اقتباس
ونرغبهم فيه كذلك إذا ربطناهم بسيرة المصطفى -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- منذ نعومة أظفارهم، لأن في ذلك ربطا لهم بحلقة عظيمة من حلقات تاريخ أمتهم، وإن نفوس الناشئة تميل بإذن الله إلى متابعة وحفظ أحداث السيرة النبوية، ولأن...
الحمد لله أما بعد فإن التاريخ هو تجربة البشر، تستخلص منه الدروس والعبر، وهو ذاكرة جماعية هائلة تكبر وتمنوا كل يوم، قد حوت الدين والقيم والعادات والتجارب، وإن من لا يعرف تاريخ أمته هو كمن لا ذاكرة له، ومن لا ذاكرة له سيظل يراوح مكانه ولن يعرف الطريق إلى التقدم والرقي، لأنه لا يمتلك شيئا يبنى عليه ويزيد فيه.
وللتاريخ كما ذكرنا أثر في البناء الفكري لأولادنا، وقد شرحنا شيئا من ذلك في الحلقة الأولى، ونزيد الأمر بيانا في هذه الحلقة فنقول: إن للتاريخ ارتباطا وثيقا بالعقيدة والأخلاق وبالولاء والبراء وبالسياسة والدعوة ومحبة الأوطان.
ارتباط التاريخ بالعقيدة
إن لكل أمة لغتها وثقافتها وحضارتها التي تتمسك بها وتعتز بها، وتربي عليها أبناءها، ومما لاشك فيه أن لكل حضارة تأريخها الذي يبين بدايتها ويوضح تجربتها في الحياة، ويميزها عن غيرها من الأمم، وثمة ارتباط كبير بين ثقافة الأمة وعقيدتها وبين تأريخها، يظهر ذلك في بداية العام وفي الأعياد والمواسم وفي أسماء الشهور.
التأريخ الهجري القمري هو التأريخ الشرعي
وفي سياق هذا التميز الذي تفرضه علينا عقيدتنا: يجب علينا أن نعتمد التاريخ الهجري المرتبط بالهلال ونربي أولادنا على ذلك، لأنه التاريخ الشرعي الصحيح الذي شرعه الله -تعالى- لجميع الناس، والذي ترتبط فيه عباداتنا- بل وعبادات أهل الشرائع السابقة-وهذا أمر قد زال من واقع أكثرنا في هذه البلاد، وهو من آثار الاستعمار ومخلفاته التي علينا أن نجتهد في اقتلاعها ومحوها.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[التوبة:36] :"هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط، وإن لم تزد على اثني عشر شهراً".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تفسيرها (المجموع:25/141):"فأخبر الله أن هذا هو الدين القيم، ليبين أن ما سواه من أمر النسيء وغيره من عادات الأمم ليس قيما، لما يدخله من الانحراف والاضطراب". وقال رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)[البقرة:189](مجموع الفتاوى:25/133-134): "فأخبر أنها مواقيت للناس وهذا عام في جميع أمورهم، وخص الحج بالذكر تميزا له، ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم، ولأنه يكون في آخر الحول، فيكون علما على الحول كما أن الهلال علم على الشهر، ولهذا يسمون الحول حجة، فيقولون له: سبعون حجة، وأقمنا خمس حجج".
التاريخ وارتباطه بالقيم والأخلاق
إن التاريخ هو مرآة الشعوب ترى فيها ماضيها وأمجادها ومآثرها وأخلاق أسلافها، وإن مما نجده في تاريخ العرب حتى في جاهليتهم -التي هي جاهلية عقيدة لا جاهلية حضارة- خصال المروءة والرجولة، وتلك المبادئ والقيم العالية التي يعيشون لها وبها، وهذا بحر لا ساحل له ولنكتفي في هذا الموضع بالنظر إلى بيت واحد للشاعر الجاهلي عنترة بن شداد العبسي ليدلنا على ما وراءه، وذلك حين قال:
وأغض طرفي حين تبدوا جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها
فهذا البيت لا يعبر عن رأي ووجهة نظر، بل هو تصوير لفكر سائد ورسم لقيمة أخلاقية كانت غالبة هي من أنتج هذا البيت الشعري.
التاريخ وحاجة الداعية إليه
إن التاريخ محصلة تجارب الرجال وخلاصة أعمال الأبطال، فيه يجد المرء العقيدة مواقف عملية، ويرى الأخلاق مناقب مثالية. وإن مما يلزم الدعاة للقيام بأعباء الدعوة قوةُ الشخصية وسداد المواقف، وفقه الدعوة والواقع والثبات على الحق والتضحية في سبيله، لا سبيل إلى تحصيل هذه الخصال إلا مجالسة الصالحين المصلحين في كتب التاريخ وسير الأعلام، قال ابن الأثير وهو يعدد فائدة التاريخ في كتابه الكامل (1/7-8): "ومنها ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها، فإنه لا يحدث أمر إلا قد تقدم هو أو نظيره، فيزداد بذلك عقلا، ويصبح لأن يقتدى به أهلا … ومنها التخلق بالصبر والتأسي وهما من محاسن الأخلاق، فإن العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرم وملِك معظم بل لا أحد من البشر؛ عَلِم أنه يصيبه ما أصابهم وينوبه ما نابهم".
التاريخ ومحبة الأوطان
وكما أن التاريخ الإسلامي يعمق روح الانتماء إلى هذا الدين؛ فكذلك دراسة تاريخ البقعة التي ينتمي إليها الإنسان يزيده محبة لوطنه وغيرة على بلاده وعلى حضارته ومكتسباته التي يعلم كيف وصلت إليه وعبر الأجيال، فيعتز بها ويحافظ عليها، ويغيضه أن يرى من بني جلدته من ينخلع عنها ويبدلها بغيرها، ومما نؤكد عليه أن الوطنية بمفهومها الصحيح لا بد أن ترتبط بتاريخ الأمة وما يحمله من تراث فكري وبعد عربي إسلامي، وإذا أخليت من هذه المعاني (التاريخ واللغة والدين) أصبحت كلمة فارغة لا معنى لها ولا قيمة، ويصبح كل واحد يفسرها بالمفاهيم التي يريدها ويهواها، ويكثر بناء على ذلك المدعون لها والمتاجرون بها (كما هو الحال في زماننا هذا وبلدنا هذا).
كيف نرغب أولادنا في تعلم التاريخ
وإذا أردنا أن نرغب أولادنا في تعلم تاريخ أمتهم وأوطانهم، فلذلك عدة طرق نذكر منها ما يأتي:
أولا: بأن نحدثهم أن في القرآن جانبا كبيرا من تاريخ الأمم، بل ما ورد في القرآن هو التاريخ الصحيح الذي لا مرية فيه، ونذكرهم بأن رب العزة قد رد على اليهود واحتج عليهم بالتاريخ، حين قال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[آل عمران/65].
ثانيا: ونرغبهم فيه أيضا بأن نحدثهم عن تاريخ رواة الحديث النبوي الذي يعتبر مفخرة من مفاخر هذه الأمة، إذ لا نظير له عند أي أمة من الأمم، وهو علم يعني بالرواة ووقت طلبهم الحديث ورحالاتهم ولقاءهم الشيوخ، ووقت اختلاطهم وتغير حفظهم، ووفياتهم وحال كل واحد منهم من جهة الصدق والعدالة.
ثالثا: ونرغبهم فيه كذلك إذا ربطناهم بسيرة المصطفى -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- منذ نعومة أظفارهم، لأن في ذلك ربطا لهم بحلقة عظيمة من حلقات تاريخ أمتهم، وإن نفوس الناشئة تميل بإذن الله إلى متابعة وحفظ أحداث السيرة النبوية، ولأن من فائدة ذلك في الآجل أن يتطلعوا إلى معرفة تاريخ الخلفاء من بعده، ثم تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة.
ومن القصص الذي يورده العلماء للترغيب في علم التاريخ قصة الكتاب الذي أشاعه اليهود أن النبي -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أسقط فيه الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة معاوية وسعد بن معاذ، فراج ذلك على من جهل سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ومغازيه وسيره وتوهموا صحته فجروا على حكم هذا الكتاب المزور حتى ألقي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فاستدل على كذبه بعشرة أوجه كما قال ابن القيم، ومن تلك الأوجه أن معاوية أسلم بعد الفتح، وسعد قد مات يوم بني قريظة، قبل خيبر بسنتين، وأن الجزية لم تفرض إلا بعد خيبر، (انظر زاد المعاد (3/152) وأحكام أهل الذمة (1/91).
رابعا: ونرغب أولادنا في علم التاريخ بأن نزودهم بقصص الأبطال والعلماء من أمتنا، ذلك القصص الرائع الذي اجتمعت فيه الواقعية والمثالية بلا مبالغة، وإن مما امتاز به التاريخ الإسلامي أن سجل للأجيال أقوال العلماء وأفعالهم ومواقفهم الجديرة بالتسجيل, وهذا في ظل كتب السير والطبقات التي تترجم للأشخاص حسب الأجيال ابتداء من جيل الصحابة إلى القرون المتأخرة، وعلم الطبقات (طبقات الفقهاء والمحدثين والنحاة) الذي يعتبر علما إسلاميا بحتا، وهو مفخرة حضارية لأمتنا قيمتها تربو على قيمة التاريخ السياسي بدرجات, وقد أنجبت الأمة آلاف المؤرخين الذين تركوا لنا الآلاف من المؤلفات في التاريخ.
خامسا: ومما نحث به أولادنا على هذا العلم أن نجعلهم يطلعون على الموسوعات المؤلفة في التاريخ والسير، بل يكفي لترغيبهم فيه ودفع فضولهم نحوه -ولاعتزازهم به أيضا- أن نريهم حجم الكتب وعدد المجلدات المصنفة فيه كالكامل في التاريخ لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء للذهبي، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر وتاريخ الجزائر الثقافي أبي القاسم سعد الله وغيرها من الموسوعات الضخمة.
وفي الأخير نؤكد على أن رقي الأمم وتطورها لا يبنى على مظاهر الحضارة المادية من بنايات ومؤسسات وصناعات، وإنما يبنى على العقائد والقيم والأفكار التي تصنع الرجال، لأن الرجال هم الذين يبنون الحضارات وهم الذين يكونون سببا في زوالها، فإذا أردنا أن نبني مجدا أو أن نستعيد أمجاد أسلافنا فعلينا أن نهتم بصناعة الرجال قبل أي شيء آخر، وهذا عنصر من عناصر هذا البناء قد أوضحناه في هذه المقالة بحلقتيها نسأل الإله العلي القدير أن ينفع بها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات