِماً، ما بَقِيَتِ الحياةُ الدُّنيا، فَلا تَقارُبَ بَينَ الحقِّ والباطِلِ، ولا تَوافُقَ بِينَ الهدايةِ والضلال، كما لا تَقارُبَ بَين المشرقِ والمغربِ، وَكَمَا لا امْتِزاجَ بَينَ الليلِ والنهار؛ (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

 

أَهلُ الحقِّ على الحَقِّ لا يَبْرَحُون، يَرْفَعُونَ صُرُوحَهَ ويُعْلُونَ بُنْيانَه، ويُظْهِرُونَ مَعَالِمَهُ، ويُبَيِّنُونَ بُرْهانَه، وأَهلُ الباطِلِ فِيْ شِقَاقٍ بَعِيْد، َضَلُّوا عَن الصِّراطِ المُسْتَقِيْمِ وأَضَلُّوا، كَفَرُوْا بِاللهِ ويَصُدُّونَ الناسَ عن سَبِيْلِه، لَمْ يُسْلُكُوا سَبِيلَ الحقِّ، ولَمْ يَرْضَوا لسالِكٍ أَنْ يَسْتَقِيْم؛ (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).

 

صِراعٌ لا نِهايَةَ لَهُ دَونَ نِهايةِ الدُّنيا، تَكُوْنُ الغَلَبَةُ فيهِ يوماً لِفِئَةٍ، وَتَكونُ الغَلَبَةُ فيهِ يَوماً للأُخْرَى، في مُدَاوَلَةٍ قَدَّرَهَا اللهُ وَقَضَاهَا؛ (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).

 

تَنَوَّعَتْ وسَائِلُ أَهلِ الباطِلِ في صَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ، وتَعَدَّدَتْ طَرائِقُهُم، والعَاقِبَةُ في كُلِّ أَمْرٍ للتَّقْوى،

وَلَمَّا كَانَ الحقُّ أَقْوَى وأَقْوَمُ، أَقْوَى حُجَّةً وَأَقْوَمُ مَنْهَجَاً، وأَطْهَرُ فِطْرةً، وأَهْدَى سبيلا، عَمِدَ الأعداءُ إِلى غَزْوِ العُقُولِ وتَدْنِيْسِها، والتَلْبِيسِ عليها وتَضْلِيْلِها، عَمِدُوا إلى إغراءِ النُفُوسِ بالشَّهواتِ، وإِغراقِهِا بالشُّبُهات، لِتَتَحَلَّلَ العُقُولُ مِنْ الإِدْراك، ولِتَنْفِرَ الطِباعُ مِنْ الفِطَرْ، ولِتَتَمَرَّدَ النفوسُ عَنْ الأَوامِرِ الإلهية،

وأَوَلُ مَكْرٍ مَكَرَهُ الشيطانُ للإِنسانِ، مَكْرٌ بَيَنَهُ اللهُ لَنا في القُرآن، حين قال اللهُ لآدَم -عليه السلامُ-: (يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ)، (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا).

 

أَحَلَّ اللهُ لآدَمَ وزَوجَهُ كُلَّ نَعِيمٍ في الجَنَّة، أَحَلَّ لَهُما ما فيها مَن الخيراتِ والقُصُورِ والأَنهارِ، والروضاتِ والطُيورِ والثِمارْ، في مَقامٍ طَيِّبٍ وعَيْشٍ رَغِيْد، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ لَهما أَن شَجَرةً واحدةً مِن أَشجارِ الجَنةِ حَرامٌ عَليهم قِطافُها؛ (وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).

 

أُظْهِرَ الحقُّ لآدَمَ أَتَمَّ ظُهُور، وبُيِّنَ الأَمرُ لَه أَتَمَّ بَيان، فُصِّلَ لَه الحلالُ مِن الحرام، وُسِّعَتْ لَهُ دائِرَةُ الحَلالِ لِتَشْمَلَ كُلَّ نَعيمٍ في الجنةِ، وَحُصِرَتْ دائِرَةُ الحرامِ على شَجَرَةٍ واحِدَة، أُعْلِمَ آدَمُ أَنَّ الشيطانَ لَهُ عَدّوٌ، ثُمَّ حُذِّرَ مِنه.

 

فَأَنى لإِبليسَ بَعْدَ ذلكَ أَن يَتَمَكَّنَ مِنْ إِغواءِ آدَمَ؟! وأَنى لَهُ أَن يَتَوَصَلَ مِنه إِلى مُبْتَغاه، لكِنَّه -لَعَنَهُ الله- جَنَحَ إِلى خُطَّةٍ ماكِرَةٍ، غَزا فيها النفوسَ، وتَسَلَّلَ إِلى داخِلِها، خاطَبَ النفسَ بِما تَهوى، وأَغرَاها بِما تُحِبّْ، عَرَض عليها الحَرامَ بأَجْمَلِ صُورَةٍ، ودَعاها إِليه بأَعْظمِ إِغْراءَ؛ (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ)، سَمَّىَ الشَّجَرَةَ المُحَرَّمَةَ بِشَجَرَةِ الخُلْد، وأَنَّ الأَكلَ مِنها يُورِثُ مُلْكاً لا يَبْلَى.

 

فما زالَ يُوَسْوِسُ لآدَمَ، يُرْدِفُ شَهْوَةً بِشُبْهَةٍ، ويُعْقِبُ إِغراءً بآخَر، حَتَّى رَماهُ بِسَهْمٍ مِن الشُبُهاتِ أَلِيْم، شَكَّكَهُ بِوَعْدِ اللهِ لَه، وغَرَسَ في نَفسِ آدَمَ أَسوأَ الظُنونِ؛ (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) ثُمَّ خَتَمَ هَذه المَكِيدَةَ بأَغْلَظِ الأَيمانِ وأَفجَرِها؛ (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)؛ فَضَعُفَ آدَمُ -عليه السلامُ- أَمامَ هذه المؤَامَرَةِ، وتَراخَى عَزْمُه؛ (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ)، تُؤْتَى النفوسُ مَن غَزوٍ خَفِيٍّ، وذاكَ أعَظَمُ بابٍ أُتِيَتْ منهُ النفوسُ، شَيْطَانٌ رَجِيمٌ، و (شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)، (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

 

تُخْتَرَقُ عُقُولُ البَشِرِيةِ، بالمكْرِ والخَدِيْعَةِ والتَّضْلِيْلِ، فَتَنْقَلِبُ فيها موازِينُ الإدراكِ، وتَنْكَفِئُ فيها أَوعيةُ البَصِيْرَة، فَتَهِيمُ في أَودِيةِ الضلالِ لا تُفِيْق.

 

اختَرَقَ فِرْعَونُ عُقُولَ قَومِهِ، حِينَ أَغْرَقَهُمْ بالشُّبُهاتِ الواهِيةِ، والأَباطِيلِ المُضَلِّلَةِ، حَتَّى أَقَرَّوا لَه الوَحْدانِيَّةِ، وشَهِدَوا لَهُ بالرُّبُوبِيَّة، أَوهَمَهُم أَنَّ الحَقَّ لا يُؤْتاهُ مُسْتَضْعَف، وأَنَّ الرِّسالَةَ لا يَحْمِلُها فَقِير، وأَن تَمْكِيْنَهُ في الأَرْضِ دَليلٌ عَلَى صَوابِ مَنْهَجِه، وأَن ضَعْفَ مُوسى -عليه السلامُ- دليلٌ على كَذِبِ رِسالَتِه؛ (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)، أَباطِيلُ، لا قَتْ عُقولاً مُلِئَتْ ضلالاً فانْسَلَخَتْ.

 

وأَقْرَبُ العُقُولِ اخْتِراقاً، وأَقَلُها مَناعَةً، وأَوهَنُها حَصانَةٍ، مَنْ كانَتْ إِلى الهَوى مَيَّالَة، وعَنْ الهدايةِ مُعْرِضَة؛ (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن ،،

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ رَبّ العالمينَ، والعَاقِبَةُ للمتقينَ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَلِيُّ الصَّالحينَ، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً عبدُهُ وَرَسُوْلُهُ النبيُ الأمينُ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أَما بَعْدُ: فاتقوا الله -عبادَ اللهِ- لعلكم ترحمون.

 

عباد الله: والإسلامُ بأَحْكامِهِ وفَضَائِلِهِ وأَخْلَاقِهِ وتَعَالِيْمِهِ، دينٌ يَحْمِيِ النفوسَ مِن الجَهالَةِ، ويَقِيها مِن الانْحِراف، دِينُ حَقٍّ، تَهْتَدِيْ إِليْهِ النفوسُ ما لَمْ يُعْبَثْ بِفِطْرَتِها؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"(رواه البخاري ومسلم)، سَلَبُوا عَقْلَ الطِفْلِ فأَضَلاهُ عَن فِطْرَتِه؛ (وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ).

 

وَفِيْ كُلِّ زَمَنٍ، لِلأَعْدَاءِ غَزْوٌ لِلْعُقُوْل، وَفِيْ عَصْرٍ التَّقْنِيَةِ والإِعْلامِ المَفْتُوْحِ، تَضَاعَفَتْ جُهُوْدُ المُبْطِلِيْنَ في غَزْوِ العُقُوْلِ وإِفْسَادِ الفِطَرِ، وَتَدْنِيْسِ الأَفْكَارِ وَتَخْرِيْبِ الأَخْلاق، وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ أَنْ يُحَصِّنُوا عُقُوْلَهُم وعُقُولَ أَولادِهِم، وأَنْ يَصُونوا أَفكارَهُم، وأَن يَتَفَقَّهُوا في دِيْنِهم، وأَن يَغْرِسُوا في النفوسِ أَركانَ الإِيمانِ، وأَن يُقِيموا فيها صُروحاً للتَقْوى، فَمَا سُلِبَ عَقْلٌ إِلا هَلَك، ولا اسْتُبِيح عَقْلٌ إِلا ارْتكَس، وبِكِتَابِ اللهِ للمرءِ مُعتَصَم، ولَهْ بِسُنةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هِدايَة.

 

مَنْ وَعَى اسْتَبْصَر، ومَنْ تَيَقَّظَ اتَّقَى، زَخارِفُ الوُعُودِ قَدْ تَجِني شَقاءً، وأَهواءُ النفوسِ أَعَتَى ما يَكُونُ، مُؤامَراتُ المفْسِدِينَ، تسْتَهِدفُ العقيدَةِ والفضيلةَ والأَخلاقَ.

 

فَتَيَقَّظْ إِنْ أَرَدْتَ سلامةً، فَما كُلُّ َمَوْضَةٍ حَضارَة، ولا كُلُّ انْفِلاتٍ حُرِّيَة، ولا كُلُّ فَلْسَفَةٍ ثَقافَة، ولا كُلُّ شَهْوَةٍ مُتْعَة، ولا كُلُّ دَعَوىً لَها حَقِيْقَة، تُسْلَبُ العُقُولُ، إِن لَمْ يَكُنْ لَها مَن الوَحيِّ دَليل، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ).

 

ولا يُعْذَرُ هالِكٌ، أَنْ أَعارَ عَقْلَهُ لِعَدُوِّهِ فَأَضَلَّه، وأَسْلَمَ القِيادَ لَهُ فأَقْصاه، جاءَتْهُ مِنْ رَبِه البَيِّناتُ فَتَجاهَل، ومَضَى يَرْتَعُ في الضلالةِ لا يُبالي.

 

لا يُعذَرْ هالِكٌ، أَعرَضَ عَن الوَحيِّ المُبِين، فاسْتَزَلَتْهُ إِلى أَهوائِها الشياطِين، مَنْ كانَ لَهُ عَقْلٌ وقَلْبٌ وإِدْرَاك، فالحجَةُ عليه قائِمَةٌ بدعوةِ المُرْسَلِين؛ فَلنْ يُغني يومَ القيامةِ قَويٌ عَنْ ضَعِيف، ولا غَنيٌ عَنْ فَقِيْر، ولا تابِعٌ عَنْ مَتْبُوع، يَكْفُرُ بَعضُهُم ببعضِ ويَلْعَنُ بعضُهم بعضاً؛ (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ).

 

اخْتَرَقُوْا عُقُوْلَهم في الدُّنْيَا فأَفسَدُوها، وزَيَّنوا لَهم أَسبابِ الغِوايَةِ وقَرَّبُوها، فلَما رَأَوا العذابَ لَمْ يُغْنوا عَنهم من اللهِ شيئاً؛ (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ).

 

اللهم ثَبتْ قلُوبنا، وأحسن خاتِمَتنا، وأغذنا من كل مفسد وفتان،

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life