عناصر الخطبة
1/النهي عن قتل النفس 2/الحكمة من تغليظ عقوبة الانتحار 3/الأسباب العامة للبلاء والمحن والفتن 4/من أسباب جرائم الانتحار 5/دور الأسرة في حماية أبنائهااقتباس
علينا أن نعتبر مما جرى، وأن نخاف على أنفسنا وأهلينا من ذلك المصير المشؤوم، على العاقل أن يفكر كيف لو دخل غرفة ابنه فوجده معلقًا بالسقف يتدلى جثةً هامدة؟! ما موقف وحال الأم إذا أخبرها بذلك؟! وكيف لو دخل فوجده أو وجدها فحمة محترقة؟!...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -تعالى- وراقبوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد: يقول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)[النساء: 29 - 30]، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من تردى من جبل فقتل نفسه؛ فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسه؛ فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة؛ فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا"(متفق عليه)، وفي رواية للبخاري: "والذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار".
انظروا -يا عباد الله- إلى هذا الرب الكريم ينهى عبده المؤمن أن يقتل نفسه، ويخبره أنه رحيم به، فلماذا يتعجل المؤمن الموت؟ لماذا يقنط من رحمة ربه؟ لماذا يجزع مما ألَمَّ به من آلام وهموم، وهو يعلم أن له ربًّا رؤوفًا رحيمًا أرحم به من الأم بولدها؟ فهلَّا وضع همومه بين يديه، ورفع مشاكله وحاجاته إليه، لقد عقَّب الله -تعالى- على النهي عن قتل النفس بأنه (كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء: 29]؛ يعني أن المؤمن إذا ضاقت به الأمور، وتكاثرت عليه الخطوب، وضاقت نفسه بما فيها، عليه أن يتذكر رحمة الله؛ فتذهب همومه، وتزول خطوبه، وينجاب اليأس والقنوط عن نفسه، هذا إذا كان مؤمنًا، ذاكرًا لله، مقدِّرًا له حق قدره، فإن لم يكن كذلك وغلبه اليأس؛ (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87]، وأوهنه القنوط؛ (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)[الحجر: 56]، فإنه بذلك قد فَقَدَ الإيمان، وظنَّ بالله ظن السوء؛ فبذلك استحق أن يتوعده الله هذا الوعيد الشديد: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)[النساء: 30]، إنه هارب من عذاب الدنيا الذي سوف ينتهي قريبًا بالعافية أو بالموت، فيقع في العذاب الذي لا ينتهي؛ كما جاء في الحديث.
ولماذا هذه العقوبة كلها أيها الأخوة؟!.
نعم، إن هذه الجريمة البشعة العظيمة ليس لها ما يسوغها كسائر الجرائم، جرائم القتل والظلم وأكل أموال الناس، فتلك الجرائم لها دوافع كثيرة، لكن قتل النفس ليس له إلا القنوط من رحمة الله، واليأس من روحه، وسوء الظن به، وكل ذلك ليس من أخلاق المؤمنين، ولا من شِيَمِهم؛ ولذلك استحق تلك العقوبة القاسية الشديدة.
عباد الله: لقد كنا معافين في هذه البلاد من هذه الجرائم؛ جرائم الانتحار والقتل، فلماذا تظهر في ديارنا دفعة واحدة وبصورة لافتة للنظر؟! وبصورة لا يكاد يتخيلها عاقل، في مدة وجيزة وخلال أشهر معدودة سبع حالات انتحار؛ ثلاث نساء، وأربعة رجال، منها في هذا الأسبوع فقط ثلاث حالات فقط في المكلا والغيل، وهناك ثلاث حالات قتل مشبوهة أكثر بواعثها أمور أخلاقية، ما هذا؟! يصدق أن في حضرموت بلاد العفة، بلاد الأمن والإيمان، بلاد السكينة والرحمة، بلاد التعاطف، بين عشية وضحاها تنقلب الموازين، وتنتكس القيم رأسًا على عقب، أو ليس هذا جديرًا بأن نبحث عن الأسباب، ونتعرف على البواعث؟.
إن الأمر لا يحتاج إلى كثرة تفكير، ولا طول تأمل، فهذا القرآن بين أيدينا جعله الله تبيانًا لكل شيء، وما فرط فيه من شيء؛ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[الإسراء: 9-10]، وعندنا سنة الهادي البشير النذير، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحَى، الذي تركنا على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
فالله -تعالى- يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30]، ويقول: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خمسٌ بخمس"، قالوا: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: "ما نقض قومٌ العهد إلا سُلِّط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا مُنعوا النبات وأُخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القَطْرُ"(رواه الطبراني وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل"(رواه أحمد)؛ فهذه هي الأسباب العامة للبلاء والمحن والفتن، والمصائب والجرائم، سببها المعصية والإعراض عن ذكر الله.
وأما جرائم الانتحار بشكل خاص، فإن لها أسبابًا تخصها، وأنا لا أريد أن أجرح مشاعر أحد، ولا أريد أن أقذف أناسًا قد أفضَوا إلى ما قدموا، ولكن أقول: إن أهم أسباب الانتحار هو ضعف الإيمان، ووجود اليأس والقنوط وسوء الظن بالله، وسبب هذه الأشياء هي معصية الله والبعد عنه.
وتأتي في رأس قائمة المعاصي التي تُسبِّب الانتحار الخمورُ والمخدرات؛ ذلك لأنها تصيب متعاطيها بالكآبة، وهي مظهر من مظاهر اليأس والقنوط، كما أن متعاطيها يرتقي حتى يصبح مدمنًا، ومعنى ذلك أنه لا يقدر على التخلي عنها بأي صورة من الصور، ويستخدم للحصول عليها كل ممكن ولو كان العِرض، أو روح الغريم، أو ضرب الوالدين، أو احتراف الإجرام، وإذا أعيت الحيل كلها مع وجود الكآبة، لم يبقَ أمامه إلا الانتحار، وهناك قصص كثيرة ومروِّعة للمدمنين، وكثير منها انتهت بالانتحار، وفي محافظتنا بالذات قد يلحق القات بالمخدرات، وقد يتسبب في ذلك.
ويأتي بعد المخدرات والمسكِرات الفاحشةُ، أي: الزنا واللواط، وقد نصَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على أنه: "إذا ظهرت الفاحشة في قومٍ فشا فيهم الموت"، فالموت يفشو بالأمراض الفتَّاكة والغريبة كالإيدز وغيره، ويفشو بالقتال بين الناس بسبب ذلك، ويفشو بسبب أن بعض النساء إذا ظهر عليها الحبل لم تستطع أن تواجه به الناس؛ فتؤثِر الانتحار والتخلص من العار، وكذلك المفعول بهم من اللوطية؛ بعضهم يفشو أمره، ويشتهر على ألسنة الناس، فلا يتحمل ذلك، فيقتل نفسه خلاصًا من تلك الفضيحة، وبعض من الرجال الغافلين تأتي غَيرتهم متأخرة، فهو غافل عما يعمله ابنه، وتعمله ابنته، حتى إذا شاع وانتشر، وظهر ظهور الشمس والقمر، أتَتِ الغَيرة فقتله أو قتلها، وما يغني ذلك عنه في الدنيا أو في الآخرة، إنها فضيحة أخرى، وجريمة مضاعفة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
فهلَّا توقينا ذلك، والوقاية خير من العلاج، هلا عملنا بقول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6]، وهلَّا عملنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"(متفق عليه)، أو إننا رضينا لأنفسنا وأبنائنا ما قال الشاعر:
ليس اليتيم من انتهى أبواه *** عن همِّ الحياة وخلَّفاه ذليلًا
إن اليتيم هو الذي تلقى له *** أمًا تخلَّت أو أبًا مشغولًا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لقد قصَّ الله علينا قصص الأولين قال معقبًا عليها: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111]، وقال بعد أن ذكر ما حصل ليهود بني النضير من ذلٍّ وهوان، وإخراج من المدينة، مع ترك الأموال فيها للمؤمنين، وإخراب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، قال: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)[الحشر: 2].
نَعَمْ، علينا أن نعتبر مما جرى، وأن نخاف على أنفسنا وأهلينا من ذلك المصير المشؤوم، على العاقل أن يفكر كيف لو دخل غرفة ابنه فوجده معلقًا بالسقف يتدلى جثةً هامدة؟! ما موقف وحال الأم إذا أخبرها بذلك؟! وكيف لو دخل فوجده أو وجدها فحمة محترقة؟! أو دخل والنار تشتعل فيه لا مكان لإنقاذه ولا أمل في تخليصه؟! وكيف لو وجده قد أطلق الرصاصة على رأسه وغرق في دمائه؟! من يتحمل هذه المواقف؟! كيف يغفل حتى يكون هذا المصير؟! أمَا فكَّر في هذا الطفل وحرص على سعادته في الدنيا والآخرة؟! إن كان كذلك، فلِمَ تركه يصحب الأشرار، ويقارف المعاصي، ويحترف الفاحشة؟!.
عباد الله: لقد بُحَّتْ حلوق الواعظين، ويبست ألسنة المذكِّرين، وهم يحذرون وينذرون من عواقب المعاصي وأضرارها، ولكن لا سميع ولا مجيب، وكأن لسان حال كثير من الناس يقول: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)[فصلت: 5]، فالفاحشة ظاهرة منتشرة من الزنا واللواط، لا تكاد تخلو منه حارة إلا ما شاء الله، والحبوب والخمور والمخدِّرات تروجها عصابات، وتعمل بشكل منظم لها شياطين الإنس، ورواد إفساد، وعبَّاد المال، وكلاب الأعراض، مع إهمال فظيع من الأهل، وتواكل عجيب من المسؤولين، وتراخٍ كبير ممن يفترض فيهم العقل والغيرة؛ حتى وقعت الكارثة، وصُدم الجميع لهولها، ولكن ماذا عملنا لتلافي مثلها؟ لا شيء!.
من يَهُنْ يسْهُل الهوانُ عليهِ *** ما لجرح بميتٍ إيلام
عباد الله: ما حق أحدنا أن يغفل ويكسل بعد الذي حدث، علينا أن يقوم كل واحد منا بواجبه.
التعليقات