عناصر الخطبة
1/ مفهوم التربية بالتدريب والحوار والتحفيز وأهميتها 2/أساليب التدريب والحوار والتحفيز الصحيحة في تربية الشباب 3/الآثار الإيجابية لتربية الشباب بالتدريب والحوار والتحفيز 4/نماذج من التربية النبوية للشباب بالتدريب والحوار والتحفيز.اقتباس
فَاغْتَنِمُوا -أَيُّهَا الْآبَاءُ- هَذِهِ الْوَسَائِلَ الْقُرْآنِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ، وَطَبِّقُوهَا فِي تَرْبِيَةِ الشَّبَابِ، فَحَاوِرُوهُمْ لِتُدْرِكُوا مَا يَدُورُ فِي عُقُولِهِمْ وَمَا يَثُورُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَدَرِّبُوهُمْ عَلَى فِعْلِ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، مُسْتَخْدِمِينَ فِي ذَلِكَ التَّحْفِيزَ بِالْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ....
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا يَزَالُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مَنْبَعَ عَطَاءٍ لَا يَنْضُبُ، وَلَا يَزَالُ دِينُ الْإِسْلَامِ دِينًا حَيًّا شَامِلًا لِجَمِيعِ مَنَاحِي الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْمَجَالَاتِ الَّتِي نَسْتَسْقِي فِيهَا عَطَاءَ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ مَجَالُ التَّرْبِيَةِ الْإِيجَابِيَّةِ، وَلَعَلَّ مِنْ أَهَمِّ أَسَالِيبِهَا؛ التَّدْرِيبَ وَالْحِوَارَ وَالتَّحْفِيزَ، وَهِيَ وَسَائِلُ قُرْآنِيَّةٌ وَنَبَوِيَّةٌ فَعَّالَةٌ، مَا أَحْوَجَنَا إِلَيْهَا فِي تَرْبِيَةِ شَبَابِنَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّرْبِيَةِ بِالتَّدْرِيبِ؛ تَعْدِيلُ سُلُوكِ الشَّبَابِ وَتَقْوِيمُهُ عَنْ طَرِيقِ حَثِّهِمْ عَلَى الْمُحَاوَلَةِ وَالتَّكْرَارِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْأَخْطَاءِ وَتَلَافِيهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، كَمَا صَنَعَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ حِينَ دَرَّبَتْ أَوْلَادَهَا عَلَى صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَهَا هِيَ تَحْكِي قَائِلَةً: "فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَأَمَّا التَّرْبِيَةُ بِالْحِوَارِ فَالْمَقْصُودُ بِهَا؛ اسْتِخْدَامُ فُنُونِ الْقَوْلِ وَالتَّأْثِيرِ وَالْإِقْنَاعِ لِاسْتِمَالَةِ الشَّبَابِ لِاعْتِمَادِ سُلُوكٍ نَافِعٍ، أَوْ لِتَرْكِ سُلُوكٍ خَاطِئٍ، وَلَطَالَمَا اسْتَخْدَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا فِي تَرْبِيَةِ الشَّبَابِ وَتَقْوِيمِهِمْ، مِثَالُهُ الشَّابُّ الَّذِي جَاءَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَحَاوَرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَائِلًا: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟" قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ".. "أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟".. "أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟".. "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟".. "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟".. وَالشَّابُّ يُجِيبُ بِنَفْسِ إِجَابَتِهِ، حَتَّى كَانَتِ النَّتِيجَةُ النِّهَائِيَّةُ كَمَا نَقَلَهَا الرَّاوِي: "فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ كَانَ هَذَا الْحِوَارُ نَاجِحًا فَعَّالًا.
وَنَقْصِدُ بِالتَّرْبِيَةِ بِالتَّحْفِيزِ: تَرْغِيبَ الشَّابِّ وَتَشْجِيعَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ وَمُكَافَأَتَهُ وَتَذْكِيرَهُ بِالثَّوَابِ الْأُخْرَوِيِّ؛ فَإِذَا تَوَلَّدَتِ الرَّغْبَةُ بِدَاخِلِهِ لِلْقِيَامِ بِالْعَمَلِ فَقَدْ نَجَحَ التَّحْفِيزُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ التَّرْبَوِيَّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَالْقُرْآنُ يُحَفِّزُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)[الصَّفِّ: 11-12].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَحَتَّى تُؤْتِيَ هَذِهِ الْوَسَائِلُ الْإِيجَابِيَّةُ ثِمَارَهَا لَابُدَّ مِنْ حُسْنِ اسْتِخْدَامِهَا وَمُرَاعَاةِ ضَوَابِطِهَا، وَمِنْ أَهَمِّهَا:
تَكْلِيفُ الشَّابِّ بِمَا فِي مَقْدُورِهِ: فَفِي التَّرْبِيَةِ بِالتَّدْرِيبِ يَنْبَغِي أَلَّا يُكَلَّفَ الشَّابُّ إِلَّا بِمَا يُطِيقُهُ، وَإِلَّا نَتَجَ عَنْ ذَلِكَ شُعُورُ الشَّابِّ بِالْعَجْزِ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَالَ عَنِ الْخَدَمِ: "وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْهَا: التَّدَرُّجُ وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَخْطَاءِ: فَعِنْدَ تَدْرِيبِ الشَّابِّ عَلَى عَمَلٍ مَا، لَا تَتَوَقَّعْ مِنْهُ الْإِتْقَانَ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ، بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي التَّقْصِيرِ وَالْخَطَأِ، فَلْيُقَابَلْ هَذَا بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَطُولِ النَّفَسِ، فَهَذَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ يُدَرِّبُ نَفْسَهُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فَلَا تَسْتَقِيمُ لَهُ إِلَّا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً، يَقُولُ: "كَابَدْتُ نَفْسِي عَلَى الْقِيَامِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَتَلَذَّذْتُ بِهِ عِشْرِينَ سَنَةً"، بَلْ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ: "كَابَدْتُ نَفْسِي أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى اسْتَقَامَتْ".
وَمِنْهَا: الْإِصْغَاءُ لِلشَّابِّ لِتَفَهُّمِ أَحَاسِيسِهِ؛ فَلَا يَحْتَكِرِ الْوَالِدُ الْكَلَامَ وَحْدَهُ، فَإِنَّمَا سُمِّيَ حِوَارًا لِأَنَّهُ مِنْ طَرَفَيْنِ، وَهَذَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ: "إِنَّ الشَّابَّ لَيُحَدِّثُنِي بِحَدِيثٍ فَأَسْتَمِعُ لَهُ كَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ"، فَلْيَكُنْ حَالُكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَتَرَاهُ يُصْغِي لِلْحَدِيثِ بِسَمْعِهِ *** وَبِقَلْبِهِ وَلَعَلَّهُ أَدْرَى بِهِ
وَمِنْهَا: الْمَدْحُ قَبْلَ النَّقْدِ: فَلَا تُعَاتِبْهُ عَلَى عَيْبٍ فِيهِ حَتَّى تُظْهِرَ مَحَاسِنَهُ، هَذَا هُوَ الْمَنْهَجُ الْإِسْلَامِيُّ؛ فَهَا هُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُثْنِي عَلَى ابْنِ عُمَرَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِدَهُ فَيَقُولُ: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنَ الْأَسَالِيبِ لِلتَّرْبِيَةِ بِالتَّدْرِيبِ: تَجَنُّبُ اللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ مَا اسْتَطَعْتَ؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْتِيَ الثَّمَرَةَ، يَحْكِي يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ ذَا بَأْسٍ وَكَانَ يُوفَدُ عَلَى عُمَرَ لِبَأْسِهِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَنَّ عُمَرَ فَقَدَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: تَتَابَعَ فِي هَذَا الشَّرَابِ، فَدَعَا كَاتِبَهُ فَقَالَ: اكْتُبْ: مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى فُلَانٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (غَافِرُ الذَّنْبِ وَقَابِلُ التَّوْبِ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذِي الطُّولِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غَافِرٍ: 3]، ثُمَّ دَعَا وَأَمَّنَ مَنْ عِنْدَهُ؛ فَلَمَّا أَتَتِ الصَّحِيفَةُ الرَّجُلَ جَعَلَ يَقْرَؤُهَا.. فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ نَزَعَ فَأَحْسَنَ النَّزْعَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أَمْرُهُ قَالَ: "هَكَذَا فَاصْنَعُوا، إِذَا رَأَيْتُمْ أَخًا لَكُمْ زَلَّ زَلَّةً فَسَدِّدُوهُ، وَوَفِّقُوهُ، وَادْعُوا اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، وَلَا تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ"(رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ).
فَإِنَّنَا إِنْ أَكْثَرْنَا لَوْمَهُ وَتَوْبِيخَهُ كُنَّا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، خَاصَّةً إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَانِيَةً، وَرَحِمَ اللَّهُ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ الَّذِي قَالَ:
تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي *** وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الْجَمَاعَةْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ *** مِنَ التَّوْبِيخِ لَا أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
وَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي *** فَلَا تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَةْ
وَمِنْ أَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ بِالتَّحْفِيزِ: أَنْ يُقَدَّمَ التَّحْفِيزُ الْأُخْرَوِيُّ عَلَى الدُّنْيَوِيِّ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَوِيَّ يَنْقَطِعُ وَالْأُخْرَوِيَّ لَا يَنْقَطِعُ، وَلَقَدْ كَانَ جُلُّ تَحْفِيزِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِصَحَابَتِهِ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ مُبَايِعًا الْأَنْصَارَ: "تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ.. وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ عَنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ لِغَيْرِهِ)، وَلَا يُمْنَعُ أَبَدًا أَنْ نُحَفِّزَ الشَّبَابَ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ بِالشَّيْءِ الدُّنْيَوِيِّ، فَقَدْ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ لِصَحَابَتِهِ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَحِينَ قَالَ: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ لِاسْتِخْدَامِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ النَّاجِحَةِ فِي تَرْبِيَةِ الشَّبَابِ آثَارًا إِيجَابِيَّةً عَدِيدَةً، فَمِنْهَا: خُرُوجُ شَبَابٍ وَاعٍ وَمُتَعَاوِنٍ، وَتَكَامُلُ بِنَائِهِ فِي شَتَّى الْجَوَانِبِ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْإِنْجَازِ وَالْعَطَاءِ؛ فَبِالْحِوَارِ تَتَفَتَّحُ قُلُوبُ الشَّبَابِ وَعُقُولُهُمْ، وَبِالتَّحْفِيزِ تَجْتَمِعُ فِيهِمُ الْفَضَائِلُ، وَبِالتَّدْرِيبِ يُصْبِحُونَ مَهَرَةً فِي شَتَّى الْفُنُونِ.
وَانْظُرْ إِلَى ذَلِكَ الشَّابِّ الْفَتِيِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَيْفَ أَصْبَحَ بِالْحِوَارِ وَاعِيَ الْعَقْلِ، فَهَا هُوَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَمَا أَرْسَلَهُ لِقَتْلِ ابْنِ عَمِّ مَارِيَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَكُونُ فِي أَمْرِكَ إِذَا أَرْسَلْتَنِي كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ لَا يُثْنِينِي شَيْءٌ حَتَّى أَمْضِيَ لِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ، أَمِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ؟ فَيُجِيبُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَلِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ"، فَيَذْهَبُ فَيَجِدُهُ مَجْبُوبًا فَلَا يَقْتُلُهُ، وَيُقِرُّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَصْرِفُ عَنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَهَا هُوَ يُصْبِحُ مِنْ أَشْهَرٍ وَأَمْهَرِ الْقُضَاةِ لَمَّا دَرَّبَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهَا هُوَ يَحْكِي فَيَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاضِيًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي شَابٌّ وَتَبْعَثُنِي إِلَى أَقْوَامٍ ذَوِي أَسْنَانٍ! قَالَ: فَدَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: "إِذَا أَتَاكَ الْخَصْمَانِ فَسَمِعْتَ أَحَدَهُمَا فَلَا تَقْضِيَنَّ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ أَثْبَتُ لَكَ"، فَمَا اخْتَلَفَ عَلَيَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ"(صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ شَاكِرٍ)، وَتَدَبَّرْ كَيْفَ آتَى التَّدْرِيبُ النَّبَوِيُّ ثَمَرَتَهُ، فَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ يَقُولُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "فَمَا شَكَكْتُ بَعْدُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ"، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ: "فَمَا تَعَايَيْتُ فِي حُكُومَةٍ بَعْدُ".
وَهَا هُوَ بِالتَّحْفِيزِ يَنَالُ ذُرْوَةَ الشَّرَفِ، فَلَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ خَيْبَرَ: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"، فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
أَيُّهَا الْمُرَبُّونُ: هَكَذَا يَكُونُ الشَّبَابُ إِذَا مَا أَحْسَنَّا اسْتِثْمَارَ هَذِهِ الْوَسَائِلِ النَّبَوِيَّةِ فِي تَقْوِيمِهِمْ وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ.
شَبَابٌ ذَلَّلُوا سُبُلَ الْمَعَالِي *** وَمَا عَرَفُوا سِوَى الْإِسْلَامِ دِينَا
تَعَهَّدَهُمْ فَأَنْبَتَهُمْ نَبَاتًا *** كَرِيمًا طَابَ فِي الدّنْيَا غُصُونَا
كَذَلِكَ أَخْرَجَ الْإِسْلَامُ قَوْمِي *** شَبَابًا مُخْلِصًا حُرًّا أَمِينَا
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: مَا أَكْثَرَ مَا اسْتَخْدَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الْوَسَائِلَ الثَّلَاثَ فِي تَرْبِيَةِ الشَّبَابِ، وَمِنَ النَّمَاذِجِ الَّتِي بَرَزَتْ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ التَّرْبِيَةِ النَّبَوِيَّةِ:
حِوَارُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- حِينَ بَالَغَ فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَيْفَ تَصُومُ؟" قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: "وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟"، قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: "صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ"، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ"، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا" قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ؛ صَوْمَ دَاوُدَ؛ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَمَا زَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَاوِرُهُ حَتَّى أَقَامَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَهَا هُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُشَجِّعُ الشَّبَابَ عَلَى التَّدَرُّبِ عَلَى الرِّمَايَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِيهَا، فَقَدْ مَرَّ عَلَى نَفَرٍ يَنْتَصِلُونَ فَقَالَ لَهُمْ: "ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
ثُمَّ هَا هُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَفِّزُهُمْ عَلَى طَلَبِ الْمَعَالِي قَائِلًا: "إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَقَائِلًا: "لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَالنَّمَاذِجُ لِذَلِكَ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ، فَاغْتَنِمُوا -أَيُّهَا الْآبَاءُ- هَذِهِ الْوَسَائِلَ الْقُرْآنِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ، وَطَبِّقُوهَا فِي تَرْبِيَةِ الشَّبَابِ، فَحَاوِرُوهُمْ لِتُدْرِكُوا مَا يَدُورُ فِي عُقُولِهِمْ وَمَا يَثُورُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَدَرِّبُوهُمْ عَلَى فِعْلِ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، مُسْتَخْدِمِينَ فِي ذَلِكَ التَّحْفِيزَ بِالْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ.
فَاللَّهُمَّ اهْدِ شَبَابَنَا إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات