التربية الذاتية: تنمية ثقة الطفل بنفسه -2

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ المراد بثقة الطفل بنفسه وأهمية ذلك 2/وسائل بناء الثقة لدى الطفل 3/آثار الثقة بالنفس لدى الطفل 4/مخاطر اهتزاز الثقة بالنفس.

اقتباس

إِنَّ لِاهْتِزَازِ ثِقَةِ الطِّفْلِ بِنَفْسِهِ أَضْرَارًا جَسِيمَةً عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مُجْتَمَعِهِ، فَأَمَّا أَضْرَارُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَنْ يَنْشَأَ عَالَةً وَتَابِعًا لِغَيْرِهِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِرَأْيٍ وَلَا بِعَمَلٍ، فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ إِلَى مَنْ يَقُودُهُ وَيُدَبِّرُ لَهُ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

فِيَا عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ صَدَقُوا حِينَ قَالُوا "الثِّقَةُ بِالنَّفْسِ نَجَاحٌ"، فَلَا يُنْتِجُ وَلَا يُغَيِّرُ وَلَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ وَأُمَّتَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ وَاثِقًا فِي نَفْسِهِ، أَمَّا ضَعِيفُ الثِّقَةِ بِنَفْسِهِ فَتَرَاهُ مُتَرَدِّدًا مُذَبْذَبًا خَائِرَ الْعَزْمِ مُتَقَلِّبَ الرَّأْيِ، لَا يُقَدِّمُ وَلَا يُؤَخِّرُ؛ لِذَا فَإِنَّ تَنْمِيَتَنَا ثِقَةَ أَوْلَادِنَا بِأَنْفُسِهِمْ لَهِيَ ضَرُورَةٌ مِنَ الضَّرُورَاتِ، وَمُهِمَّةٌ مِنَ الْمُحَتَّمَاتِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَنَقْصِدُ بِثِقَةِ الطِّفْلِ بِنَفْسِهِ: إِيمَانَ الطِّفْلِ بِقُدُرَاتِهِ، وَشُعُورَهُ بِطَاقَاتِهِ وَمَوَاهِبِهِ وَإِمْكَانِيَّاتِهِ، وَإِدْرَاكَهُ أَنَّهُ ذَا قَدْرٍ وَقُدْرَةٍ، وَأَنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْعَمَلَ وَالْإِنْجَازَ وَالتَّغْيِيرَ، وَأَنَّ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ وَزْنًا وَقِيمَةً، وَأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ نَظْرَتُهُ الْمُسْتَقِلَّةُ لِلْأُمُورِ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ لِاتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ الصَّائِبَةِ، وَكُفْءٌ لِلتَّصَدُّرِ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُهِمَّاتِ مَعَ اسْتِطَاعَتِهِ إِتْقَانَهَا وَإِحْسَانَهَا...

 

وَتَتَمَثَّلُ أَهَمِّيَّةُ ذَلِكَ فِي تَكْوِينِ الشَّخْصِيَّةِ السَّوِيَّةِ الْمُطْمَئِنَّةِ الثَّابِتَةِ، رَابِطَةِ الْجَأْشِ، الْمُتَفَائِلَةِ، الْبَنَّاءَةِ، الْقَادِرَةِ عَلَى وَضْعِ الْأَهْدَافِ وَالتَّخْطِيطِ لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا وَالْعَمَلِ عَلَى تَحْقِيقِهَا، وَالَّتِي تَكُونُ لَبِنَةَ بِنَاءٍ وَتَنْمِيَةٍ وَتَطْوِيرٍ فِي الْمُجْتَمَعِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَهُنَاكَ الْعَدِيدُ مِنَ الطُّرُقِ وَالْوَسَائِلِ لِبِنَاءِ الثِّقَةِ فِي نَفْسِ الطِّفْلِ، وَالَّتِي يَنْبَغِي لِكُلِّ وَالِدٍ وَمُرَبٍّ إِدْرَاكُهَا، فَمِنْهَا:

تَقْدِيرُهُ وَاحْتِرَامُ حُقُوقِهِ: وَهُوَ أُسْلُوبٌ نَبَوِيٌّ يَنْقُلُهُ إِلَيْنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَيَقُولُ: أُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: "يَا غُلَامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ"، قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَأْذِنُ غُلَامًا صَغِيرًا، وَالْعَجِيبُ أَنَّ ذَاكَ الْغُلَامَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَاحْتَرَمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَغْبَتَهُ فِي الِاحْتِفَاظِ بِحَقِّهِ.

 

وَيَنْقُلُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ"، وَقَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَإِلْقَاءُ السَّلَامِ عَلَى الْأَطْفَالِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيرِهِمْ، وَوَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ بَثِّ الثِّقَةِ فِي ذَوَاتِهِمْ.

 

وَمِنْهَا: تَحْمِيلُهُ الْمَسْؤُولِيَّاتِ: وَلَنْ تَرَى أَمْرًا يُعَزِّزَ ثِقَةَ الطِّفْلِ بِنَفْسِهِ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَكِلَ إِلَيْهِ مُهِمَّةً مِنَ الْمُهِمَّاتِ، ذَاتَ مَكَانَةٍ وَخُطُورَةٍ مَا دَامَ أَهْلًا لَهَا، فَهَذَا طِفْلٌ فِي السَّادِسَةِ أَوِ السَّابِعَةِ مِنْ عُمْرِهِ قَدَّمَتْهُ قَبِيلَتُهُ إِمَامًا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَدِيرًا بِذَلِكَ، إِنَّهُ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ الَّذِي يُحَدِّثُ فَيَقُولُ: "لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ -وَاللَّهِ- مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقًّا، فَقَالَ: "صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا"، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَمِنْهَا: الْعَدْلُ بَيْنَ الطِّفْلِ وَبَيْنَ إِخْوَتِهِ: فَإِنَّ ظُلْمَ الْأَوْلَادِ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَهُمْ فِي الْمُعَامَلَةِ يُوَلِّدُ لَدَى الْمَظْلُومِ الشُّعُورَ بِالْقَهْرِ وَالدُّونِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لَأَنْ يُعْطَى، وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يُنْتَبَهَ لَهُ! فَيَفْقِدَ الطِّفْلُ ثِقَتَهُ فِي نَفْسِهِ، وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ الَّذِي أَمَرَ قَائِلًا: "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِنْهَا: احْتِرَامُ عَقْلِهِ وَالِاسْتِئْنَاسُ بِرَأْيِهِ: فَهَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْتَصُّ الْغُلَامَ الصَّغِيرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- بِمَوْعِظَةٍ مُوَجَّهَةٍ إِلَيْهِ وَحْدَهُ قَائِلًا لَهُ: "يَا غُلَامُ"؛ فَخَصَّهُ بِالْخِطَابِ، ثُمَّ قَائِلًا بِمَزِيدِ اخْتِصَاصٍ لَهُ: "إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ"، ثُمَّ تَأْتِي الْمَوْعِظَةُ فِي بُنُودٍ مُوجَزَاتٍ مُخْتَصَرَاتٍ، وَهِيَ إِشَارَةٌ نَبَوِيَّةٌ وَاضِحَةٌ أَنَّ عَقْلَهُ الصَّغِيرَ سَيَسْتَوْعِبُهَا وَيَفْهَمُهَا: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمَةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِنْهَا: الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ إِذَا أَحْسَنُوا، وَعَدَمُ طَلَبِ الْكَمَالِ فِي أَعْمَالِهِمْ: فَيُقْبَلُ مِنْهُمْ مَا حَقَّقُوهُ، وَيُثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ، وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ إِتْقَانُهُ كَالْكَبِيرِ؛ مُرَاعَاةً لِسِنِّهِمْ، وَيُحَدِّثُنَا هَذِهِ الْمَرَّةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ غُلَامَيْنِ سَأَلَاهُ عَنْ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِيَقْتُلَاهُ، فَلَمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ "ابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: "أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟"، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟"، قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: "كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ"، وَكَانَا مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَالْقَضَاءُ بِالسَّلَبِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو دَلِيلٌ أَنَّ الْآخَرَ لَمْ يُثْخِنْ فِي أَبِي جَهْلٍ مِثْلَمَا صَنَعَ الْأَوَّلُ، وَإِلَّا لَأَمَرَهُمَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاقْتِسَامِ السَّلَبِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَثْنَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمَا بِلَا تَفْرِيقٍ قَائِلًا: "كِلَاكُمَا قَتَلَهُ"، تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سَارَتْ وِسَامًا عَلَى صَدْرِ كُلٍّ مِنْهُمَا.

 

وَمِنْهَا: تَرْكُ التَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ: وَمَا شَيْءٌ كَكَثْرَةِ اللَّوْمِ وَالتَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ يَهْزِمُ الطِّفْلَ مِنْ دَاخِلِهِ وَيُزَعْزِعُ ثِقَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا مَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَفِعْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُؤَيِّدُ قَوْلَهُ، وَلَعَلَّ أَدْرَى النَّاسِ بِذَلِكَ هُوَ خَادِمُهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الَّذِي يُدْلِي بِشَهَادَتِهِ قَارِنًا إِيَّاهَا بِالدَّلِيلِ الْعَمَلِيِّ قَائِلًا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا"، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ، أَذْهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ" قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِنْهَا: إِشْبَاعُهُ عَاطِفِيًّا وَمُرَاعَاةُ مَشَاعِرِهِ: فَإِنَّ جَفَافَ الْمَشَاعِرِ وَفَقْرَ الْعَوَاطِفِ سَبَبٌ فِي اهْتِزَازِ شَخْصِيَّةِ الطِّفْلِ وَتَزَعْزُعِ ثِقَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْرِصُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَشَاعِرِ الْأَطْفَالِ وَعَلَى مُشَارَكَتِهِمْ أَفْرَاحَهُمْ وَمُوَاسَاتِهِمْ فِي أَحْزَانِهِمْ، يَرْوِي أَنَسٌ فَيَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْتِي أَبَا طَلْحَةَ كَثِيرًا، فَجَاءَهُ يَوْمًا وَقَدْ مَاتَ نُغَيْرٌ لِابْنِهِ، فَوَجَدَهُ حَزِينًا فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلنَّسَائِيِّ فِي الْكُبْرَى)، فَهُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَلْتَفِتُ وَيَنْتَبِهُ لِحُزْنِ الصَّغِيرِ وَيُوَاسِيهِ، فَتَرَى كَيْفَ يَنْطَبِعُ ذَلِكَ ثِقَةً فِي نَفْسِ الْغُلَامِ؛ أَنَّ زَعِيمَ الْأُمَّةِ وَسَيِّدَهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسَاهُ وَاهْتَمَّ لِأَمْرِهِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَالطِّفْلُ إِذَا شَبَّ وَكُلُّهُ مَعْرِفَةٌ بِقُدُرَاتِهِ، وَثِقَةٌ فِي نَفْسِهِ، وَتَقْدِيرٌ لِذَاتِهِ كَانَ لَبِنَةً صَالِحَةً خَلَّاقَةً نَافِعَةً فِي مُجْتَمَعِهَا، وَتَتَمَثَّلُ آثَارُ هَذِهِ الثِّقَةِ فِي الْأُمُورِ التَّالِيَةِ:

أَوَّلًا: اسْتِخْرَاجُ الْمَوَاهِبِ وَالطَّاقَاتِ: فَضَعْفُ الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ يَدْفِنُ الْمَوَاهِبَ دَاخِلَ صُدُورِ أَصْحَابِهَا، أَمَّا الْوَاثِقُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُجِيدُ اسْتِخْرَاجَ طَاقَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مَا حَبَاهُ اللَّهُ مِنْ مَوَاهِبَ وَإِمْكَانِيَّاتٍ.

 

وَمِنْهَا: إِنْتَاجُ الشَّخْصِيَّةِ الْقِيَادِيَّةِ الْقَوِيَّةِ الْقَادِرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ: فَفِي "عُيُونِ الْأَخْبَارِ": أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ "بِالصِّبْيَانِ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَفَرُّوا وَوَقَفَ؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا لَكَ لَمْ تَفِرَّ مَعَ أَصْحَابِكَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ أُجْرِمْ فَأَخَافَكَ، وَلَمْ يَكُنْ بِالطَّرِيقِ ضِيقٌ فَأُوَسِّعَ لَكَ"، فَهَلْ هَذِهِ الشَّخْصِيَّةُ الْقَوِيَّةُ إِلَّا نَتِيجَةَ تَرْبِيَةٍ زَرَعَتْ فِيهِ ثِقَتَهُ بِنَفْسِهِ.

 

وَمِنْهَا: إِخْرَاجُ جِيلٍ مُؤْتَمَنٍ زَكِيِّ الْأَخْلَاقِ: جِيلٍ يُؤْتَمَنُ عَلَى السِّرِّ كَمَا صَنَعَ أَنَسٌ؛ فَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى حَاجَةٍ، يَقُولُ: "فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَاجَةٍ، قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدًا، قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: فَإِنَّ لِاهْتِزَازِ ثِقَةِ الطِّفْلِ بِنَفْسِهِ أَضْرَارًا جَسِيمَةً عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مُجْتَمَعِهِ، فَأَمَّا أَضْرَارُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَنْ يَنْشَأَ عَالَةً وَتَابِعًا لِغَيْرِهِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِرَأْيٍ وَلَا بِعَمَلٍ، فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ إِلَى مَنْ يَقُودُهُ وَيُدَبِّرُ لَهُ.

 

وَمِنْهَا: قَتْلُ الطُّمُوحِ: فَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي الْمَعَالَى مَنْ هُوَ ضَعِيفُ الرَّأْيِ، مُحْتَقِرٌ لِذَاتِهِ وَلِقُدُرَاتِهِ جَاحِدٌ لِإِمْكَانِيَّاتِهِ؟! وَصَدَقَ مَنْ قَالَ:

شَبَابٌ قُنَّعٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ *** وَبُورِكَ فِي الشَّبَابِ الطَّامِحِينَ

 

وَمِنْهَا: التَّخَلُّفُ فِي تَحْصِيلِهِ الْمَدْرَسِيِّ، وَتَرْكُهُ الْمَجَالَ مَفْتُوحًا لِغَيْرِهِ لِيَتَصَدَّرَ وَيَتَفَوَّقَ دُونَ أَنْ تَسْتَحِثَّهُ الْغَيْرَةُ أَوْ تُحَفِّزَهُ رُوحُ الْمُنَافَسَةِ.

 

وَمِنْهَا كَذَلِكَ: الْخَوْفُ وَالْقَلَقُ وَالْحَسَاسِيَةُ الْمُفْرِطَةُ، وَإِضْمَارُ الْأَحْقَادِ عَلَى النَّاجِحِينَ وَالْمُتَفَوِّقِينَ...

 

وَأَمَّا الضَّرَرُ الْوَاقِعُ عَلَى الْمُجْتَمَعِ فَأَنْ يُحْرَمَ مِنَ الْقُدْوَاتِ وَالشَّخْصِيَّاتِ الْقِيَادِيَّةِ، وَمِنَ النُّفُوسِ الطَّامِحَةِ الْبَنَّاءَةِ الْخَلَّاقَةِ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى مَنْ يَبْنِيهِ وَيُشَيِّدُ أَرْكَانَهُ، وَيَرْتَقِي بِهِ.

 

وَاللَّهَ نَسْأَلُ أَنْ يُعَزِّزَ ثِقَةَ أَوْلَادِنَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنْ يُعِينَنَا عَلَى غَرْسِ ذَلِكَ فِيهِمْ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات
L4jKmoJthSwCDIUPMgUPkV3TkjAyHz5StWmxxAkJ.doc
FNXWhnl4bxg8UY9T5ZbXLB9OOWGzADpYxRsayGlN.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life