اقتباس
الترف في القرآن الكريم
د. خالد بن محمد الشهري
ورد لفظ الترف في القرآن الكريم في ثمانية مواضع كلها على سبيل الذم[1] فأما ثلاثة مواضع فهي تبين أن من يقف في وجه دعوة الحق ويكذب المرسلين هم المترفون كما في المواضع التالية:
في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [سبأ: 34].
وقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].
وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [المؤمنون: 33].
وفي موضع واحد يبين عز وجل أن المترفين شغلهم ترفهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك في قوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116].
حيث بين أن هؤلاء المترفين أعرضوا عن إنكار المنكر وإصلاح مجتمعاتهم.
أما المواضع الأربعة الباقية فيقترن فيها العذاب والهلاك بالترف كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
وفي قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 12، 13].
وقوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 64، 65].
وفيها بيان حال المترفين حين نزول العذاب حين يركضون ويجأرون ولكن ولات حين مناص.
وقوله تعالى: ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ﴾.
وفي هذه الآيات بيان من الله تعالى لما يجري للمترفين من الكفار في الآخرة.
ما جاء في تفسير الآيات:
وفيما يلي أنقل تفسير الآيات من تفسير الحافظ ابن كثير و تفسير العلامة ابن سعدي رحمهما الله.
ثم أنقل عن زبدة التفسير ماجاء في تفسير (مفردة الترف) باختصار، وربما طال هذا الفصل شيئاً ولكن في ذلك فائدة لا تخفى، بل ربما كانت الفائدة المرجوة تكمن في هذا الفصل.
1- الآية الأولى قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 116، 117].
قال ابن كثير رحمه الله:
يقول تعالى فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، وقوله: (إلا قليلا) أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) وفي الحديث " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" ولهذا قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾ وقوله ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116] أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فاجأهم العذاب (وكانوا مجرمين) ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) وقال: ( وما ربك بظلام للعبيد).
وقال ابن سعدي رحمه الله:
"لما ذكر تعالى إهلاك الأمم المكذبة للرسل، وأن أكثرهم منحرفون عن أهل الكتب الإلهية وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب والاضمحلال، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية بقايا من أهل الخير يدعون إلى الهدى، وينهون عن الفساد والردى، فحصل من نفعهم،ما أبقيت به الأديان، ولكنهم قليلون جداً.
وغاية الأمر، أنهم نجوا بإتباعهم المرسلين، وقيامهم بما قاموا به من دينهم، ويكون حجة الله أجراها على أيديهم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بينة ولكن (اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) أي: اتبعوا ماهم فيه من النعيم والترف، ولم يبغوا به بدلاً.
(وكانوا مجرمين) أي: ظالمين، بإتباعهم ما أترفوا فيه، فلذلك حق عليهم العقاب، واستأصلهم العذاب. وفي هذا حث لهذه الأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون، لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى.
وفي هذه الحال، أعلى حالة يرغب فيها الراغبون، وصاحبها يكون إماماً في الدين، إذ جعل عمله خالصاً لرب العالمين ).
وفي زبدة التفسير عند قوله تعالى (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه).
قال: ( آثروا ذلك على الاشتغال بالأعمال الصالحة واستغرقوا أعمارهم بالشهوات).
2- الآية الثانية قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
قال ابن كثير رحمه الله: (اختلف القراء في قراءة قوله [أمرنا] فالمشهور قراءة التخفيف، واختلف المفسرون في معناها، فقيل: معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمراً قدرياً، كقوله تعالى: (أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً) فإن الله لايأمر بالفحشاء، قالوا: معناها أنه سخرهم إلى فعل الفواحش، فاستحقوا العذاب، وقيل: معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش، فاستحقوا العقوبة، رواه ابن جريج عن ابن عباس، وقاله سعيد بن جبير أيضاً، وقال ابن جرير: يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء، قلت إنما يجئ هذا على قراءة من قرأ (أمّرنا مترفيها) قال علي بن طلحة عن ابن عباس قوله: (أَمَّرنا مترفيها ففسقوا فيها) يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو قوله: ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ) الآية، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس.
وقال العوفي عن ابن عباس (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) يقول أكثرنا عددهم، وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة. وعن مالك عن الزهري (أمرنا مترفيها) أكثرنا، وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد، حيث قال: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا أبو نعيم العدوي عن مسلم بن بديل، عن إياس بن زهير، عن سويد بن هبيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خير مال امرئ له مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة" قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الغريب: " المأمورة كثيرة النسل، والسكة الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة من التأبير " وقال بعضهم: إنما جاء هذا متناسباً كقوله " مأزورات غير مأجورات " ).
وقال ابن سعدي رحمه الله: (يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة، ويستأصلها بالعذاب، أمر مترفيها، أمراً قدرياً، ففسقوا فيها، واشتد طغيانهم (فحق عليها القول) أي: كلمة العذاب التي لا مرد لها (فدمرناها تدميراً).
وفي زبدة التفسير قال (المترفين هم المنعمون الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش، وهم الجبارون المتسلطون والملوك الجائرون).
3-الآية الثالثة قال تعالى ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 10 - 15].
قال ابن كثير رحمه الله:
"يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم) قال ابن عباس: شرفكم . وقال مجاهد: حديثكم. وقال الحسن: دينكم، [ أفلا تعقلون] أي هذه النعمة، وتتلقونها بالقبول، كما قال تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون ). وقوله (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ) هذه صيغة تكثير، كما قال: ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح )وقال تعالى: (وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها) الآية.
وقوله (أنشأنا بعدها قوماً آخرين) أي أمة أخرى بعدهم (فلما أحسوا بأسنا) أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم (إذا هم منها يركضون) أي يفرون هاربين (لاتركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم) هذا تهكم بهم قدراً، أي قيل لهم قدراً لاتركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ماكنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة. قال قتادة استهزاء بهم، [لعلكم تسألون] أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعم، [قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين] اعترفوا بذنوبهم حين لاينفعهم ذلك، [فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين] أي ما زالت تلك المقالة،وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى حصدناهم حصداً، وخمدت حركاتهم وأصواتهم خموداً ).
وقال ابن سعدي رحمه الله: ( فقيل لهم على وجه التهكم بهم [لاتركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم به ومساكنكم لعلكم تسألون] أي: لايفيدكم الركض والندم، ولكن إن كان لكم اقتدار، فارجعوا إلى ما أترفتم فيه من اللذات والمشتهيات، ومساكنكم المزخرفات، ودنياكم التي غرتكم وألهتكم، حتى جاءكم أمر الله. فكونوا فيها متمكنين، وللذاتها جانين، وفي منازلكم مطمئنين معظمين، لعلكم أن تكونوا مقصودين في أموركم، كما كنتم سابقاً، مسئولين من مطالب الدنيا، كحالتكم الأولى، وهيهات، أين الوصول إلى هذا؟ وقد فات الوقت، وحل بهم العقاب والمقت، وذهب عنهم عزهم، وشرفهم ودنياهم، وحضرهم ندمهم وتحسرهم ؟).
وفي زبدة التفسير عند قوله تعالى: [ما أترفتم فيه] قال: أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم).
4- الآية الرابعة قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [المؤمنون: 33]
قال ابن سعدي رحمه الله عند قوله تعالى: ( وقال الملأ من قومه ... الآية ) (أي: قال الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة، وإنكار البعث والجزاء، وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا، معارضة لنبيهم، وتكذيباً، وتحذيراً منه: (ما هذا إلا بشر مثلكم) أي من جنسكم (يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ) فما الذي يفضله عليكم ؟ فهلا كان ملكاً، لا يأكل الطعام، ولايشرب الشراب).
وفي زبدة التفسير عند قوله (وأترفناهم ) قال: ( أي وسعنا لهم نعم الدنيا فبطروا).
5- الآية الخامسة قال تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 64، 65].
قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: ( حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون ) يعني حتى إذا جاء مترفيهم وهم المنعمون في الدنيا عذاب الله وبأسه ونقمته بهم (إذا هم يجئرون) أي يصرخون ويستغيثون كما قال تعالى (ذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً إن لدينا أنكالاً وجحيماً ) الآية، وقال تعالى: (وكم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص). وقوله (لا تجئروا اليوم إنكم منا لاتنصرون ) أي لايجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لامحيد ولا مناص، ولا وزر لزم الأمر ووجب العذاب، ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال: ( قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ) أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير).
وقال ابن سعدي رحمه الله:( حتى إذا أخذنا مترفيهم ) أي متنعميهم الذين ما اعتادوا إلا الترف، والرفاهية، والنعيم، ولم تحصل لهم المكاره، فإذا أخذناهم (بالعذاب) ووجدوا مسَّه ( إذا هم يجأرون) يصرخون، ويتوجعون، لأنه أصابهم أمر خالف ما هم عليه.
ويستغيثون فيقال لهم (لا تجأروا اليوم إنكم منا لاتنصرون)، وإذا لم تأتهم النصرة من الله، وانقطع عنهم الغوث من جانبه، لم يستطيعوا نصر أنفسهم، ولم ينصرهم أحد) .
وفي زبدة التفسير عند قوله (مترفيهم) قال: (المتنعمين منهم).
6- الآية السادسة قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 34 - 39].
قال ابن كثير رحمه الله: (..وقال جل وعلا ههنا: ( وما أرسلنا في قرية من نذير ) أي نبي أو رسول ( إلا قال مترفوها) وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة، قال قتادة: هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر (إنا بما أرسلتم به كافرون ) أي لانؤمن به ولا نتبعه.... إلى أن قال: ( وقال تبارك وتعالى إخباراً عن المترفين المكذبين: ( وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين) أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة وهيهات لهم ذلك قال الله تعالى: ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لايشعرون ) وقال تبارك وتعالى: ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) وقال عز وجل (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيداً سأرهقه صعوداً ) وقد أخبر الله عز وجل عن صاحب تينك الجنتين أنه كان ذا مال وثمر وولد، ثم لم يغن عنه شيئاً بل سلب ذلك كله في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا قال عز وجل ها هنا: ( قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يعطي المال لمن يحب ومن لايحب، فيفقر من يشاء ويغني من يشاء، وله الحكمة التامة البالغة والحجة القاطعة الدامغة (ولكن أكثر الناس لايعلمون).
ثم قال تعالى ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) أي ليست هذه دليلاً على محبتنا لكم ولا اعتنائنا بكم. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا كثير، حدثنا جعفر، حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى لاينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ورواه مسلم وابن ماجه من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن برقان به، ولهذا قال الله تعالى: ( إلا من أمن وعمل صالحاً) أي إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف (وهم في الغرفات آمنون) أي في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى ومن كل شر يحذر منه ..).
وعند قوله تعالى: ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) قال ابن سعدي رحمه الله: ( يخبر تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذبة للرسل، أنها كحال هؤلاء الحاضرين المكذبين لرسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله إذا أرسل رسولاً في قرية من القرى، كفر به مترفوها، وأبطرتهم نعمتهم، وفخروا بها).
وفي زبدة التفسير عند قوله تعالى: (مترفوها) قال ( أغنياؤها وجبابرتها قادة الشر).
7- الآية السابعة قال تعالى: ﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [الزخرف: 21 - 25].
قال ابن كثير رحمه الله: (... بين جل وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل، تشابهت قلوبهم فقالوا مثل مقالتهم (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون) وهكذا قال ها هنا: (وكذلك ماأرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ثم قال عز وجل: ( قل ) أي يا محمد لهؤلاء المشركين ( أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) أي ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به لما انقادوا لذلك لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله. قال الله تعالى: ( فانتقمنا منهم ) أي من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم (فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) أي كيف بادوا وهلكوا وكيف نجى الله المؤمنين).
وقال ابن سعدي عند قوله تعالى ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك من قرية من نذير إلا قال مترفوها ) أي: منعموها، وملؤها الذين أطغتهم الدنيا، وغرتهم الأموال، واستكبروا على الحق. (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) أي: فهؤلاء ليسوا ببدع منهم، وليسوا بأول من قال هذه المقالة.
وهذا الاحتجاج، من هؤلاء المشركين الضالين، بتقليدهم لآبائهم الضالين، ليس المقصود به اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض، يراد به نصرة ما معهم من الباطل).
وفي زبدة التفسير عند قوله (مترفوها) قال: (وخصص المترفين تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر وترك التفكر فيما احتوته الرسالة ).
8- الآية الثامنة قال تعالى: ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الواقعة: 41 - 50].
قال ابن كثير رحمه الله: ( لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) أي شيء هم فيه أصحاب الشمال؟ ثم فسر ذلك فقال: (في سموم) وهو الهواء الحار (وحميم) وهو الماء الحار (وظل من يحموم) قال ابن عباس: ظل الدخان، وكذا قال مجاهد وعكرمة وأبو صالح وقتادة والسدي وغيرهم، وهذه كقوله تعالى: ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لاظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين) ولهذا قال ها هنا: (وظل من يحموم) وهو الدخان الأسود (لا بارد ولا كريم) أي ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر كما قال الحسن وقتادة (ولاكريم) أي ولا كريم المنظر،، قال الضحاك: كل شراب ليس بعذب فليس بكريم.
وقال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة في النفي فيقولون: هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم، هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم . وهذه الدار ليست بنظيفة ولا كريمة، وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه، ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك فقال تعالى: ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين) أي كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لايلوون على ما جاءتهم به الرسل (وكانوا يصرون) أي يقيمون ولا ينوون توبة ( على الحنث العظيم) وهو الكفر بالله وجعل الأوثان والأنداد أرباباً من دون الله. قال ابن عباس الحنث العظيم: الشرك...).
وقال ابن سعدي رحمه الله: ( المراد بأصحاب الشمال هم أصحاب النار والأعمال المشئومة. فذكر الله لهم من العقاب، ماهم حقيقون به، فأخبر أنهم [ في سموم] أي ريح حارة من حر نار جهنم، تأخذ بأنفاسهم، وتقلقهم أشد القلق. [وحميم] أي ماء حار يقطع أمعاءهم. (وظل من يحموم) أي: لهب نار يختلط بدخان، ( لابارد ولاكريم) أي: لابرد فيه ولا كرم والمقصود أن هناك الهم والغم، والحزن والشر الذي لاخير فيه، لأن نفي الضد إثبات لضده.
ثم ذكر أعمالهم التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء فقال: ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين) أي: قد ألهتهم دنياهم، وعملوا لها، وتنعموا وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل، فهذا هو الترف الذي ذمهم الله عليه.
(وكانوا يصرون على الحنث العظيم) أي: وكانوا يفعلون الذنوب الكبار، ولا يتوبون منها، ولايندمون عليها، بل يصرون على ما يسخط مولاهم، فقدموا عليه بأوزار كثيرة، غير مغفـورة). أ هـ وفي الزبدة عند قوله: ( مترفين) قال: (أي منعمين بما لا يحل لهم).
[1] أفادها الشيخ سلطان العويد في محاضرة له بعنوان: الترف.
التعليقات