عناصر الخطبة
1/ أهمية قضية التربية والتعليم 2/ تألّق الحضارة الإسلامية 3/ ضرورة استثمار التقنية الحديثة 4/ التربية والتعليم من خصوصيات الأمم 5/ خطورة تجرّد التعليم من الإيمان 6/ وجوب مراعاة الفروق بين الجنسين 7/ تكامل عملية التربية والتعليم 8/ التحذير من الاضطراب والازدواجية 9/ وجوب صيانة العقائداهداف الخطبة
اقتباس
التربية والتعليم والمناهج الدراسية حقٌّ سياديٌّ وشأنٌ داخليّ لا ترضَى الدوَل بالتدخُّل فيه، ولا تسلِمُه الأمَم إلى غيرها، ومنه نُدرك أنّ استيرادَ التربية من أمَةٍ أخرى بكلّ عُجَرها وبُجَرها خطيئةٌ كبيرةٌ، وتبعيّةٌ خطيرة، تعني نشأةَ جيل مغيَّب عن تراثه وتاريخه، مقطوعِ الصلةِ بعقيدته ومبادئه، مسخًا بلا هويّة، يسهُل قياده واستعباده ..
أمّا بعد:
أيّها المسلمون: لئن تجاذَبتِ الهموم المصلحين، ونازعَت قضايا الأمّة اهتمامات الناصحين، وتلوَّنتِ الآمال في عيون الطامحين، فإنها تتَّفق في قضية كبرى وأطروحة جُلّى، تؤول أكثرُ الهموم إليها، وتنتهي الآمالُ إليها وعليها؛ تلك -أيها المسلمون- قضيّة التربية والتعليم.
التربيةُ والتعليم وظيفة الأنبياء والرّسل، وهي معيارُ حضارةِ الشعوب وسَبق الدول، أوّلُ ما صدَر للبشريّة هو التعليم: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) [البقرة: 31]، وأوّل معلّمٍ في هذه الأمّة هو محمّد –صلى الله عليه وسلم-، وأوّل مدرسةٍ في الإسلامِ كانت في ناحيةِ هذا المسجِد الحرام عند جبَل الصفا: مدرسة دار الأرقم، ومن ذلك المعلِّم، وفي تلك المدرسة، ومن أولئك التلاميذ، صَاغ العربُ نواةَ حضارتهم، وحينها فقَط سمِع العالمُ يومئذ بالعرَب، وأدخلوهم ضمنَ حساباتهم؛ إذ كانوا قبل ذلك على هامِش الأحداث وفي ساقة الأمَم، والتاريخ يعيد نفسَه، وما أشبهَ الليلة بالبارحة، ولن يَرفعَ شأنَ هذه الأمة ولن ينهَض بها إلاّ ما نهض بها في سابقها.
أيّها المسلمون: لا يخفى على عاقلٍ فضلُ العلم المقرون بالتربية الصالحة؛ فبه يعبد المسلم ربَّه على بصيرة، وبه يعامِل الناس بالحسنى، وبه يسعَى في مناكبِ الأرض يبتغِي عند الله الرزق، وبالعلم تُبنى الحضارات وتُبلغ الأمجاد ويحصلُ البناء والنماء، العلم يُجلِس صاحبَه مجالسَ الملوك، وإذا اقترن بالإيمان فتِلك رفعة الدنيا والآخرة: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11].
أما المعلِّمون والمعلمات فإنهم يجلِسون من كراسي التعليم على عروش ممالك رعاياها أولادُ المسلمين؛ فهم الذين يصوغون الفكرَ ويفتقون الأذهان، ويطلِقون اللسان ويربّون الجنان، حقُّهم الإعزاز والإكرام والإجلال وفائق الاحترام، حقهم أن يُنزَلوا منازلهم العالِية، ويُوَفَّوا حقوقَهم الكاملة، وأن يُعرَفَ قدرهم وتبقى هيبتهم.
أَعلِمتَ أشرفَ أو أجلّ من الذي *** يبني وينشئ أنفسًا وعقولاً؟!
والوصيّة لهم -بعدَ الوصيّة بالتقوى الصدقُ والإخلاص- أن يكونوا قدوةً صالحةً لمن يتأسّى بهم.
أيّها المعلمون: إنَّ أولاد المسلمين أمانةُ الله في أعناقكم، وودائعُ الأمّة بين أيديكم، إن المعلِّم لا يستطيع أن يربِّيَ تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان فاضِلاً، ولا يستطيع إصلاحَهم إلاَّ إذا كان في نفسه صالحًا؛ لأنهم يأخذون عنه بالقدوة أكثرَ مما يأخذون عنه بالتّلقين، وإنّ الناشِئَ الصغير مرهَف الحسِّ، قويّ الإدراك للمعايبِ والكمالات، فإن زيَّنتُم لهم الصدقَ فكونوا صادقين، وإن حسَّنتُم لهم الصبرَ فكونوا من الصابرين: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21].
إنَّ الاستثمار في الإنسان هو الاستثمارُ الناجحُ الباقي المسَلسَل أجرُه ومنفعتُه في الدنيا وبعد الممات، وفي الحديث الصحيح قال –صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..."، وذكر منها: "أو علم يُنتَفَع به". رواه مسلم.
وإذا كانت هذه منزلة المعلم العالية فإنّ العنايةَ باختيار المعلمين والمعلِّمات وانتقائهم والارتقاءِ بأدائهم وتطويرهم أمرٌ متحتِّمٌ لنجاح العمل التربوي، المعلِّم هو الركيزة الأساس، وعليه تدور رحى التعليم، لا بد من استقرارِه نفسيًّا وماديًّا وإكرامِه من عامّة المجتمع.
أيّها المسلمون، أيّها المربّون: إنّ خيرَ القلوبِ وأوعاها وأرجاها للخَير ما لم يسبِق إليه شرٌّ، وأولى ما عُنِي به النّاصحون ورَغِب في أجرِه الرّاغبون إيصالُ الخير إلى قلوبِ أولاد المسلمين؛ لكي يرسَخ فيها، وتنبيهُهم على حدود الشريعة ومعالم الديانة، وترويضُهم عليها، وهذه والله وظيفةُ الأنبياء، وقد أخبر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أنّ الله وملائكته وأهلَ السموات والأرض يصلّون على معلِّم الناس الخير. رواه الترمذي. فهنيئًا لمن أخلص نيّته وأصلح العمل.
عبادَ الله: لقد تألَّقت الحضارة الإسلاميّة قرونًا من الزمان؛ محتفِظةً بأصالتها ومبادئها، متفنِّنةً في علومها وتجاربها، والشريعةُ الإسلامية بكمالها وشمولها أمرَت بتعليم جميعِ العلوم النافعة؛ من العلمِ بالتوحيد وأصولِ الدين والعلومِ الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والحربيّة والتجريبيّة، وغيرها من العلوم التي يكون بها قوامُ الأمة وصلاحُ الأفراد والمجتمعات، ويكون به استغناؤُها عن غيرها وعدمُ تبعيَّتها لأحد، وفي مبادئنا الإسلامية: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، فلْنحوِّل هذا التوجيهَ الرَّباني إلى سياسَةِ عملٍ ونهج ليسير على هُداه رجال التربية والتعليم ورجالُ الإعلام والمال وكلُّ أفراد المجتمع، إنه العمل المشترك والعملُ بِروح الفريقِ الواحد.
ينبغي استثمارُ التقنية الحديثة في مجالاتِ الإبداع، وإنّ الثورةَ العلميّة والتقنية المتسارعة لا تنتظر أحدًا، لا بدّ من المبادرة في الإسهام بالنافع ووضعِ الضوابط الأخلاقية والسلوكية للإنسان، وإذا تخلّف المسلمون عن الركب فسيصعُب أن يسمعَ لهم أحد وهم حمَلة رسالةٍ هي خاتم الرسالات وأكملها.
أيّها المسلمون، أيّها المربون: أنتم مؤتمنون على صياغةِ الجيل وتوجيهِ المستقبل في تطويرٍ وتجديدٍ ومُواكبةٍ للحضارة مع الأصالة والثبات المستمَدّ من شريعة الإسلام، نعم، الأصالةُ والتميّز المستمِدّة منهجَها من الكتاب والسنة، الهادفةُ إلى تعبيدِ الناسِ لِربّ العالمين، والولاء لهذا الدين، وتنشِئَة المواطن الصالح المنتِج الواعي السالم من شطَط التفكيرِ ومَسالِك الانحراف.
إنّ مبادِئ الإسلام الراسخَة والمرِنة كانت الانطلاقةَ الصحيحة للحضارة الإسلاميّة التي بارَكها الله على أهل الأرض، وما ضعُفَت إلا حين كانت المنطلَقات غيرَ شرعية في تنكّرٍ للدين أو تحجّرٍ لا يتحمّله الإسلام.
عبادَ الله: كل أمّة تُنشِئ أفرادها وتربّيهم على ما تريد أن يكونوا عليه، فالتربية والتعليم في حقيقتِه هو صياغة المجتمع وصناعةُ الجيل وتأهيله وتوجيهه، وكلّ الأمم والدوَل تدرِك هذا الجانبَ، وتسعى بكلّ ما تستطيع لترسيخ مبادئها وأهدافها عن طريق التربية والتعليم، وتعتَبر ذلك من خصوصيّاتها وسماتها التي لا تساوم عليها.
التربية والتعليم والمناهج الدراسية حقٌّ سياديٌّ وشأنٌ داخليّ لا ترضَى الدوَل بالتدخُّل فيه، ولا تسلِمُه الأمَم إلى غيرها، ومنه نُدرك أنّ استيرادَ التربية من أمَةٍ أخرى بكلّ عُجَرها وبُجَرها خطيئةٌ كبيرةٌ، وتبعيّةٌ خطيرة، تعني نشأةَ جيل مغيَّب عن تراثه وتاريخه، مقطوعِ الصلةِ بعقيدته ومبادئه، مسخًا بلا هويّة، يسهُل قياده واستعباده.
إنّ التربيةَ ليست بضاعةً تُستَورد، إنها لباسٌ يفصَّل على قامَة الشعوب وتقاليدها ومبادِئها وأهدافِها التي يعيشون لها ويموتون في سبيلها، وهذا لا يَعني هجرَ الإفادَة من تجارب الأمم؛ فالحكمة ضالّة المؤمن أنَّى وجدها فهو أولى بها، إلاّ أنه من الخَلط والتّضليل فرضُ العَلمَنَة بحجّة التطوير، أو إقصاءُ الدين لمواكبة العلم، وفي قول الله -عزّ وجلّ-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] دليلٌ على أنّ العلوم النافعةَ هي المقرِّبة إلى الله ولو كانت من علوم الدنيا؛ وذلك باصطِباغها بصبغة الإيمان، والتقرّبِ بها إلى الله، وخدمةِ دينه ونفع المسلمين وعمارةِ الأرض كما أرادَ الله، في توازنٍ وشمولٍ ووسطيّةٍ واعتدال.
أمّا إذا تجرَّد التعليم وأهدافُه من الإيمان، فأضحتِ الوسائل والمقاصدُ مادّيةًً بحتةً، فهو الوبال والشقاء، وهذه حضارةُ اليوم شاهِدٌ حيٌّ على هذا النّتاج حتى شقِيَت أممٌ بصناعاتها حين ذهلت عن خالقها، وأصبحَ التسابقُ في وسائِل الدَّمار لا في العمار، وفُقِد الاستقرار، وأصبَحَتِ القوّة معيارًا بدلاً من الحقّ والعدل في السياسة والاقتصاد وغيرها من المجالات، وما الفخرُ في بناياتٍ تعانق السحاب إذا كانت القِيَم مدفونةً تحت التراب؟! وما الربحُ إذا شُغِل الناسُ بالشهوات واللّهاث وراءَ المادّة في غفلةٍ عن الآخرة؟! (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم، 6، 7].
عبادَ الله: إنّ من الضرورةِ للمقرّرات الدراسية أن تُرسِّخ معالم الهوية الإسلامية، والثقافةِ الوطنيّة، وجوانب التميّز الحضاري لها، ومكانتها العالمية والإسلامية دينيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وصناعيًّا؛ ما يرسِّخ لدَى المتلَقِّي هويته الإسلامية وانتماءَه الصحيح، فهو بحاجةٍ ماسّةٍ أمام التحدّيات الفكريّة والحضارية أن يكونَ أكثرَ وَعيًا وأكثر مقاومةً للانحرافات التي تشكِّك في الثوابتِ الدينيّة والقيَم النبيلة المتأصِّلة في مجتمعنا المسلم، ولئلا ينصَهِر الجيل ويذوب حتى يصبح مجرَّدَ رقمٍ من بين المخلوقات. إنَّ لنا رسالةً وإنَّ لنا تميّزًا.
أيّها المسلمون: إنّ وجودَ الفروقِ بين جنسِ الذكر والأنثى أمرٌ مسلَّمٌ عقلاً وشرعًا وحِسٍّا، ولقد كانت للمملكةِ تجرِبةٌ فريدةٌ في هذا المجال، حتى شهدت الهيئاتُ والمنظَّمات الدولية بذلك، وجاء في تقرير هيئة اليونسكو: "إنّ تجربة تعليم البنات لديكم نموذجيةٌ وفريدة، ولولا الحرَج من اختلاف ونمطِ الحياة الأوروبية لقلنا: إن هذه الصيغةَ الأنسب لتعليم وتربيّة الفتاة حتى في أوروبا". وإذا كان هذا هو قول المنصفين فلا يُلتَفَت إلى إرجاف المغرِضين.
إنّ لدينا في تعليمِنا الإسلاميّ وفي مسيرةِ التعليم في هذه البلادِ خاصّةً مكاسب ومزايا وتجارِب ونجاحات تجِب المحافظة عليها، من أبرَزها: سياسةُ التعليم، ومنهجيّة الوسَط والاعتدال، ومقرَّرات العلوم الشرعية، وإحاطةُ الفتاةِ المتعلِّمة بنور الفضيلة والآداب.
إنَّ من الحقِّ والعدل أن نفخَر بأنّ التعليمَ في بلاد الحرمين الشريفين ومناهجَه الدراسيّة -والذي يحظى بأضخَم ميزانيّة- لهو في حال زكاءٍ ونماء، ويفضُل على كثير من الدوَل رغمَ وجهات النظرِ الغريبة التي تُطرَح أحيانًا لتغييرِ المسار الآمن، إلا أنّ التميُّزَ والأصالة ما زالَ سمةً تجِب المحافظة عليها، مع التطويرِ المثمِر والسعي للأفضل والإفادةِ من التجارب، فأرجاءُ الفضاءِ فسيحةٌ للتحليق، لكن يجب أن تكون القواعدُ والمنطلقات ثابتةً راسخة، وفي نفس الوقت آمنة، وإذا كان هذا الزمنُ زمنَ صراعٍ حضاريٍّ وعقائديّ وضغوطاتٍ لعولمَة الفكر والتعليم فإنَّ مِن علامةِ إخلاص ووعيِ القائمين على التربية والتعليم مواجَهة هذا التحدّي، وأن يكونوا على قدر المسؤولية في القيام بهذا الواجب العظيم لأجل مستقبلٍ مضِيءٍ -بإذن الله- بالعلم والهدى والعطاء والبناء، في ظلّ دوحة الإيمان الوارفة.
حَفِظ الله بلادَنا وبلادَ المسلمين عزيزةً آمنةً، سابقةً لكلّ خير، سالمةً من كل شر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) [الشورى: 52، 53].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونَفَعنا بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالِك يوم الدين، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، الملك الحقّ المبين، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
أيّها المسلمون: يقول المنظِّرون: إنَّ التربيةَ والتعليم عمليّة تكاملية، ولنا أن نتساءَل عن دور الآباء والأمّهات في هذا التكامل ودورِ وسائل الإعلام في التربية والتوجيه والنصحِ والتعليم، وعن برامِجِ المجتمع المسهِمة في هذا المشروع.
إن اضطرابًا وازدواجًا وحيرةً يعيشها الناشئ حين يعيشُ التناقضَ بين ما تربَّى عليه في المدرسة، وما تُفرِزه وسائل الإعلام المقروء منها والمرئي. إنَّ المدرسة لتجاهِد في إرساء قواعد التربية وبنائها، ومع الانفتاحِ المذهِل لوسائل الإعلام والاتّصال أصبحنا في حالٍ ينازِعنا غيرنا في تربية أجيالنا، خاصةً إذا كان واقعُ كثيرٍ من هذه الوسائل إثمه أكبر من نفعه.
إنّ ذلك يستدعي وقفةً من أصحابِ القرار والغيورين والمعنيِّين بالتربية أن تتكاثفَ الجهود للدراسات وإيجاد الحلول، ثم المبادرات والقرارات؛ حمايةً للجيل وصيانةً للأمة.
إنّ لكل مجتمعٍ معالمَ يقِف عند حُدودِها، وشعائر يُكلَّف بتوقيرها، حتى في الأقطارِ التي سادَها الإلحاد تواطَأ القوم على أمورٍ يترابطون بها ويتلاقَون على مطالبها وينظِّمون حياتهم بمنطقها، ونحن –المسلمين- لا نبني حياتَنا إلا على يقينِنا بالله الواحد، ولا نرسُم خطوطَ مجتمعنا وآفاقَ مستقبلنا إلا وفقَ هدايات الله العظيم كما بلَّغها رسوله الكريم، ومن ثم فلا يُقبَل أبدًا إشاعةُ الفاحشةِ والإلحاد في حياةِ المجتمع المسلم، ولا يقبَل إهدارُ أحكام الله في سائر الشؤون، ولا أن يخِفَّ مظهرُ الإيمان في أرجاءِ الحياة العامة، وليس استرضاءُ الله نافلةً يزهد فيها الزاهدون أو يتخيَّر فيه المردِّدون، ويستحيل أن ندَع مواريثَ الحقّ التي تلقّينها ثم نرتقِب خيرًا في عاجل أمرنا أو آجله.
ولكي نصِل إلى مستَوى عالٍ للتربية المنشودة يجب أن نصونَ العقائدَ أولاً ونستبقي لها قداستها؛ فإن الإيمانَ بالله واليوم الآخر والطمأنينة المطلقَة إلى ما جاء عن الله ورسوله أُسسٌ مكينةٌ للتربية الكاملة، بل إن أنواعَ السلوك ترتَبِط بالعقيدة كما ترتبِط العربات بالقاطرة، فإن لم يكن هنالك إيمانٌ يضبط حَرَكات المرء وسكناته فإنّ المكان سيخلو لسائر الموجِّهات والمحرِّكات الأخرى، وسينفتح المجال للشهوات والأهواء والرغبات والحاجات والغرائزِ والمنافسات، ويتهارَج الناس لتحقيقِ ذلك من غير وازع ولا رادع.
وإنك لترى بوادِر ذلك في بعض المجتمَعات حين رقَّت الديانةُ وتراخَت قبضةُ الإيمان على زمام السلوك ومبادئ التربية؛ فشرع كلّ امرئ يتصرَّف مع غيره وفي حياته الخاصة بدافعٍ من رغباته وأهوائه والظروف المحيطة به؛ ما أنشأ انحدارًا مخيفًا في المستوى الأخلاقيّ للجماعة، فأصبحتَ ترى الأَثَرةَ المقيتة والسّلبية والأنانية، والكدح للدّنيا والذهول عن الآخرة.
إنَّ العقائد الإسلاميّة هي التي صنعت أجيالاً أوتِيَت القدرة على تغيير الحياة الإنسانية وترقِيتها، وهذه العقائدُ هي التي تصنَع الأخلاق المتينة، وتبني الرجولات المحكَمة، وتقهر الأزمات العاتية.
إن التربيةَ الناجحة تعتمد على حقائقَ مقرَّرة ومسلَّمات لا تقبل جدلاً، وإذا ساءت البيئة وسادت فيها الشكوك وعلِقَت التّهَم بما نزل من السماءِ، فهيهاتَ أن تنشَأَ أجيالٌ يوثَق بأدبها وعفافِها وعَدالَتِها، يجِب أن لا يُسمَح لمرضى القلوب أن ينشَطوا بين الحين والحين لينشرُوا بين المسلمين رِيبًا مُفتَعَلة، وشكوكًا مصطنَعَة، لا يجوز الخروج على الرأي العام بأفكارٍ تثير في جوانِبه الفوضى، وتُغري بالتحرُّر من كل قَيد، والانفلات من كلِّ رِبقَة.
إنَّ الأجيال الناشئة والشبابَ المراهق وعامّة المسلمين قد تَفسُد قلوبهم مع لفحِ هذه السموم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6]. ومَن لم يَقِ يُسأل. كان الله في عونِ العامِلين المخلِصين.
هذا، وصلّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكَى البشرية محمد بن عبد الله. اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدِك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستنّ بسنته، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر صحابةِ نبيّك أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، اللّهمّ انصر من نصر الدين، واخذل الطغاة والملاحِدة والمفسدين، اللّهمّ انصر دينك وكتابك وسنّةَ نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كلّ مكان يا رب العالمين، اللّهمّ كن لهم وليًّا ونصيرًا ومعينًا وظهيرًا.
التعليقات