اقتباس
بل بلغ انحراف المبتدعة حد لا يصدقه عقل، وذلك باتهام الرسل - عليهم السلام - بالكذب والجهل، مثل قول غلاة الجهمية والفلاسفة مثل الفارابي، وقد قسّم ابن تيمية المبتدعة لعدة أقسام في هذا الباب:
تكلمنا في الجزء الأول من الموضوع عن الاستدلال والتفكير عند أهل الجاهلية المحرومين من نور الوحي وهداية السماء، وقارنها بين الاستدلال والتفكير عند أهل الإسلام الذي أضأ الله عز وجل قلوبهم وأنار عقولهم بالرسالة المحمدية، وبيّنا القواعد العامة للاستدلال والتفكير في الإسلام. وفي هذا الجزء سوف نتكلم عن منهج أهل البدعة والضلالة في التعامل مع النصوص الشرعية التي تمثل أسس الاستدلال والتفكير، مقارنة بمنهج أهل السنّة الذين يعتمدن على الكتاب والسنّة بفهم الصحابة وسلف الأمة.
أولا: منهج المبتدعة مع مصادر التلقي والاستدلال
اتصف المبتدعة على اختلاف فرقهم ومناهجهم بجراءة غير عادية في التعامل مع النصوص الشرعية، جراءة تجعلهم يقدمون بين يدي الله ورسوله، وينزلون أنفسهم وعقولهم القاصرة في مقامات العلا، يناطحون بها الوحي المعصوم، والثابت المحكم، والقطعي المجمع عليه. وللمبتدعة أصول ثلاثة عامة لمنهجهم في الاستدلال وهي:
الأصل الأول: رد النصوص الشرعية
من أبرز الصفات التي تميز المبتدعة عن أهل السنّة ؛ الجراءة في رد النصوص الشرعية التي تخالف أهواءهم وبدعهم الذين يدعون إليها، والأمثلة على ذلك كثيرة، فهذا عمرو بن عبيد أحد أئمة الاعتزال الكبار يقول: لو كانت ( تب يدا أبي لهب وتب ) [ المسد: 1] في اللوح المحفوظ لم يكن لله على العباد حجة، هكذا قالها بكل جراءة منكرا كونها من القرآن والوحي، ولم يكتف بجنايته على القرآن، ولكنه جنا أيضا على الحديث، فقال في حديث ابن مسعود الشهير عن خلق الإنسان " إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك ..... " قال عنه هذا البدعي الضال: " لو سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته، ولو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت له: " ليس على هذا أخذت ميثاقنا " فأي جراءة تلك التي تجسر صاحبها على تقحم هذه المهالك والزندقة ؟!.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: "وحدثني الثقة الذي رجع عنهم ـ يقصد الصوفية القائلين بوحدة الوجود ـ لما انكشف له أسرارهم: " أنه ـ يقصد التلمساني ـ قرأ عليه فصوص الحكم لابن عربي، قال: فقلت له هذا الكلام يخالف القرآن ! فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا. قال: فقلت له: فإذا كان الكل واحدا فلماذا تُحرَّم على ابنتي وتحل لي زوجتي ؟ فقال: لا فرق عندنا بين الزوجة والبنت، الجميع حلال، لكن المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا حرام عليكم " وقال ابن تيمية في موضع آخر: " وأهل العبادات البدعية يزين لهم الشيطان تلك العبادات، ويبغض إليهم السبل الشرعية، حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث، فلا يحبون سماع القرآن والحديث ولا ذكره ".
فما أشبه حال هؤلاء الزنادقة القدامي بإخوانهم الزنادقة المعاصرين من اليساريين والشيوعيين والعلمانيين، ينفر الواحد منهم من كلام الله وكلام رسوله أشد النفور كالحمر المستنفرة، في حين يقدسون كلام ماركس وإنجلز وهوبز وكنت أشد التقديس ويقدمونه على الوحي المعصوم.
بل بلغ انحراف المبتدعة حدا لا يصدقه عقل، وذلك باتهام الرسل - عليهم السلام - بالكذب والجهل، مثل قول غلاة الجهمية والفلاسفة مثل الفارابي، وقد قسّم ابن تيمية المبتدعة لعدة أقسام في هذا الباب:
الأول: أهل التخيل والوهم الذين يرون أن الأنبياء خاطبوا الناس بما تخيلوه وتوهموه، وإن كان الأمر ليس كذلك، لأنّ هذا من مصلحة الجمهور، وإن كان هذا كذبا فهو كذب لمصلحة الجمهور.
الثاني: أهل التجهيل الذين يرون أن الأنبياء وأتباعهم جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه في الآيات وأقوال الأنبياء.
الثالث: أهل التحريف والتأويل الذين يرون أن الأنبياء لم يقصدوا بأقوالهم إلا ما هو الحق في نفس الأمر، وأن الحق في نفس الأمر هو ما علموه بعقولهم، ثم يجتهدون في تأويل النصوص إلى ما يوافق رأيهم.
الأصل الثاني: العبث بالمصادر الشرعية
السمة البارزة الثانية عند المبتدعة ؛ اللعب والعبث في الأصول الشرعية، واعتماد أساليب وطرق ملتوية وغير علمية في التعامل مع هذه المصادر، ومن أبرز هذه الأساليب والطرق في العبث بالنصوص والمصادر الشرعية:
1 ـ الاقتصار على القرآن دون السنّة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذرنا من ظهور هذه الطائفة من الناس التي ترد سنته ولا يأخذون إلا بما في القرآن فقط، وكان الخوارج أول من وقع في هذا المسلك البدعي. قال ابن تيمية: " وقد حكى أرباب المقالات عن الخوارج أنهم يجوزون على الأنبياء الكبائر ،ولهذا لا يلتفتون إلى السنة المخالفة لرأيهم لظاهر القرآن وإن كانت متواترة، فلا يرجمون الزاني، ويقطعون يد السارق فيما قل أو كثر، زعما منهم على قيل إنه لا حجة إلا القرآن ".
كما حكي هذا المسلك أيضا عن غلاة المعتزلة. وفي العصر الحديث ظهرت فرقة القرآنيين في الهند وزاد شرها وانتشر أمرها، وهم ينكرون السنّة جملة وتفصيلا، ولهذه الجماعة الضالة أنصارا وأتباعا في عدة دول، ولهم أيضا دعاة يخرجون على الفضائيات ولهم جمهور لا يعرفون حقيقة مذهبهم الضال.
وللصحابة وأئمة السلف وكبار العلماء آثار كثيرة في الإنكار على من يقول بهذا المسلك، قال الإمام البربهاري: " إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن ؛ فلا تشك أنه رجل قد احتوى على زندقة، فقم من عنده ودعه ". وقال الشاطبي: " الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم، خارجين عن السنة ؛ إذ عولوا على ما بنيت من أن الكتاب فيه بيان كل شيء، فاطرحوا أحكام السنّة، فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزل ".
2 ـ الإيمان ببعض القرآن دون البعض، وهو من ميراث يهود في هذه الأمة، فيهود هم أول من آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، فكان من الأمة من اقتفى أثرهم، وسار على دربهم، من التصديق والعمل ببعض آيات القرآن، والتكذيب والإعراض على البعض الآخر، وكل حسب الأهواء وموافقة الآراء. والخوارج والمرجئة هم أكثر الفرق الضالة عملا بهذا المسلك، فكلاهما يرد على الآخر بأدلة لو قبل بها الفريق الآخر، ما وقع في بدعهم الضالة، فالخوارج قد أخذوا بنصوص الوعيد، وأغفلوا نصوص الوعد، ففهموها بصورة خاطئة، فراحوا يكفرون الناس ويستحلون دماءهم وحرماتهم بغير حجة ولا برهان.
أما المرجئة فأخذوا بنصوص الوعد، وأغفلوا نصوص الوعيد، ففهموها أيضا بصورة خاطئة، فقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وراحوا يساوون بين إيمان أعبد وأتقى الناس، وبين أفجر وأعصى الناس. وإزاء هذا التفريط وذاك الإفراط كان موقف أهل السنّة والجماعة ؛ الموقف الحق. قال الشاطبي: " كثيرا من الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصارا بالنظر على دليل ما، واطراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له ".
3 ـ الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إما صراحة بتعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا غالب فعل الزنادقة والباطنية والرافضة والجهمية لذلك قال الشافعي - رحمه الله -: " لم أر من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة "، وقال ابن تيمية: " وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم ".
وإما أن يكون الكذب عليه صلى الله عليه وسلم برواية المكذوب والموضوع، مع علمهم بكذبه ووضعه، وإما جهلا منهم به، وذلك بسبب تكاسلهم وعدم اعتنائهم بدراسة الأسانيد والمتون وتحرير الصحيح من الضعيف، وهذا حال عامة المبتدعة، وحال أيضا كثير من جهال أهل السنّة، وقد تسبب ذلك التهاون بشر مستطير على الأمة، فقد أدى لفشو البدع وانتشار الخرافات وإدخال ما ليس من الدين فيه، وتربت عليه الأجيال ونشأت عليه الأمم حتى صار من أراد أن يردها إلى الدين الصحيح من جملة المحرفين والمبدلين للدين في زعمهم.
4 ـ كتمان النصوص، وهو أيضا من شيم أهل الكتاب الذين نعى الله - عز وجل - عليهم في كتابه الحكيم في عدة مواضع ؛ كتمان العلم والعبث به في مقابل ثمن زهيد من لعاعة الدنيا، فسار أهل البدع على دربهم واقتفوا أثرهم، وأخذوا بحظ وافر من هذه البدعة الذميمة. قال وكيع رحمه الله: " وأهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ". وقال ابن حزم: " ولا أرق دينا ممن يوثق راوية إذا وافقت هواه، ويوهنها إذا خالفت هواه ؛ فما يتمسك فاعل هذا من الدين إلا بالتلاعب " وقال ابن تيمية: " فلا تجد مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحديث بها ".
5 ـ تحريف النصوص ؛ والتحريف ظاهرة غاية في الخطورة، لا يوجد مبتدع إلا ووقع فيه وقام به بدرجات متفاوتة، وتحريف النصوص هي صنعة يهود، فهم خبراء في تلك الجريمة الشنعاء، قال تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) [ البقرة 75].
وعاقبة تحريف النصوص وخيمة للغاية، فهو تسويه لمصادر الدين وتكدير لمنابعه الأصلية، يتمكن المبتدعة من خلاله تشويه الدين وطمس رسومه. والتحريف ثلاثة أنواع:
الأول: تحريف اللفظ؛ مثال ما فعله بنو إسرائيل مع الأمر الإلهي لهم بقول لفظ " حطة " عند دخول بيت المقدس، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قيل لبني إسرائيل ( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا، وقالوا: حطة، حبة في شعرة ".
والثاني: تحريف المعنى ؛ ويقصد به صرف اللفظ عن ظاهره في لسان العرب، وهو ما يسمى بالتأويل عند المتأخرين، وهذا النوع هو الأكثر شيوعا والأشد خطرا على الدين، منه ولج المبتدعة والزنادقة إلى الطعن في الدين والعبث به، وقد استخدمه المبتدعة في تأويل آيات الصفات والعقائد والغيبيات كلها، وقال بعضهم مثل القرامطة: إن للقرآن ظاهر وباطن، فالظاهر للعامة، والباطن للخاصة. قال ابن القيم - رحمه الله -: " التأويل: أصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنه مراده ".
والثالث: تحريف الأدلة عن مواضعها، وهو من الأنواع الخفية التي يقع فيها كثير من الناس ممن يريد الخير مع قلة علمه، قال الشاطبي: " يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهما أن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه " وهو ما يعرفه أهل العلم المحققون بالبدعة الإضافية، مثل الاجتماع على ذكر الله بلسان واحد وبصوت واحد، أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات.
6 ـ الطعن في الصحابة وسلف الأمة، فأكثر المبتدعة انحرفوا في شأن الصحابة بصورة كبيرة، حيث ظنوا أن الخلف أعلم وأحكم من السلف كما قال قائلهم، فرفضوا اعتماد منهج الصحابة في فهم النصوص الشرعية، ومنهم من قدح في الصحابة وكذب وافترى عليهم، ويعتبر الخوارج والرافضة أول من وقع في الصحابة وتناولهم بالسب والتكفير والتفسيق، وهذا باب كبير ندر أن تجد مبتدعا إلا وكان عن الصحابة مجافيا، ولمنهجهم تاركا.
7 ـ إتباع المتشابهات، وهي السمة الأبرز عند أهل الزيع كما قال الله - عز وجل -: ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشبه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) [ آل عمران: 7] وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسيرها: " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله؛ فاحذروهم ". فمتبعو المتشابهات يضربون النصوص بعضها ببعض، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حذر من ضرب القرآن بعضه ببعض فقال: " مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لا يكذب بعضه بعضا، بل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه "
التعليقات