الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقِين، ولا عُدوان إلاَّ على الظالمين، أحمده سبحانه أنْ هَدانا لهذا الدين، فجعَلَنا مسلمين، ومَن يبتَغِ غيرَ الإسلام دينًا فلن يُقبَل منه وهو في الآخِرة من الخاسرين، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، إله الأوَّلين والآخِرين، وقيُّوم السماوات والأرضين، له الأسماء الحُسنَى والصِّفات العُليَا، ولا يَخفَى عليه ولا يُعجِزه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، ومُصطَفاه وخليله، وخِيرَتُه من خلقه، وصَفَه ربُّه بقوله: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه وأتْباعه على سنَّته بإحسانٍ إلى يوم يُبعثون.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:
اخشوا ربَّكم واتَّقُوه، وخافُوه لا تعصُوه، واذكُروا نِعَمَه عليكم واشكُروه؛ ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
فاشكُرُوا اللهَ ولا تكونوا ممَّن قال الله فيهم: ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [النحل: 83]، فإنَّ كُفرَ النِّعَم من أسباب النِّقَم، وهو مُتحقِّق بجحودها ونسبتها إلى غير مُوليها، والاستِهانة بها ووضعها في غير مَواضِعها اللائقة بها، وتعريضها لأسباب زوالها وتَبدِيلها بأضدادها من أصناف المِحَن وألوان النِّقَم؛ ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53].
أيُّها المسلمون:
إنَّ الله تعالى قد خَصَّ أمَّة محمد صلَّى الله عليْه وسلَّم بنِعَمٍ كثيرة عظيمة، ومزايا فريدةٍ كريمة، فأكمَلَ لها دينها، وأتَمَّ عليها نعمَتَه، ورَضِيَ لها الإسلامَ دينًا، وسمَّاهم المسلمين، وخَصَّها بمحمدٍ خاتم الأنبياء والمرسلين، وخير خلق الله أجمَعِين، وأنزَلَ عليه القرآن مُصَدِّقًا لما بين يديه من الكتاب ومُهيمِنًا عليه، وتبيانًا لكلِّ شيء، وحَفِظَه من الباطل فلا يَأتِيه من بين يديه ولا من خلفه، وجعَلَه هدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين.
وجعَلَ هذه الأمَّة خيرَ أمَّةٍ أُخرِجت للناس، تأمُر بالمعروف، وتَنهَى عن المنكر، وتُؤمِن بالله، وجعَلَها أمَّة وسَطًا شهيدةً على الناس في الدنيا والآخرة بما جاءَها من ربها سبحانه على لسان نبيِّها صلَّى الله عليْه وسلَّم تَشهَد على تبليغ الرسل - صلوات الله وسلامُه عليهم أجمعين - لأُمَمِهم رسالات الله ونصحهم لها، وكما أنَّ هذه الأمَّة خير الأُمَم في الدنيا فهي خيرُها وأكرَمُها على الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة؛ فإنها توفى سبعين أمَّة يوم القيامة هي خيرُها وأكرمُها على الله عزَّ وجلَّ وهي أوَّل مَن يجوز الصراط ويدخُل الجنة، وهي أكثر أهلِ الجنَّة؛ إذ تبلُغ نصف أهل الجنة وتَزِيد، بل يُرجَى أنْ يكونوا ثلثي أهل الجنَّة، فالحمد لله على جَزِيل عطائه وسابغ نعمائه.
معاشر المسلمين:
إنَّنا - أهلَ هذه البلاد - قد خَصَّنا الله تعالى بفضْلٍ منه ومنَّة من بين سائر مُجتَمَعات الأرض في الجملةِ بنِعَمٍ كبيرة عظيمة، ظاهرة وباطنة، وحُلَلٍ من الرَّخاء والعَطاء سابغة: مُعتَقَد صحيح، وعمل صالح، وسلوك قويم، وصحَّة في الأبدان، وأمن في الأوطان، ووَفْرَة في الأرزاق، وولاية نحسبها لا تألو جهدًا في تَحقِيق ما فيه خيرُنا وصلاحُنا في العاجل والآجل، والمعصوم مَن عصَمَه الله، والمُوَفَّق مَن وفَّقَه الله، والسَّعِيد مَن تاجَر بنِعَمِ الله مع الله؛ ﴿ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29 - 30]، فاغتَنِوا نِعَمَ الله فيما يُقَرِّب إليه، وسارِعُوا بها إلى ما يُرضِيه.
عبادَ الله:
إذا كانت الحال ما وصَفتُ، والنِّعَم ما إلى جُلِّها أشَرتُ، فما بال أقوامٍ إذا سنَحَتْ لهم الفُرَص، وتهيَّأت لهم النقلة فرُّوا من بِلاد النِّعَم إلى مَواطِن النِّقَم بأنفُسهم ومَحارِمهم وأموالهم، وربما أرسَلُوا سُفَهاءهم وغير ذوي الرشد منهم! يَخرُجون من بلاد التوحيد التي يَعلُو فيها الأذان، وتُقام فيها الجمعة والجماعة، ويُؤمَر فيها بالمعروف ويُنهَى فيها عن المنكر، وتُقام فيها الحدود والتعزيزات، ويُدعَى فيها إلى الخير من حيث الجملة، ولم يَظهَر فيها - بحمد الله - الزنا، ولم تُعلَن فيها الخمور، فيخرجون من هذه البلاد الآمِنة المطمئنَّة إلى بلادٍ يُحكَم فيها بالطاغوت، ويُعلَن فيها الزنا، وتُشرَب فيها الخمور، ويَخفَى فيها الأذان، ويُشاد فيها بالإلحاد، ويُنصَر الكفر، ويُهضَم الحق؛ بلاد تَمُوجُ بالفَساد وشر العباد من شتَّى مِلَل الكفْر، وأصناف أنواع الظُّلم، وأبشَع صُوَر الفجور والإجرام؛ حتى يعزَّ فيها أنْ يسمع الرجل مَن يَقول: ربِّي الله، ومَن يُضلِل الله فما له من هاد، ومَن يهدِ الله فما له من مُضِلٍّ، إنَّ الله عزيز ذو انتقام.
أيها المسلمون:
إنَّ هذا الصِّنف من الناس قد خاطَر بعقيدته، واستَهان بحرماته، وفرَّط بدنياه وآخِرته، وحقيقة أمرِه أنَّه ما نقَم إلاَّ أنْ أغناه الله من فضله: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، ﴿ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [التوبة: 74].
كيف يُسافِر المرء بدون ضرورة إلى بلادٍ وصَف الله ذوي الشأن فيها بقوله تعالى: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 105]، وقوله: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، وقوله جلَّ شأنُه: ﴿ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]، وقوله - تبارَك اسمُه -: ﴿ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، وقوله: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89].
كيف يُلقِي مؤمنٌ عاقلٌ نفسَه في بلادٍ هذا شأنُ أهلِها مع المسلمين، ويَطمَع بالسلامة من ضرَر المقام فيها عليه في الدين؟!
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ♦♦♦ إِنَّ السَّفِينَةَ لاَ تَجْرِي عَلَى اليَبَسِ
كيف يَبقَى بِمَحارِمه والمُراهِقين من أبنائه في مَواطِن قد أشرعت فيها مَواخِير الزنا، وأترعت فيها حانات الخمور، وقد أَلِفَ أهلُها العُرْيَ وتربَّوا على الفجور؟! ولكن حقًّا إنها لا تَعمَى الأبصار ولكن تَعمَى القلوب التي في الصدور.
أيها الناس:
إنَّ الذين يُسافِرون إلى بلد الشرك بأنفسهم أو بأهليهم، أو يَأذَنُون لأحدٍ منهم بذلك، دون حاجةٍ شرعيَّة أو ضرورة حتميَّة، لا شكَّ أنَّهم قد غيَّروا ما بأنفُسِهم، فيُوشِك الله أنْ يغيِّر عليهم نعمته، وقد زاغُوا عن أمْر الله، فيوشك الله أنْ يزيغ قلوبهم؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: 113].
ولا شكَّ أنَّ هؤلاء قد ظلَمُوا أنفسَهم، فماذا لو جاء أحدُهم الموت فتَوَفَّتْهم الملائكة ظالِمِي أنفُسِهم بالإقامة في بلد الشرك والكفر؛ قالوا: فيم كنتم؟ أي: في أيِّ بلد وفي أيِّ مجتمع؟ فهؤلاء على خطرٍ من آخِر الآية؛ قال تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97].
ولقد تبرَّأ النبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم من مسلمٍ يُقِيم بين المشركين، فقال: ((أنا بريءٌ من مسلمٍ يُقِيم بين المشركين لا تراءى ناراهما))، وبيَّن صلَّى الله عليْه وسلَّم أنَّ مثْل هذا لا يَقبَل الله من عمله ما دام في تلك البلدان الكافرة، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا يَقبَل الله من مسلمٍ عملًا بعدما أسلم أو يُزايِل المشركين))، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن جامَع المشرك - أي: اجتَمَع به - أو ساكَنَه فهو مثلُه)).
فاتَّقوا الله أيُّها المسلمون؛ ﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 24 - 25]، ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة: 5].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا جميعًا بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستَغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم من كلِّ ذنب، فاستَغفِروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
التعليقات