عناصر الخطبة
1/ اليأس والإحباط من أخطر آفات القلوب 2/تحذير الله تعالى عباده من اليأس 3/ما يجري اليوم هو استمرار للصراع بين الحق والباطل 4/التتار أشد الأعداء فتكا بالأمة 5/ظهور التتار ونشأة دولتهم وتوسعهم 6/اجتياح التتار لبلاد المسلمين وارتكاب المجازر فيها 7/معركة عين جالوت وإنهاء أسطورة التتار.اقتباس
وبالفعل عاود التتار الهجوم على بلاد المسلمين سنة 628هـ, وارتكبوا سلسلة من المجازر المروعة شبيهة بما فعلوه سنة 617ه، ووقعت الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين وقتل اليأس قلوبهم وحميتهم ونخوتهم, حتى بلغ ذلك الأمر مبلغاً عجيباً, فقد كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس، فيبدأ بقتلهم واحدًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!، ويأخذ تتري رجلاً من المسلمين ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فيقول له: "ضع رأسك على الأرض ولا تبرح". فيضع رأسه على الأرض...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي زين قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كتب ولا في أيِّ الفريقين يساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، إلهٌ عزَّ مَن اعتز به فلا يضام، وذلَّ مَن تكبر عن أمره ولقي الآثام, وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، الذي جُمع فيه الأنبياء تحت لوائه.
أما بعد:
عباد الله, أتباع الملة المحمدية: إن أخطر الأدواء والآفات والأمراض التي تصيب القلوب؛ اليأس والإحباط, فمع اليأس يرتدي المسلم منظارًا أسودا يرى به كل الأمور من حوله قاتمة لا نور فيها، ميتة لا حياة فيها، بائسة لا أمل فيها، مع اليأس يتحول الإنسان إلى حطام فلا يفكّر ولا يعمل ولا يحلم.
لذلك حذرنا الله -عز وجل- أشد االتحذير من اليأس, فقال -عز وجل-: (يا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف: 87]، فاليأس من صفات وأخلاق الكافرين قال الله - عز وجل-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [العنكبوت: 23]، وبيّن المولى في موضع آخر أن القنوط واليأس هو شعار الضالين الحائدين عن طريق الهداية والرشاد، فقال -عز وجل-: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) [الحجر: 55، 56], إذ أن اليأس هو شعار من يعبد الله على حرف، فإن أصابه الخير استبشر، وإن أصابه الضر يئس وتضجر، قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) [هود: 9]، وقال: (لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) [فصلت: 49].
عباد الله: إن السبب الرئيسي لوقوع كثير من المسلمين اليوم في آفة اليأس والإحباط هو ضخامة الباطل وانتفاشه, وكثرة الجراحات النازفة في جسد الأمة, في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان وفي العراق وفي اليمن وفي سوريا... الخ, وكلما زادت النكبات واستجدت أزمات كلما زاد اليأس والإحباط في النفوس, حتى أن الكثيرين صاروا ينتظرون الفرج بخروج المهدي المنتظر, الذي يملأ الدنيا عدلاً ونوراً, ويعيد للأمة اعتبارها وريادتها, ولا أمل عندهم في غير ذلك!.
عباد الله: إن من يقرأ تاريخ هذه الأمة يعلم علم اليقين أن ما يحدث في بلاد الإسلام ما هو إلا حلقة من حلقات مسلسل الصراع الأبدي بين الحق والباطل, بين الأمة وخصومها, والذي لم يخلُ منه عصر ولا زمان منذ فجر الإسلام حتى اليوم, فالأمة عبر تاريخها واجهت الكثير من الخصوم والأعداء الذين لم تجمعهم راية ولا فكرة ولا هدف سوى محاربة الإسلام وأهله.
فقد واجهت الأمة في بداياتها المشركين الأصليين من العرب؛ قريش وأنصارها، ثم واجهت الروم البيزنطيين، والفرس المجوس، ثم واجهت البربر الوثنيين، وقبائل القوط والوندال والهون الأوروبيين، ثم واجهت الحملات الصليبية العنيفة لأكثر من قرنين من الزمان في العصور الوسطى بقيادة الفرنجة, ولكن كل هؤلاء الأعداء لم يفعلوا في الأمة أو يقتلوا من أبنائها مثلما فعل التتار الهمج المتوحشين, الذين فعلوا في الأمة ما لا يصدقه عقل, ومع ذلك بقيت الأمة وفني أعداؤها.
فقد خرجت جحافل المغول المتوحشة تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتهتك الأعراض، وتستولي على الأملاك, في مشاهد بشعة تكاد تنكرها العقول لولا ثبوتها، ولهولها وشدتها ظنت طوائف من المسلمين بالله الظنون، وربما خيل لبعضهم أن شجرة الإسلام قد اجتثت من أصولها، وأن بذرة المسلمين قد استؤصلت من جذورها، بل بالغ بعضهم فظن في تلك الحوادث المؤلمة نهاية العالم، واعتبرها آخرون أشد من فتنة الدجال، حتى أن المؤرخ الكبير ابن الأثير -وهو شاهد عيان لبعض أحداثها- استمر عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها وهو يقول: "فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا أو كنت نسياً منسياً, فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم- عليه السلام- وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً". هذا الوصف من ابن الأثير وهو بعد لم يشهد الفاجعة العظمى والمصيبة الكبرى لسقوط بغداد, ونهاية الخلافة الإسلامية الكبرى, ويقول ذلك وهو لم يعلم بتجاوز التتر بلاد العراق إلى بلاد الشام, وما حصل فيها من المآسي والآثام. فما هي قصة التتار وكيف انتصرت الأمة عليهم؟.
عباد الله: ظهرت دولة التتار في سنة (603هـ=1206م) تقريبًا، وكان ظهورها الأول في "منغوليا" في شمال الصين، وكان أول زعمائها هو "جنكيز خان"، ومعناها: قاهر العالم، أو ملك ملوك العالم, وكان رجلًا سفاكًا للدماء، قائدًا عسكريًّا شديد البأس، وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله، وبدأ في التوسُّع تدريجيًّا في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتَّسعت مملكته؛ حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخُوارِزمية الإسلامية غربًا، ومن سهول سيبريا شمالًا إلى بحر الصين جنوبًا، وقد وضع جنكيز خان للتتار ديناً, عبارة عن خليط من أديان مختلفة؛ جمع بعض الشرائع من الإسلام، والمسيحية، والبوذية، وأضاف من عنده شرائع أخرى، وأخرج لهم في النهاية كتابًا جعله كالدستور للتتار؛ وسمى هذا الكتاب "الياسق".
العالم الإسلامي وقت ظهور التتار كان شاسعاً ويمتد في ثلاث قارات, ويضم العديد من الممالك إضافة للخلافة العباسية في بغداد, لكن أوضاع العالم الإسلامي كانت مؤلمة جدًّا؛ فمع المساحات الواسعة من الأرض، ومع الأعداد الهائلة من البشر، ومع الإمكانيات العظيمة من المال والمواد والسلاح والعلوم, مع كل هذا فإنه كانت هناك فُرقة شديدة في العالم الإسلامي، وصراعات كثيرة لا تنتهي بين زعماء وملوك المسلمين, وتدهور كبير في الحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية, وهيبة الخلافة قد ضاعت, بل كانت المملكة الكبرى في الإسلام وقتها وهو مملكة جلال الدين خوارزم والمتاخمة لمملكة التتار على خلاف شديد مع الخلافة العباسية, وكانت بينهما مكائد ومؤامرات متعدِّدة، ومالت الدولة الخُوارِزمية في بعض فترات من زمانها إلى التشيع، وكثرت فيها الفتن والانقلابات، وقامت في عصرها حروب كثيرة مع السلاجقة والغوريين والعباسيين وغيرهم من المسلمين, وقد جعل الله -عز وجل- الفشل قرينًا للتنازع، والاحتلال ملازمًا للوهن، وسنة الله في خلقه لا تتبدل ولا تتغير، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 62].
عباد الله: على مر العصور لم يتسلط علينا الأعداء إلا في أوقات الضعف والفرقة والاختلاف وفساد ذات البين, فالتتار لما رأوا اختلاف المسلمين وتناحرهم على الملك والسلطة فكروا في الهجوم على العالم الإسلامي, وكانت البداية في الهجوم على الدولة الخوارزمية الكبيرة, وكانت تضم بين طياتها عدَّة أقاليم مثل: أفغانستان وأوزبكستان, وتركمنستان وكازاخستان وطاجكستان وباكستان وأجزاء من إيران, وبالفعل هجم جنكيز خان على الدولة الخوارزمية, ولم يهرع أحد من المسلمين لنجدتها بسبب عداوتها السابقة مع الكثيرين, ورغم بسالة المسلمين في مواجهة التتار إلا إنه في النهاية الكثرة غلبت الشجاعة.
وصل جنكيز خان في تقدُّمه إلى مدينة بخارى المسلمة في سنة (616هـ=1220م)، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يُعطيهم الأمان, فوافقوا فدخلها ثم غدر بأهلها غدرة مرعبة, وصفها ابن كثير فقال: "فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلاَّ الله -عز وجل-، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن, فمن المسلمين مَنْ قاتل دون حريمه حتى قُتل، ومنهم مَنْ أُسر فعُذِّب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها", ثم اجتاح التتار أذربيجان وأرمينيا وجورجيا بلا هوادة أو رحمة.
ثم كانت سنة 617 هـ, وهي من أبشع السنوات التي مرَّت على المسلمين منذ بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلى هذه اللحظة؛ فلقد علا فيها نجم التتار، واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسْبَق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به، وما لا يُتخيَّل أصلاً؛ فقد دمروا "سمرقند" العظيمة وقتلوا عشرات الآلاف من أهلها, ثم اجتاحوا معظم أفغانستان, ثم كانت مأساة مدينة "مرو" الرهيبة حيث قتل التتار جميع أهلها بلا استثناء, فقتلوا في ليالي معدودات سبعمائة ألف مسلم!!, ثم كانت مجزرة هراة, ومجزرة نيسابور, ومجزرة خوارزم, كل هذه المجازر والمآسي في عام واحد فقط هو 617 هـ.
وفي وسط ظلمة الهزائم والانكسارات المتتالية لم يصمد في وجه التتار سوى مدينة "تبريز" بسبب إصرار أهلها على الجهاد في سبيل الله والاستبسال أمام جبروت التتار, مما حدا بالتتار لأول مرة بالعدول عن مهاجمة المدينة.
بعد ذلك انشغل التتار عن المسلمين بقتال الروس والمجر وقد قرروا الهجوم على أوروبا, وبالفعل استولوا على شرق أوروبا بأكمله, وذاق الأوربيون النصارى من ويلات التتار كما ذاق المسلمون من قبلُ، وذُبح منهم مئات الآلاف، ودُمِّرت كنائسهم، وأُحرقت مدنهم، بل هُدِّدوا تهديدًا حقيقيًّا أن يصل التتار إلى عقر دار الكاثوليكية النصرانية في روما, فاتقاهم الصليبيون باستخدام سلاح الغواية والنساء الذين سلطوهم على قادة التتار, وأثنوهم عن مواصلة القتال على الجبهة الأوروبية ومعاودة الهجوم على العالم الإسلامي؛ لأن معركة الصليبيين مع المسلمين معركة عقيدة أبدية لا تنتهي كما قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة: 217].
وبالفعل عاود التتار الهجوم على بلاد المسلمين سنة 628هـ, وارتكبوا سلسلة من المجازر المروعة شبيهة بما فعلوه سنة 617ه، ووقعت الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين وقتل اليأس قلوبهم وحميتهم ونخوتهم, حتى بلغ ذلك الأمر مبلغاً عجيباً, فقد كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس، فيبدأ بقتلهم واحدًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!، ويأخذ تتري رجلاً من المسلمين ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فيقول له: "ضع رأسك على الأرض ولا تبرح". فيضع رأسه على الأرض، ويمضى التتري فيحضر سيفًا وهو منتظر ثم يقتله!, ومشاهد الخذلان كثيرة يندى لها الجبين, وتدمع لها العيون.
أما كبرى جرائم التتار فكانت في صفر سنة 656هـ عندما اقتحم التتار بغداد عاصمة الخلافة, بعد سلسلة من المؤامرات والدسائس والعمالة الرخيصة والخيانة الشنيعة من الرافضي الخبيث ابن العلقمي, وزير الخليفة الغافل اللاهي المستعصم العباسي, الذي قتله التتار رفساً وركلاً بالأقدام!!، واستباح التتار بغداد وفعلوا بها وبأهلها ما يعجز اللسان عن بيانه, واستبيحت عاصمة الخلافة أربعين يوماً, وقتل من أهلها مليون مسلم, ولم ينجُ منهم سوى النصارى والشيعة, وتم تدمير معالم المدينة بالكامل, وأصبحت عاصمة الخلافة التي كانت درة الإسلام وتاج الأمة, ومعقل الحضارة والرقي قاعاً صفصفاً, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن العجيب حقاً أن الأمريكان قد طبقوا نفس الأساليب التترية القديمة في احتلال بغداد من حصار وتآمر وخيانة وجاسوسية وربما بمساعدة وتواطئ من نفس الطوائف والفئات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله منزل الكتاب, ومجري السحاب, وهازم الأحزاب, وناصر أوليائه بلا أسباب, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصبحه وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المؤمنون: بعد سقوط بغداد والخلافة العباسية ظن الناس أن القيامة على الأبواب, فالتتار لا يقهرون, وخلافتهم الإسلامية -حتى لو كانت رمزية- قد انهارت بصورة مروعة, فواصل التتار هجومهم على بلاد الإسلام, واستولوا على بلاد الشام, وكان من دأبهم في الشام, قتل المسلمين وترك النصارى واليهود والشيعة, وتسلط النصارى في دمشق على المسلمين وفرحوا بشدة, وطافوا الشوارع بآنية الخمر يرشونها على البيوت والمساجد نكاية في المسلمين, ودفع المسلمون غالياً نتيجة اختلافهم وتدابرهم وانشغالهم بلذات الدنيا وشهواتها وقعودهم عن نصرة إخوانهم منذ البداية.
وعلى أبواب مصر وحدود الشام وعند عين جالوت, وفي شهر رمضان سنة 658ه, كانت الإنسانية جمعاء على موعد مع إنهاء أسطورة التتار والجيش الذي لا يقهر, بعد أكثر من أربعين سنة من الحروب الدموية, والتدمير الشامل لمئات المدن, والمقتل المروع لملايين البشر, والإبادة الكلية لمعظم معالم الحضارة في المعمورة, وذلك عند انتصر جند الإسلام بقيادة سيف الدين قطز على جحافل التتار, وردهم على أعقابهم, وذلك بسبب الإيمان الراسخ بالله -عز وجل-, والوحدة بين قادة المسلمين, وحسن الإعداد للمعركة, وعدم موالاة أعداء الإسلام, والقيادة الحكيمة المؤمنة النقية, وبث روح الأمل والانتصار في قلوب الجنود.
والعجيب أن هذه الهزيمة على الرغم من كونها كانت لفصيل واحد من التتار وهم جنود هولاكو إلا إنها كانت فاتحة الانهيار التتري, ثم دخولهم بعد ذلك في الإسلام, وتحولهم في غضون ثلاثين سنة لكبار الفاتحين المدافعين عن الإسلام والعالم الإسلامي في القرن الثامن الهجري!, فدين الله -عز وجل- يعلو, ولا يعلى عليه.
عباد الله: إن غربة الدين وضعف المسلمين لا ينبغي بحال أن يقود إلى الإحباط وخور النفوس، بل يجب أن يكون مادة للصبر والثبات على دين الله والبذل في سبيله؛ حتى يأذن الله بالفرج, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- معلقاً على حديث: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء", قال: "وكثير من الناس إذا رأى المنكر وتغير كثير من أحوال الإسلام فزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنبه فليصبر إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار".
بل يجب أن يفتش المسلمون في أحوالهم، ويصدقوا مع أنفسهم في البحث عن أسباب الذلة والهوان, وسيجدون أن أعظم الأسباب كامن في أنفسهم، وأن الله لا يسلط عليهم عدواً من خارج أنفسهم إلا إذا هم خالفوا أمره وعصوا رسوله- صلى الله عليه وسلم-. يقول الحق -تبارك وتعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30], ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11], ويقول: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد, يعز فيه أولياؤك, ويذل فيه أعداؤك, ويأمر فيه بالمعروف, وينهى فيه عن المنكر, وتعود للأمة مجدها وريادتها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات