عناصر الخطبة
1/ المقصود الرشوة وتفشيها في المجتمع 2/ خطر الرشوة ومفاسدها 3/ بعض مجالات الرشوة وصورهااهداف الخطبة
اقتباس
الرشوة فساد للمجتمع، وتضييع للأمانة، وظلم للنفس، يظلم الراشي نفسه ببذل المال لنيل الباطل، ويظلم المرتشي نفسه بالمحاباة. الرشوة إهدار للحقوق، يأكل بها الراشي والمرتشي ما ليس من حقه، ويكتسب حرامًا لا ينفعه، بل يضره، ويسحت ماله إما بذهابه حسًا أو...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ? وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ? إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فالحديث في هذه الخطبة عن داء خطير ما إن يفشو في مجتمع إلا ويؤذن بهلاكهم، وما إن يحل في أمة إلا ويشيع فيها الفساد والظلم؛ إنه داء الرشوة.
الرشوة التي هي بذل المال للتوصل إلى باطل، إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقه، أو بإعفائه مما هو حق عليه.
وهي من خصال اليهود، قال الله -تعالى- في ذم اليهود: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة: 42] قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "السحت: الحرام، وهو الرشوة، كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود وغير واحد" ا. هـ.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-ما- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي" [أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم بسند صحيح].
وفي لفظ: "لعن الله الراشي والمرتشي".
واللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
ولا تكون لعنة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا على أمر عظيم، ومنكر كبير، وهذا يقتضي أن بذل الرشوة وأخذها من كبائر الذنوب، وقد عدها صاحب كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" من الكبائر، وذكر أن الراشي بدفعه للرشوة يصبح فاسقاً، وكذلك المرتشي، قال: "ولا فرق في ذلك بين قليل المال وكثيره".
عباد الله: وإنما شدّد في الرشوة ولعن آخذها وباذلها؛ لأنها من أكبر الفساد في الأرض، فبها تؤكل أموال الناس بالباطل، وبها تغيير حكم الله، وبها تضيع الحقوق، وبها يثبت ما هو باطل، وينفى ما هو حق.
الرشوة فساد للمجتمع، وتضييع للأمانة، وظلم للنفس، يظلم الراشي نفسه ببذل المال لنيل الباطل، ويظلم المرتشي نفسه بالمحاباة، الرشوة إهدار للحقوق، يأكل بها الراشي والمرتشي ما ليس من حقه، ويكتسب حرامًا لا ينفعه، بل يضره، ويسحت ماله إما بذهابه حسًا أو بذهاب بركته.
عباد الله: إن شيوع الرشوة في أي مجتمع شيوع للفساد والظلم؛ لأنها تتسبب في منع صاحب الحق من حقه ودفعه إلى غير مستحقه، تسبب في الظلم والعدوان، تقدم من يستحق التأخير، وتؤخر من يستحق التقديم، فما خالطت الرشوة عملاً إلا أفسدته، ولا نظاماً إلا قلبته، ولا قلباً إلا أظلمته، وما فشت الرشوة في أمة إلا وحل فيها الغش محل النصح، والخيانة محل الأمانة، والخوف محل الأمن، والظلم محل العدل، الرشوة مهدرة للحقوق، معطلة للمصالح، مجرئة للظلمة والمفسدين، الرشوة تقدم السفيه الخامل، وتبعد المجد العامل، تجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، كم ضيعت الرشوة من حقوق! وأهدرت من كرامة! ورفعت من لئيم! وأهانت من كريم! كم من تقي أهين وضاع حقه عند موظف لئيم لم يدفع له رشوة! وكم من فاسق قدم على غيره وأعطي مطلبه وإن كان باطلاً؛ لأنه دفع الرشوة!
وبالجملة، فالرشوة فساد للمجتمع، وقلب لموازين الحق فيه، وإحلالها بموازين الباطل والظلم والعدوان.
وانظروا -رحمكم الله- إلى المجتمعات التي فشت فيها الرشاوى، انظروا إلى التردي والسوء الذي وصلت إليه! أصبح الإنسان في تلك المجتمعات لا يستطيع أن ينجز معاملة له إلا بالرشوة، بل أصبح المجرمون في تلك المجتمعات في مأمن من العقوبة؛ لأنهم إن قبض عليهم وهم متلبسون بجريمتهم فسيخرجون من السجن عن طريق إرشاء القائمين عليه، وإن قدر أن رفع أمرهم للحكم عليهم فلن يحكم عليهم بكبير عقوبة؛ بسبب دفعهم لمن يحكم عليهم للرشوة.
نعم إذا فشت الرشوة في مجتمع أوصلته إلى الحضيض وأفسدته.
عباد الله: الرشوة تكون في أمور كثيرة، ومجالات متعددة، وأسوأ ما تكون فيه في القضاء والحكم بين الناس فيقضي من أجلها لمن لا يستحق أو يمنع من يستحق، عن بريدة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "القضاة ثلاثة: الواحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" [أخرجه أبو داود وابن ماجة بسند صحيح، سنن أبي داود: 3573].
وتكون في تنفيذ المشاريع، فعندما يطرح مشروع عمل للمناقصة فيبذل أحد المتقدمين رشوة فيرسو عليه المشروع مع أن غيره أنصح وأتقن عملاً، وتكون الرشوة في التحقيقات الجنائية والتحقيق في القضايا العامة والخاصة فيتساهل المحققون في التحقيق من أجل الرشوة.
ومن صور الرشوة: ما يبذل لمراقبي البلدية ورجال المرور والجوازات لتخطي بعض الأنظمة أو يبذل لبعض الموظفين للحصول على رخصة أو إنجاز معاملة أو نحو ذلك.
ومن صور الرشوة: ما يبذل من مال لأجل تحصيل وظيفة، فيطلب المرتشي مباشرة، أو عن طريق وسيط مبلغاَ مالياَ كبيراَ لتوظيف هذا الشخص، وربما سماه: بدل أتعاب، وهذا من قبيل تسمية الأمور بغير أسمائها، فإن بدل الأتعاب إنما يكون مبلغاَ يسيراَ يوازي في عرف الناس المجهود الذي بذل.
ومن صور الرشوة: بذل مال لتحصيل منحة أرض أو نقل من مكان إلى مكان، فكل ذلك داخل في الرشوة؛ لأن من يملك القرار في التوظيف أو النقل أو المنح استغل منصبه الوظيفي وتعاطى الرشوة، وربما دخلت الرشوة التعليم فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح، وخاصة في بعض المدارس الأهلية حيث يتساهل بعض المسؤولين في تلك المدرس في مراقبة الطلاب أثناء تأدية الاختبارات أو يعطوا الطلاب ملخصات مختصرة تكون الأسئلة منها نظير أخذهم الرشوة إما بصفة مباشرة أو غير مباشرة أي أن التساهل لأجل المكافآت التي يتقاضونها.
وصور الرشوة كثيرة ومتنوعة، فاتقوا الله -أيها المسلمون- واحذروا الرشوة بذلاَ أو أخذاَ أو توسطاَ، فإن ذلك موجب للعنة الله -تعالى- وعقابه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
عباد الله: وإن مما يدخل في معنى الرشوة: هدايا العمال، فعن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هدايا العمال غلول" [أخرجه أحمد وغيره، وهو حديث صحيح بمجموع شواهده، فتح الباري: 175/13].
وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلاً على الصدقة فلما قدم، قال: "هذا لكم وهذا لي أهدي إلي" فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: "ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم شاء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه فقال: اللهم هل بلغت؟ ثلاثاً" [صحيح البخاري: 7174].
فإذا كان ما يأخذه العامل على الصدقة الذي كلف من قبل الإمام بجبايتها، إذا كان ما يأخذه من الناس غلول فكذلك أيضاً ما يأخذه الموظف من الناس مقابل وظيفته فإن هذا من الغلول، سواء سمي ذلك: هدية أو مكافأة أو إكرامية، أو غير ذلك؛ لأن الموظف يجب عليه القيام بعمله في مقابل ما يتقاضاه من مرتب فما يأخذه هذا الموظف من الناس فوق ذلك فهو غلول؛ لأن هذا الموظف لو جلس في بيت أبيه أو أمه لما أهدى إليه أحد شيئاً، وهذا الموظف إن كان ما يأخذه من الناس من المال من أجل أن يعطي صاحب الحق حقه، فهذا واجب عليه بحكم عمله بدون مقابل، وإن كان لأجل أن يعطيه غير حقه أو يقدمه على غيره ممن هو أسبق منه فهذا مال أخذه بغير حق وفي مقابلة ظلم، فهو أشد تحريماً وأعظم إثماً، وكما أن هذا الموظف لا يجوز له أن يأخذ هذا المال فلا يجوز كذلك لأحد من الناس أن يدفع لموظف من أجل وظيفته.
عباد الله: وإن بعض الناس يتعاطى الرشوة ويسميها: إما بدل أتعاب، أو مكافأة، أو إكرامية، أو غير ذلك، فهذه التسميات لا تغير من الحكم شيئاً، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "ليكونن من أمتي أقوام يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها".
وقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا قاعدة عظيمة في هذا الباب، وهي قوله: "أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟" فإذا أشكل عليك أمر الهدية أو الإكرامية فطبق عليها هذه القاعدة، لو أنك كنت في بيتك أو بيت أبيك وأمك أي أنك لست في هذا المنصب أو لست موظفاً في هذه الدائرة هل سيهدي لك هذا المهدي؟ فإذا كان الجواب بالنفي وأن هذا المهدي إنما أهدى لك لأجل موقعك الوظيفي فيكون ذلك داخلاً في الرشوة.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، واعلموا أن الرشوة كما أنها من كبائر الذنوب، فهي من أسباب محق بركته.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير.
التعليقات