اقتباس
وحين يتمسك البعض بخطوط واهية لما يسميها مشكلة أو يعتمد على مستندات ركيكة لما يعتبرها قضية فإنه سرعان ما تتسع الهوة وتزيد الفجوة، ويا ليت الأمر يتوقف عند هذا لكان يومها هينًا؛ لكن الأعظم نتيجة والأسوأ مآلاً ما يلحق جراء ذلك من...
إنك حين تمعن النظر وتطيل التأمل في الخلافات العائلية والأسرية والمقاطعات الأخوية والهجران الاجتماعي بين الناس ستجد أن من أعظم أسباب ذلك وأهم بواعثه الاحتمالات السيئة بالآخرين، والتوقعات الخاطئة بهم، والأفكار المبنية على سوء الظن بهم؛ وقد يكون ذلك نتيجة النظرة السريعة غير المتفحصة أو السماع الخاطف غير المتفهم أو القراءة المستعجلة غير المتأنية، أو كانت وشاية من الغير غير مثبتة ولا صادقة؛ وسواء قلنا إن السبب هذا أو ذاك إلا أنه في النهاية سينتج من وراء ذلك مشكلة.
وحين يتمسك البعض بخطوط واهية لما يسميها مشكلة أو يعتمد على مستندات ركيكة لما يعتبرها قضية فإنه سرعان ما تتسع الهوة وتزيد الفجوة، ويا ليت الأمر يتوقف عند هذا لكان يومها هينًا؛ لكن الأعظم نتيجة والأسوأ مآلاً ما يلحق جراء ذلك من تبعات مؤسفة ونهاية مخجلة؛ تجاوزات للشرع مخيفة، وتعديات على العرض عنيفة، وتجنيات على الآخرين سخيفة؛ قطيعة وهجران، عتاب وتهديد، تظلمات وشكاوى، غيبة ونميمة، وشاية وإشاعة، فصل وحرمان، وغير ذلك كثير مما يحزن له القلب ويندى له الجبين.
كل هذه النتائج إذا اقتصرت القضية -إن صح التعبير- بين ظالم ومظلوم، أو قل إن شئت: مدَّع ومدَّعى عليه، أما إن دخلت في القضية أطراف أخرى وتقمص الحاسد فيها لباس المصلح والناقم صورة المحب والعدو ثياب الصديق والشامت المتربص حالة المتأثر الأسيف؛ فربما وصل الأمر في بعض الأحايين إلى الأدهى والأمر؛ أهونها الكراهية والهجران وأشدها الفراق والطلاق والسجون والقتل، وهلم جرًّا... وإلى هذه النتائج والمآلات أشار ربنا سبحانه محذرًا بقوله تعالى: (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]، نسأل الله أن يجنبنا ذلك كله وأن يحمي أنفسنا وأهلنا وجميع المسلمين من شرور نفوسنا وشرور شياطين الجن والإنس.
كل هذه المآسي وغيرها -يا إخوان- مما نتوقعه وما لا نتوقعه هي نتائج للعجلة في الحكم والتسرع في القرار، وقد جاء بيان الشرع في ذلك كما في الحديث الشريف قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "التؤدة -أي التأني والتمهل- في كل شيء إلا في عمل الآخرة". رواه أبو داود وصححه الألباني. كما أنه أيضًا نتاج التسرع في الرد وحصاد عدم التثبت في الأمر.
وفي أسطر قليلة دعني أسرد إليك قصة لطيفة؛ في أحد المطارات الدولية كانت هناك امرأة تجلس في انتظار طائرتها، ولطول الانتظار اشترت كتابًا لتقرأ فيه واشترت أيضًا علبة بسكويت، جلست المرأة وبدأت تقرأ كتابها أثناء انتظارها للطائرة، كان على الكرسي المجاور رجل يقرأ في كتاب، وعندما بدأت في التقاط أول قطعة من علبة البسكويت التي كانت موضوعة على الكرسي بينها وبين الرجل فوجئت بأن الرجل هو الآخر بدأ في التقاط قطعة بسكويت من نفس العلبة التي كانت هي تأكل منها.
بدأت هي بعصبية تفكر أن تلكمه لكمة في وجهه لقلة ذوقه؛ حيث إنه لم يستأذنها في أخذ قطعة بسكويت، ومع كل قطعة كانت تأكلها هي من علبة البسكويت كان الرجل يأكل قطعة أيضًا.
زادت عصبيتها لكنها كتمت في نفسها وعندما أوشكت علبة البسكويت على الانتهاء ولم يتبق فيها إلا قطعة واحدة فقط نظرت إليه وقالت في نفسها: ماذا سيفعل هذا الرجل قليل الذوق الآن؟!
ودهشت عندما قسم الرجل القطعة إلى نصفين ثم أكل النصف وترك لها النصف الآخر قالت في نفسها: هذا لا يحتمل!
كظمت غيظها وأخذت كتابها وبدأت بالصعود إلى الطائرة وعندما جلست في مقعدها بالطائرة فتحت حقيبتها لتأخذ نظارتها وكانت المفاجأة؛ فقد وجدت علبة البسكويت الخاصة بها كما هي مغلفة بالحقيبة!!
صُدمت وشعرت بالخجل الشديد، أدركت فقط الآن أن علبتها كانت في حقيبتها، وأنها كانت تأكل مع الرجل من علبته هو!!
أدركت متأخرة بأن الرجل كان كريمًا جدًّا معها وقاسمها علبة البسكويت الخاصة به دون أن يتذمر أو يشتكي!!
وازداد شعورها بالعار والخجل حينما تذكرت أنه قاسمها آخر قطعة من البسكويت الخاص به، وأثناء شعورها بالخجل لم تجد وقتًا أو كلمات مناسبة لتعتذر للرجل عما حدث من قلة ذوقها!
ولعلك أخي بعد سياق هذه القصة الطريفة والعبرة السريعة ينبغي أن تتولد لديك حقيقة أنه لا يمكنك استرجاع الكلمات بعد أن نطقتها، واحذر أن تكون مندفعًا، فقد تخطئ مع شخص كان كريمًا معك وأنت لا تدري، وعليك أن تحاول قدر الإمكان أن تكون متسامحًا.
وما أحسن ما قال الشاعر:
انطـق مصـيبًا لا تكـن هذرًا *** عيـابة ناطقًا بالفحش والريب
وكن رزينا طويل الصمت ذا فكر***فإن نطقت فلا تكثر من الخطب
ولا تجب سائلاً من غير ترويـة *** وبالـذي مثله تسـأل فلا تجب
إن سوء الظن من أشد الأمراض فتكًا بالمجتمعات، ومن أفرطها تأثيرًا على الأسر والجماعات؛ ذلك أنه إن تمكن في القلوب فإنه لا يدع للألفة مكانًا ولا للمودة متسعًا ولا للقرابة مجالاً، والمتتبع لدعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- يجد أنه حارب هذا الخلق أيما محاربة، فقد روي أن رجلاً جاءه يقول: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك من إبل؟!"، قال: نعم. قال: "فما ألوانها؟!"، قال: حُمْر. قال: "هل فيها من أورق؟!" -يعني فيه سواد- قال: إن فيها لأورقًا. قال: "فأنى أتاها ذلك؟!". قال: عسى أن يكون نزعه عِرْقٌ. قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عِرْق". رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
فلفت النبي -عليه الصلاة والسلام- انتباهه إلى مجرد أن الولد يختلف عن أبيه في الشبه لا يعني أن يساء الظن بالأهل، بل قد يكون ورث ذلك من أصوله القديمة، ثم ضرب له مثلاً حسيًّا ملموسًا على قوله أزال به الشك فسكت الرجل.
ومن هذه وغيرها تعلم صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- دروسًا علمية وتجارب عملية في إحسان الظن بالآخرين وعدم الإساءة بهم والتثبت في تلقي الأخبار عنهم ونقلها، والتأني فيها وعدم العجلة في تداولها، ومن تلك الدروس التي كان لها الأثر البالغ في نفوسهم وفي مستقبل أمرهم حادثة الإفك التي كانت مع من؟! مع أطهر امرأة لأطهر زوج؛ محمد -عليه الصلاة والسلام-: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16].
لقد لاكت ألسن بعض المؤمنين ما كان مجرد إشاعة مغرضة على أمهم عائشة -رضي الله عنها-؛ ما أشاع به المنافقون وتبنوا نشره بزعامة رأس النفاق وعموده وذروة سنامه عبد الله بن أبي بن سلول؛ قال الله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور:11]، فتلقفته أسماع بعض المؤمنين وتلقته ألسنتهم فنزلت الآيات عتابًا لهم وتوبيخًا وتأديبًا: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [النور: 17]، كما صدرت بحقهم الأحكام عقابًا لهم وردعًا لغيرهم؛ حين لم يتفحصوا ذلك الخبر ولم يترووا في تلك الفرية التي عهدتهم فيها رأس الأفعى، وقد كان الأصل أن يحسنوا الظن ببيت النبوة، وهذا عام لكل من عرف منه الخير والصلاح والعفاف؛ قال تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور: 12].
نعم؛ لقد كانت وشاية مغرض وإشاعة حاسد متنكب عن الصراط، يريد الولوغ في عرض الطاهرة وشرف النبوة، وعلى الرغم أن فسق صاحب هذا الافتراء العظيم كفيل بأن لا يقبل منه خبر ولا يتلقى منه نبأ، قال القرطبي عند قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ...) [الحجرات: 6]، وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً؛ لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عن نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعًا؛ لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها". اهـ.
ولقد كان الأصل بالمسلم أن يلتزم في ردوده القولية وتصرفاته الفعلية التوجيه الرباني في قوله: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12]، وأن يتّبع الإرشادات النبوية كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث...". رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
ولو أن الناس التزموا هذا المنهج الحصيف لصونت به أعراضهم من الوقيعة فيها، وحفظت دماؤهم من نزيفها، وتعافت صدورهم من إيغالها، وسلمت أخوتهم من تصدعها، ولفشل الشيطان في تحريشه وتفريقه بينهم.
إن لفظة "زعموا" و"قالوا" سلوكٌ يتنافى مع أصول التّثبُّت، وهما منهج في النقل غير معتبر، أما سمعت قول معلمك -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث: "بئس مَطِيَّةُ الرّجل زعموا". رواه أبو داود 4972 وصححه الألباني. لأنّ "زعموا" في الواقع ما هي إلا مطيّة الكذب، فكلّ من له غرضٌ، أو كان صاحب هوًى لا يجد متنفسًا لما في صدره من كراهية إلا تلفيق الأكاذيب، ونقل الأخبار المغرضة تحت ستار "زعموا" و"قالوا"، وحينها هيهات أن يسلم بنفسه والمجتمع من حوله من جريرة الفرية، وإشاعةٌ ما فيه بلبلةٌ ومفسدة للأمّة.
يقول ابن قدامة: "لا تصدّق النّاقل؛ لأنّ النّمام فاسقٌ، والفاسق مردود الشّهادة، فإن ركنتم إلى النّمامين، وأصبتم إخوانكم بجهالةٍ فلا بد أن تصبحوا على ما فعلتم نادمين".
ولا بد أن ندرك إخواني: أنّ في البشر طفيليّات تعيش بينهم؛ لا ليفسدوا صحتهم أو يسلبوا عافيتهم؛ بل ليفسدوا جمعهم وليفرقوا كلمتهم، وليُوغِرُوا صدورهم، فتحدث العداوة والبغضاء، وليست العداوة والبغضاء من صفات المسلم ولا من خلاله؛ لذا لا بد من التأني قبل حصول التجني؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "التأني من الله والعجلة من الشيطان". السلسلة الصحيحة (1795).
إن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا...) [الحجرات: 6]؛ ليست مقتصرة على من كانت سبب نزولها عليه؛ بل هي منهج حياة المؤمنين وقانون نظام المسلمين في كل زمان ومكان في كيفية استقبال الأخبار استقبالاً سليمًا، وكيفية التصرف معها تصرفًا حكيمًا، فتأمرهم بضرورة التثبت من صحة مصدره حتى لا يصاب قوم بما يؤذيهم بسبب تصديق الفاسق في خبره، بدون تأكد أو تحقق من صحة ما قاله؛ وبهذا التحقق من صحة الأخبار، يعيش المجتمع الإسلامي في وئام واطمئنان، وفى سلامة من الندم والتحسر على ما صدر منه من أحكام.
فعلى كل مسلم عمومًا -وأخص منهم صاحب المنبر وصاحب القلم وصاحب اللسان العليم وصاحب الجاه- أن يتقوا الله تعالى في المسلمين وأن يتثبتوا فيما ينقل إليهم ثم فيما ينقلونه للناس؛ حتى لا يفتح باب من الشر على المجتمعات من قبلهم وتتصدع وحدة المسلمين بسببهم وتحدث الإخلالات بتعجلهم، وعليهم أن يكونوا أداة جمع والتئام لا فرقة وانفصام، وأداة محبة وانسجام لا اقتتال واحتدام، وأداة تعديل لا أداة تجريح.
كما أني أصرف عقول إخواني وقلوب أحبابي إلى هذه الآية، واستوقفهم بها مذكرًا، قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) [الإسراء: 36]، قال قتادة: "لا تقل: رأيت، ولم تر، وسمعت، ولم تسمع، وعلمت، ولم تعلم؛ فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كلّه".
اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا وكل المسلمين مفاتيح للخير مغاليق للشر، وانفع بنا الدين وأهله وانصر بنا الحق وحزبه.
التعليقات