عناصر الخطبة
1/مفهوم التنشئة الاجتماعية وحقيقتها 2/أهمية التنشئة الاجتماعية 3/المسؤولون عن التنشئة الاجتماعية 4/وسائل التنشئة الاجتماعية الصحيحة 5/ثمرة العناية بالتنشئة الاجتماعية.

اقتباس

لَقَدْ صَاحَبَتْنَا وَسَائِلُ الْإِعْلَامِ حَتَّى غَفَتْ مَعَنَا عَلَى أَسِرَّةِ النَّوْمِ، وَأَخَذَتْ كَثِيرًا مِنْ أَوْقَاتِنَا، وَأَلْهَتْنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ وَاجِبَاتِنَا الشَّرْعِيَّةِ وَالْمُجْتَمَعِيَّةِ، حَتَّى رَكَنَ بَعْضُ الْآبَاءِ إِلَى الْقَنَوَاتِ وَالشَّاشَاتِ فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ، فَظَهَرَ جِيلٌ أَقْرَبُ مَا...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: كَمْ نَرَى مِنْ أُنَاسٍ حَوْلَنَا أَتْعَبَتْهُمْ عَتَبَاتُ الْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَأَرْهَقَتْهُمْ زِيَارَاتُ الْأَطِبَّاءِ وَالطَّبِيبَاتِ، يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيُرْهِقُونَ أَنْفُسَهُمْ بَحْثًا عَنْ قُرَّةِ عَيْنٍ، وَيَسْعَوْنَ لِأَجْلِ الْحُصُولِ عَلَى الْوَلَدِ وَلَوْ كَلَّفَهُمْ ذَلِكَ مَا يَمْلِكُونَ. وَعَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ أُنَاسٌ يُزْعِجُهُمْ كَثْرَةُ صُرَاخِ أَوْلَادِهِمْ، مَعَ عَجْزِهِمْ عَنْ تَرْبِيَتِهِمْ، وَبَيْنَ هَذَا وَذَاكَ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلَّا مَنْ حُرِمَهَا، وَتَأَمَّلُوا ذَلِكَ فِي حَالِ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)[مَرْيَمَ: 3-6].

 

فَحِينَ دَبَّ الضَّعْفُ فِي جِسْمِهِ، وَغَزَا الشَّيْبُ رَأْسَهُ، أَظْهَرَ ضَعْفَهُ لِرَبِّهِ، وَشَكَا إِلَيْهِ خَوْفَهُ عَلَى الْمَوَالِي مِنْ خَلْفِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا صَالِحًا. وَهَذِهِ النِّعْمَةُ إِذَا لَمْ يَتِمَّ تَعَاهُدُهَا بِالتَّنْشِئَةِ الصَّالِحَةِ انْقَلَبَتْ نِقْمَةً، وَصَارَتْ وَبَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ زِينَةً وَجَمَالًا.

 

وَالتَّنْشِئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ هِيَ: الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي تَكْتَسِبُ الْأُسْرَةُ مِنْ خِلَالِهَا الْمَعَارِفَ، وَالْأَخْلَاقَ، وَالصِّفَاتِ الشَّخْصِيَّةَ، الَّتِي تُسَاعِدُ النَّشْءَ عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ الْآخَرِينَ فِي الْمُجْتَمَعِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَأْتِي الْمَرْءُ إِلَى الْحَيَاةِ خَالِيًا مِنْ كُلِّ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، لَكِنَّهُ قَابِلٌ وَمُهَيَّأٌ لِتَعَلُّمِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النَّحْلِ: 78].

 

وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّنْشِئَةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ دَوْرٌ مُهِمٌّ فِي صِنَاعَةِ الشَّخْصِيَّةِ؛ وَبِالتَّالِي هِيَ عِمَادُ بِنَاءِ الْأُسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ، وَبِهَا صَلَاحُ الْفَرْدِ وَالْأُسْرَةِ، فَإِذَا صَلَحَ الْفَرْدُ صَلَحَتِ الْأُسْرَةُ، وَبِصَلَاحِ الْأُسْرَةِ يَصْلُحُ الْمُجْتَمَعُ، وَالْأُمَّةُ بِحَاجَةٍ إِلَى جِيلٍ حَسَنِ الْأَخْلَاقِ، يَعْرِفُ حَقَّهُ فَيَأْتِيهِ، وَيَعْرِفُ حَقَّ الْآخَرِينَ فَلَا يَتَعَدَّاهُ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: لَمَّا كَانَتِ التَّنْشِئَةُ بِهَذِهِ الْأَهَمِّيَّةِ، كَانَ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَصْدَرِهَا، وَمَنْ يَلْزَمُهُمُ الْعِنَايَةُ بِهَا، فَهِيَ عَمَلِيَّةٌ تَكَامُلِيَّةٌ، يَشْتَرِكُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَشْخَاصِ وَالْجِهَاتِ، وَيُمْكِنُ تَصْنِيفُهُمْ إِلَى مَرَاتِبَ وَهِيَ:

الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْأُسْرَةُ، وَهِيَ أَوَّلُ عَالَمٍ يُوَاجِهُهُ الطِّفْلُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ، بَلْ هِيَ مَنْ تَضَعُ اللَّبِنَةَ الْأُولَى فِي بِنَاءِ شَخْصِيَّتِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)[الرُّومِ: 30]"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

فَأَوَّلُ مَا يَرَى هَذَا الطِّفْلَ مِنْ دُنْيَاهُ هُمَا وَالِدَاهُ وَأُسْرَتُهُ، فَيَتَرَبَّى فِي هَذَا الْمِحْضَنِ الْمَحْصُورِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَثِيرًا مِنْ أَبْجَدِيَّاتِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَيَزْرَعُ فِيهِ مُخْتَلَفَ الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ؛ لِذَا كَانَتِ الْأُسْرَةُ هِيَ أَهَمَّ رَكَائِزِ هَذِهِ التَّنْشِئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ.

 

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَدْرَسَةُ؛ وَهِيَ الْمِحْضَنُ الثَّانِي الَّتِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهَا الطِّفْلُ، فَإِذَا بَلَغَ سِنًّا مُعَيَّنًا انْتَقَلَ مِنْ عَالَمِ الْأُسْرَةِ الَّذِي عَهِدَهُ، إِلَى عَالَمٍ أَفْسَحَ، وَمُجْتَمَعٍ أَوْسَعَ. وَفِيهَا يَتَلَقَّى كَثِيرًا مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، فَالْمُعَلِّمُ فِيهَا أَبٌ، وَالْمُعَلِّمَةُ أُمٌّ، وَالزُّمَلَاءُ إِخْوَةٌ مُتَأَثِّرُونَ وَمُؤَثِّرُونَ.

 

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَسْجِدُ، وَيَخْتَلِفُ عَنِ الْمَدْرَسَةِ بِأَنَّ التَّنْشِئَةَ فِيهِ دِينِيَّةٌ بَحْتَةٌ، فَفِي الْمَدْرَسَةِ تَخْتَلِفُ الْمَعَارِفُ وَتَتَنَوَّعُ الْعُلُومُ، أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا عِلْمُ الدِّينِ وَأَخْلَاقُ الْمُعَامَلَاتِ، وَفِيهِ مُمَارَسَةُ الطَّاعَاتِ، وَإِقَامَةُ الْعِبَادَاتِ.

 

الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: الْبِيئَةُ، وَهِيَ مَا يُحِيطُ بِالْفَرْدِ مِنْ أَقْرَانٍ وَأَصْحَابٍ، وَقَدْ تَكُونُ هِيَ أَخْطَرَ الْمَرَاحِلِ؛ لِتُنَوِّعِ مَصَادِرِ التَّنْشِئَةِ فِيهَا، وَعَدَمِ سَلَامَتِهَا فِي الْغَالِبِ، فَالْبِيئَةُ فِيهَا الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَالسَّلِيمُ وَالسَّقِيمُ، وَالطِّفْلُ -بِطَبْعِهِ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ- ضَعِيفُ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، مِمَّا يُسَهِّلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ السُّلُوكِيَّاتِ أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْبِيئَةَ الْمَفْتُوحَةَ، وَالرُّفْقَةَ الْمُخْتَلِفَةَ مُحَبَّبَةٌ إِلَى النَّاشِئَةِ غَالِبًا أَكْثَرَ مِنَ الْأُسْرَةِ الْمَحْصُورَةِ فِي الْأَبَوَيْنِ وَالْإِخْوَانِ.

 

الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: وَسَائِلُ الْإِعْلَامِ الْمُخْتَلِفَةُ؛ حَيْثُ أَصْبَحَ لَهَا حُضُورٌ فِي كُلِّ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ الْيَوْمَ، فَهِيَ آخِرُ مَا يَنَامُ عَلَيْهَا الْفَرْدُ، وَأَوَّلُ مَا يَفْتَحُ عَلَيْهَا عَيْنَيْهِ. حَتَّى أَضْحَتْ مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ بِنَاءِ السُّلُوكِ لَدَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَطْفَالِ وَالشَّبَابِ، وَغَدَا بَعْضُهُمْ يَأْخُذُ دِينَهُ وَأَخْلَاقَهُ مِنْ صَفَحَاتِ الْإِنْتَرْنِتِ، وَغُرَفِ الْمُنْتَدَيَاتِ وَالدَّرْدَشَاتِ.

 

وَخَطَرُ هَذِهِ الْوَسَائِلِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ، فَقَدِيمًا كَانَ الْحُصُولُ عَلَى صُورَةٍ أَوْ مَقْطَعِ فِيدْيُو أَوْ مُشَاهَدَةِ فِيلْمٍ يَأْخُذُ كَثِيرًا مِنَ الْوَقْتِ وَالْمَالِ وَالْجُهْدِ، وَالْيَوْمَ أَصْبَحَتْ فِي مُتَنَاوَلِ الْجَمِيعِ، وَبِضَغْطَةِ زِرٍّ يَفْتَحُ الْفَرْدُ الْعَالَمَ أَمَامَهُ، وَيُشَاهِدُ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

 

لَقَدْ صَاحَبَتْنَا وَسَائِلُ الْإِعْلَامِ حَتَّى غَفَتْ مَعَنَا عَلَى أَسِرَّةِ النَّوْمِ، وَأَخَذَتْ كَثِيرًا مِنْ أَوْقَاتِنَا، وَأَلْهَتْنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ وَاجِبَاتِنَا الشَّرْعِيَّةِ وَالْمُجْتَمَعِيَّةِ، حَتَّى رَكَنَ بَعْضُ الْآبَاءِ إِلَى الْقَنَوَاتِ وَالشَّاشَاتِ فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ، فَظَهَرَ جِيلٌ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَى الْجَهْلِ، وَأَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

 

فَلْنَحْذَرْ -عِبَادَ اللَّهِ- مِنْ كُلِّ مَصْدَرِ سُوءٍ يُؤَثِّرُ سَلْبًا عَلَى عَقِيدَةِ وَسُلُوكِ أَوْلَادِنَا، وَلْنَتَّقِ اللَّهَ فِيمَا اسْتَرْعَانَا مِنْ رَعِيَّةٍ، وَلْنَقُمْ بِتَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا عَلَى تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَا شَكَّ أَنَّ التَّنْشِئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ الصَّحِيحَةَ لَهَا وَسَائِلُهَا الَّتِي يَجِبُ الْإِحَاطَةُ بِهَا، وَطُرُقُهَا الَّتِي يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا، وَمِنْ أَهَمِّهَا:

أَوَّلًا: الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ، وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ سُؤَالِهِ أَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ لَهُ الذُّرِّيَّةَ، وَهُوَ مَنْهَجُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، حَيْثُ قَالَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)[الْبَقَرَةِ: 128]، وَقَالَ أَيْضًا: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[إِبْرَاهِيمَ: 40]، وَقَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ حِينَ وَضَعَتْ مَرْيَمَ: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[آلِ عِمْرَانَ: 36]. وَهُوَ طَرِيقُ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الْفُرْقَانِ: 74].

 

ثَانِيًا: تَعْزِيزُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ فِي النَّاشِئَةِ وَأُصُولِ الْإِسْلَامِ؛ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ التَّنْشِئَةُ قَائِمَةً عَلَى الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنْ يَتَدَرَّجَ الْمُرَبِّي فِيهَا مُبْتَدِئًا بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَخَيْرُ مِثَالٍ لِهَذَا مَا حَكَاهُ الْمَوْلَى -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ تَنْشِئَةِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ، حَيْثُ بَدَأَ بِغَرْسِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ قَائِلًا: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لُقْمَانَ: 13]، ثُمَّ أَرْشَدَهُ لِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَالْخَوْفِ مِنْهُ: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لُقْمَانَ: 16]، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَعْلِيمِهِ أُمَّ الْعِبَادَاتِ: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لُقْمَانَ: 17]، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَعْلِيمِهِ سَائِرَ الْأَخْلَاقِ: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لُقْمَانَ: 18-19].

 

ثَالِثًا: وُجُودُ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ، فَمَتَى كَانَتِ الْقُدْوَةُ صَالِحَةً نَاجِحَةً كَانَ الْمُتَرَبِّي نَاجِحًا صَالِحًا، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْقُدْوَةُ سَيِّئَةً فَلَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا غَيْرُ السُّوءِ وَالشَّرِّ، فَكَيْفَ لِأَبٍ لَا يُصَلِّي أَنْ يَأْمُرَ أَبْنَاءَهُ بِالصَّلَاةِ؟ وَكَيْفَ لِأَبٍ لَا يَتَوَرَّعُ عَنِ الْحَرَامِ أَنْ يَسْلُكَ بَنُوهُ طُرُقَ الْحَلَالِ؟ فَإِنَّ فَاقِدَ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ، وَزَارِعَ الشَّوْكِ لَا يَحْصُدُ الْعِنَبَ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ:

مَشَى الطَّاوُوسُ يَوْمًا بِاعْوِجَاجٍ *** فَقَلَّدَ شَكْلَ مِشْيَتِهِ بَنُوهُ

فَقَالَ: عَلَامَ تَخْتَالُونَ؟ قَالُوا: *** بَدَأْتَ بِهِ وَنَحْنُ مُقَلِّدُوهُ

فَخَالِفْ سَيْرَكَ الْمُعْوَجَّ وَاعْدِلْ *** فَإِنَّا إِنْ عَدَلَتْ مُعَدِّلُوهُ

أَمَا تَدْرِي أَبَانَا كُلُّ فَرْعٍ *** يُجَارِي بِالْخُطَى مَنْ أَدَّبُوهُ؟

وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ

 

فَإِذَا كَانَ الْأَبُ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ، بَاذِلًا كُلَّ أَسْبَابِ الصَّلَاحِ لِأَبْنَائِهِ، فَلَا يَخَافُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ ضَيَاعٍ أَوْ فَقْرٍ؛ فَاللَّهُ سَيَتَوَلَّاهُمْ بِرِعَايَتِهِ، وَسَيَحُوطُهُمْ بِحِفْظِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[النِّسَاءِ: 9].

 

ثَالِثًا: الْحِكْمَةُ فِي التَّعَامُلِ، فَلَا يُغَلِّبُ الْمُرَبِّي جَانِبَ الشِّدَّةِ، وَلَا جَانِبَ اللِّينِ وَالتَّسَاهُلِ، وَلَا يَكُنْ مُتَسَلِّطًا جَبَّارًا فَيَمْنَعَ الطِّفْلَ مِنْ تَحْقِيقِ رَغَبَاتِهِ، وَيُوصِدَ الْبَابَ أَمَامَ كَثِيرٍ مِنْ طَلَبَاتِهِ، وَيُكَلِّفَهُ بِمَا لَا يُطِيقُ، وَلَا يَكُنْ مُتَسَاهِلًا لَيِّنًا، يُلَبِّي لَهُ كُلَّ مَا يَطْلُبُهُ، وَيُوَفِّرُ لَهُ كُلَّ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، بِحُجَّةِ الْخَوْفِ عَلَيْهِ، أَوْ تَحْتَ مُسَمَّى الْمَحَبَّةِ لَهُ، فَهَذَا الْخَوْفُ الْمُغَلَّفُ بِالْمَحَبَّةِ سُلُوكٌ سَلْبِيٌّ فِي التَّنْشِئَةِ، لَا يُصَدِّرُ إِلَّا جِيلًا مَائِعًا مُتَوَاكِلًا مُتَّكِلًا عَلَى غَيْرِهِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ تَرْبِيَةَ التَّنْشِئَةِ تَرْبِيَةً صَحِيحَةً وَفْقَ عَوَامِلَ مَدْرُوسَةٍ وَأَسَالِيبَ مُجْدِيَةٍ، لَا بُدَّ أَنْ تُؤْتِيَ ثِمَارَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَجْنِي تِلْكَ الثَّمَرَةَ هُوَ الْفَرْدُ نَفْسُهُ، ثُمَّ الْأُسْرَةُ الَّتِي تَفَانَتْ فِي تَنْشِئَتِهِ، ثُمَّ الْمُجْتَمَعُ بِأَسْرِهِ ثُمَّ الْأُمَّةُ كُلُّهَا، فَإِذَا نَجَحَتِ التَّنْشِئَةُ الصَّالِحَةُ فَلَنْ تَرَى سِوَى جِيلٍ صَالِحٍ مُصْلِحٍ، يُحِبُّ الْخَيْرَ وَيَأْتِيهِ، وَيَكْرَهُ الشَّرَّ وَيَنْهَى عَنْهُ، يَعْرِفُ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات
kyU9azBzOCwDUb9n5OLGKbo38Q0qHDGh1J80uscV.doc
Ta5w8VB7dnOpoT6YoOau88h64lifEMPlYDXoJAEz.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life