عناصر الخطبة
1/سعي الكفار لإفشال التآخي والتآلف والمصالحة بين المسلمين 2/أهمية المؤآخاة بين المسلمين 3/مؤآخاة النبي صلى الله عليه وسلم- بين المتخاصمين من الأوس والخزرج 4/بعض ثمرات المؤآخاة والمصالحة بين المسلمين 5/بنود المعاهدة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين يهود المدينة 6/حقوق يهود المدينة بعد إبرام المعاهدة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- 7/بعض صور نقض يهود المدينة للمعاهدة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم- 8/موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين من اليهود الناقضين للمعاهدةاهداف الخطبة
اقتباس
بهذه المصالحة وذاك التآخي؛ يستقر المجتمع، ويطمئن الناس، وتأمن الأمة على أرواحها ومقدراتها، فكان لزاما -بعد الاطمئنان على الأمن الداخلي- ترسيخ الأمن الخارجي، وذلك بتوطيد العلاقات الحسنة والحميدة مع من هم على غير ديننا من المسالمين؛ فنأمن شرَّهم بمعاهدة، ونتقي كيدهم بمسالمة، وهذا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
إن التآخي والتآلف والتحاب والتوادد، والتصالح بين المسلمين؛ يسوء أعداء الدين، ولا يريده ولا يتمناه المغرضون، فكلما سعى إليه المسلمون، عارضه اليهود وموالوهم وحاولوا جاهدين لإفشاله، وسعوا معاجزين لإبطاله.
فمما يسرُّ عينَ العدوّ بشتى أشكالهم، ومختلف ألوانهم، ويحزن المؤمنين المخلصين، ويفرح الشيطان وحزبه وأعوانهم، ما أصاب أمة الإسلام من تفرقٍ وتشرذم، وتنازعٍ وتقاتلٍ وتدابر، في مشارق الأرض ومغاربها، فليس لنا من دون الله كاشفة، ليس لنا إلا أن نعود إلى وحدة الأوطان، وتوحيد القلوب.
فللأهمية البالغة لاستقرار المتجمعات، وسلامة الأمم، وأمن الشعوب، لا بد من المؤآخاة بين أفراد الوطن الواحد، والتآخي بين أهل الملة الواحدة.
وهذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، حينما هاجر من مسقط رأسه؛ مكة المكرمة، إلى موطنه الأخير، ومستقر دولته الدائم؛ المدينة المنورة، فكان من أوائل أفعاله، وأهم أعماله؛ الإصلاح بين الأوس والخزرج أبناء الوطن الواحد، والمؤآخاة بين المهاجرين والأنصار أبناء الدين الواحد، ومعاهدة صلح مع اليهود؛ يهود المدينة، الذين كانوا أقلية مجاورين لأهل المدينة المواطنين الأصليين.
فأول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم دولتَه: الإصلاحُ بين المتخاصمِين المتنازعِين؛ قبيلتي الأوس والخزرج، الذين كانت لا تكاد تهدأ بينهما الحروب الدامية حتى تنشأَ مرةً أخرى بفعل فاعل من اليهود، الذين لا يهدؤون إلا بإيقاد نيران الحروب.
ولكن: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة: 64].
أصلح بينهم صلى الله عليه وسلم، وسماهم اسما شرعيا: "الأنصار"، ولم يسلبهم الاسم الأصلي: "الأوس والخزرج" لما للقبلية من دور في الإسلام.
بالإسلام استراح الأنصار من الحروب والنـزاعات، التي لا يستفيد منها إلا اليهود، وبالإصلاح بينهم؛ ساد الأمن في وطنهم، وانتشر السلام في ربوعهم، وحنق اليهود، وشرق المنافقون.
فمع عصبيتهم للقبلية؛ صنع الإسلام منهم إخوانا كأبناء صلب واحد ورحم واحدة، إنهم رجال لكن كرجل واحد، فكلما نزغ بينهم ما هو من طبيعة البشر نتيجة الغضب والخطأ؛ وذُكِّروا بالله تذكروا فإذا هم مبصرون.
وهاكم مثلا لما يبثه شياطين الإنس من المنافقين الذين غاظهم توحد الأنصار، عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَذَاكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، وَالْيَهُودِ، فِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: "لا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا" فَسَلَّمَ عَلَيْهِمِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ وَقَفَ، فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمِ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: "أَيُّهَا الْمَرْءُ! لا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا؛ فَلا تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ" فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: "اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ" قَالَ: فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: "أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟" -يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ- قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: "اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ! وَاصْفَحْ، فَوَاللهِ! لَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ الَّذِي أَعْطَاكَ؛ وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ، شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ" فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" [مسلم (1798)].
وآخى النبي بين المهاجرين والأنصار أبناء الدين الواحد، إنهم الذين قال الله فيهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
فقاسموهم أموالهم وأرضهم، وهاكم مثالا على ذلك قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالاً، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ، تَزَوَّجْتَهَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَزَوَّجْتَ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "وَمَنْ؟" قَالَ: امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: "كَمْ سُقْتَ؟" قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ - أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ -، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" [البخاري (2048)].
وبهذه المصالحة وذاك التآخي؛ يستقر المجتمع، ويطمئن الناس، وتأمن الأمة على أرواحها ومقدراتها، فكان لزاما -بعد الاطمئنان على الأمن الداخلي- ترسيخ الأمن الخارجي، وذلك بتوطيد العلاقات الحسنة والحميدة مع من هم على غير ديننا من المسالمين؛ فنأمن شرَّهم بمعاهدة، ونتقي كيدهم بمسالمة، وهذا ما فعله صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة، وهم ثلاث قبائل: قينقاع والنضير وقريظة، فصاروا أهل ذمة، للمعاهدة التي هذه بعض بنودها: قال في [الرحيق المختوم، ص: 132)]: "وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود-كما أسلفنا- وهم وإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين، لكن لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد، فعقد معهم رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- معاهدة؛ ترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال، ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام.
وجاءت هذه المعاهدة ضمن المعاهدة التي تمت بين المسلمين أنفسهم، والتي مر ذكرها قريبا.
وهاك أهم بنود هذه المعاهدة:
1- إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، كذلك لغير بني عوف من اليهود.
2- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4- وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
5- وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
6- وإن النصر للمظلوم.
7- وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
8- وإن يثرب -أي وطنهم جميعا- حرام جوفها لأجل هذه الصحيفة.
9- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده؛ فإن مرده إلى الله -عز وجل-، وإلى محمد رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-.
10- وإنه لا تُجَار قريشٌ ولا من نصرها.
11- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب ... على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
12- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
و"بإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية، عاصمتها المدينة و-قائدها- رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-، والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمين، وبذلك أصبحت المدينة عاصمة حقيقية للإسلام".
وأورد البيهقي: أَنَّ كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ كَانَ شَاعِرًا, وَكَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ, وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلاطٌ؛ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ تَجْمَعُهُمْ دَعْوَةُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, وَمِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ, وَمِنْهُمُ الْيَهُودُ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ -أي السلاح- وَالْحُصُونِ، وَهُمْ حُلَفَاءُ لِلْحَيَّيْنِ؛ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ, فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتِصْلاحَهُمْ كُلَّهُمْ, وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَبُوهُ مُشْرِكٌ, وَالرَّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَخُوهُ مُشْرِكٌ, وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ أَشَدَّ الأَذَى, فَأَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِالصَّبِرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ, فَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) [آل عمران: 186] إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) [البقرة: 109].
فَلَمَّا أَبَى كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْ أَذَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ؛ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَبْعَثَ رَهْطًا لِيَقْتُلُوهُ, فَبَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيَّ, وَأَبَا عَبْسٍ الأَنْصَارِيَّ, وَالْحَارِثَ ابْنَ أَخِي سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي خَمْسَةِ رَهْطٍ, وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قَتْلِهِ.
قَالَ: فَلَمَّا قَتَلُوهُ فَزِعَتِ الْيَهُودُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ, فَغَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَصْبَحُوا، فَقَالُوا: "إِنَّهُ طُرِقَ صَاحِبُنَا اللَّيْلَةَ وَهُوَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا فَقُتِلَ؟!".
فَذَكَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِي أَشْعَارِهِ، وَيَنْهَاهُمْ بِهِ, وَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كِتَابًا يَنْتَهُوا إِلَى مَا فِيهِ, فَكَتَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَامًّا صَحِيفَةً، كَتَبَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ الْعَذْقِ الَّذِي فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ, فَكَانَتْ تِلْكَ الصَّحِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-" [السنن الكبرى للبيهقي (9/ 308) (18628)].
فبهذه المعاهدة صار لهم حقوق، منها:
1- الدفاع عنهم إذا اعتدي عليهم.
2- عدم التعرض لأنفسهم بقتل من قتل معاهد.
3- عدم التعرض لأعراضهم بسب أو شتم.
4- عدم لتعرض لأموالهم بسرقة أو نهب، أوغصب أوسلب.
الخطبة الثانية:
فإذا نقضوا بندا من بنود المعاهدة؛ فليس لهم حقا من هذه الحقوق، وهم الذين جنوا على أنفسهم، وهذه طبيعة في اليهود: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 100].
ومن هذا النبذ، وذاك النقض:
1- قتلُ أحدِهم فتاةً أنصارية طمعا في حُليها.
2- وَأَوَّلُ فِرْقَةٍ غَدَرَتْ، وَنَقَضَتِ الْمُوَادَعَةَ؛ بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَكَانُوا خُلَفَاءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ [الأموال لابن زنجويه (2/ 473)].
3- بنو النضير أرادوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-.
4- بنو قريظة جيشوا الجيوش وحرضوا قريشا والأعراب لقتال النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين.
5- في خيبر حاولوا سمه بتسميم طعامه الذي قدموه له.
فما هو موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين من هؤلاء الذين كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم؟!
1- القاتل يقتل، فقتل اليهودي الذي قتل الجارية الأنصارية، ولم يقتل جميع قبيلته؛ لأنه عمل فردي.
2- تواطؤ بني قينقاع على نقض المعاهدة، جاء في [تاريخ الإسلام للذهبي (2/ 146)]: "قَالَ: وَعَنْ أَبِي عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ؛ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلْبٍ لَهَا فَبَاعَتْهُ بِسُوقِهِمْ، وَجَلَسَتْ إِلَى صَائِغٍ بِهَا. فَجَعَلُوا يُرِيدُونَها عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا، فَلَمْ تَفْعَلْ. فَعَمِدَ الصَّائِغُ إِلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا فَعَقَدَهُ إِلَى ظَهْرِهَا. فَلَمَّا قامت انكشفت سوأتها فَضَحِكُوا، فَصَاحَتْ. فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّائِغِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ يَهُودِيًّا. فَشَدَّتِ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ. فَأُغْضِبَ الْمُسْلِمُونَ، وَوَقَعَ الشَّرُّ" أ. هـ.
فجزاؤهم جميعا القتل، لولا تدخل رأس المنافقين عبد الله بن أُبيِّ بن سلول، فعفا عنهم كرامة لابنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، فأجلاهم عن المدينة.
3- تمالؤ بني النضير كلهم على قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأفشلهم الله -سبحانه-، وأجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المدينة.
4- أما بنو قريظة قاطبة؛ فقد نقضوا العهود، وشاركوا المشركين في حربهم على المسلمين، وألبوا عليهم القبائل، وآوت عدو الله؛ حيي بن أخطب، وكادوا أن ينقضوا على عورات المسلمين من خلفهم، عندما كانوا منشغلين بالمشركين في غزوة الخندق.
5- لم يعاقب أهلَ خيبر كلَّهم، بل استجوب من وضعت له السم، ولم يقتلها أولا، ثم لما مات البراء متأثرا بالسم قتلها وحدها به. فالقاتل يقتل إن لم يكن عفو أو صفح أو قبول دية.
فالخصام والنزاع يدب أحيانا بين الإخوة الأشقاء، وذلك للطبيعة البشرية، والاقتتال الداخلي؛ قَبَلِيًّا كان أو حزبياًّ أو فصائلياًّ؛ ينشأ لشهواتٍ ذاتيَّة، أو شبهاتٍ فكريَّة، أو نظرياتٍ عقائدية.
والصلحُ والإصلاح يتمُّ ويحصلُ بين الأعداء، أليس من الأولى والأجدر أن يكون بين الإخوة في الدين والوطن والعروبة؟!
"اللَّهُمَّ ألِّف بَين قُلُوبنَا، وَأصْلح ذَات بَيْننَا، واهدنا سبل السَّلام، ونجنا من الظُّلُمَات إِلَى النُّور، وجنِّبْنا الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن، وَبَارك لنا فِي أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، وَأَزْوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا، وَتب علينا إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بهَا قابليها وأتمها علينا".
"اللَّهُمَّ إِنَّا نسألكَ العافية في الدُّنيا والآخرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَو والْعَافيةَ في دِيننَا ودُنيانَا وآخِرتنَا، وَأَهْلِنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُر عَوراتِنا، وَآمنِ روعاتِنا، واحْفَظنا مِن بين أيدينا ومنِ خَلفنا، وَعن أيمانِنَا وعن شَمائِلنا، ومن فَوقِنا ونَعُوذ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ من تَحْتِنا، واغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، واستر عُيُوبَنَا، واكْشِفْ كُرُوبَنَا، وأصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وألِّفْ في طاعَتِكَ وَطَاعةِ رَسُولِكِ بَيْنَ قُلُوبنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ"
التعليقات