اقتباس
فضلًا عما سبق، فإن الأمةَ الإسلامية لم تولَدْ في تاريخها إلا بالقُرْآن الكريم، ولم تدخُلِ التاريخَ إلا بالقُرْآن الكريم، ولم تُبدِعْ ما أبدعَتْه في تاريخها من علوم البيان إلا بفضل تدبُّرِها للقُرْآن الكريم، ولا يكونُ إحياء الأمة من...
لما كان مقصود الخَطابة في المجال العربي الإسلامي إصلاحَ أحوال الناس وَفْق هدايات الشرع الإسلامي وأحكامه وحِكمه ومقاصده، ووَفْق ما افترض من وسائلَ وكيفيات، ولن يكون الخطيب جديرًا بالإصلاح إلا إذا راعى هذا المقتضى، ولن يراعي هذا الشرط ما لم ينطلق في خُطَبه من الوحي في الاستشهاد والاستمداد - لذلك وجَب عليه أن يوظف القُرْآن الكريم وآياته في خُطبه بأكبر قدر ممكن، بل إن الجمهورَ المسلم أسرع إذعانًا وأكثر اقتناعًا بالخطاب المتضمن للاستشهاد بكلام الله -تعالى-.
أولًا: قيمة الاستدلال بالقُرْآن الكريم في الخَطابة الإسلامية:
يعتبر الاستدلالُ بالقُرْآن الكريم في المجال التداولي الإسلامي أعلى حجة شرعية مقبولة عند المسلمين، وأقوى الحجج تأثيرًا في المخاطَب، بل إن إيراده في الخُطَب الجمهورية يكون أكثر جلبًا لانتباه المخاطَبين، وأكثر استمالةً لهم للإذعان للحق وقبول ما يدعو إليه الخطيب، وتسليمه بيُسر وقناعة، وأقواهم إلانةً للنفوس للفطرة والعقول والقلوب، وكلما أكثَر الخطيبُ من الاستشهاد بما يكفي لموضوعه، زادَتْ قوة خطبته في نفوس الجمهور، وعظُمَت مكانته لديهم، يقول شهاب الدين الحلبي: "ومِن شرف الاستشهاد بالكتاب العزيز: إقامة الحجَّة، وقطع النزاع، وإذعان الخصم"، وفي بيان قيمة الاستشهاد بالقُرْآن الكريم عند المسلمين قال الجاحظ: "وكانوا يستحسنون أن يكونَ في الخُطَب يوم الحفل، وفي الكلام يوم الجُمَع آيٌ مِن القُرْآن الكريم؛ فإن ذلك مما يورث الكلامَ البهاءَ والوقارَ، والرقَّة، وسلَس الموقع".
ونظرًا لهذه الأهمية فقد اشترط علماءُ المسلمين على المسلم -خطيبًا كان، أو واعظًا، أو كاتبًا- أن يضمِّن كلامه حُجَجًا من القُرْآن الكريم؛ يقول -مثلًا- ناصر العقل في شرحه على العقيدة الطحاوية: "ينبغي للمسلم دائمًا في أي قضية يريد أن يستدل فيها، ينبغي له أن يتحرى أدلة القُرْآن، وألا يحيد عن الدلالة القُرْآنية، إلا بمزيد من الشرح لبعض المعاني التي قد يجهلها الخَصم في معاني الألفاظ، أو ترتيب النتائج على المقدمات التي وردت في القُرْآن، فكل أمرٍ من الأمور الشرعية والعقلية سواء في عالم الشَّهادة أو في عالم الغيب له دليل في القُرْآن الكريم، فلا يمكن للناس أن يأتوا بأفضلَ منه، وهو يناسب جميع البشر بجميع لغاتهم؛ فالأدلة والبراهين القُرْآنية التي وردت في الاستدلال على قضايا الدين، سواء في باب الإيمان بالله عز وجلَّ ووَحْدانيته أو بالبعث أو بسائر أصول الدين، قد اشتملت على كل عناصر الإقناع لأي صِنف من البشر، على اختلاف لغاتهم، لكن الذين يفقَهون العربية لا شك أنهم سيعرفون الدليل مباشرةً مِن القُرْآن".
وقد أصبَح الاستدلال بالقُرْآن الكريم والسنَّة النبوية جزءًا مِن الخُطبة منذ نزول الوحي، واستمر العمل به في زمن الصحابة والتابعين، وفيما وَلِيَ من الأعصار، بل أصحاب الشأن في الخَطابة اعتبروا خُلوَّ الخَطابة من الاستشهاد بالقُرْآن الكريم عيبًا في الخطيب قبل أن يكون عيبًا في الخطبة، وسمَّوُا الخُطبة التي تخلو من الاستشهاد بالقُرْآن الكريم "شوهاء".
وقد بلغ من قيمة حضور القُرْآن الكريم والاستشهاد به في الخَطابة الإسلامية أن الغالبَ على الناس أن يقلَّ في أعينهم الخطيبُ الذي خلت خطبتُه من الاستشهاد بالقُرْآن الكريم، ولو بلغ في تجويدها مبلغًا بعيدًا؛ فقد رُوِيَ أن عِمران بن حِطَّان قال: "خطبتُ عند زياد خطبة ظننت أني لم أُقصِّر فيها عن غاية، ولم أدَعْ لطاعن علة، فمررتُ ببعض المجالس، فسمعت شيخَا يقول: هذا الفتى أخطبُ العرَب، لو كان في خُطبته شيء من القُرْآنِ".
وكلُّ المسلمين -على تفاوتهم في العلم والتديُّن- يجلُّون القُرْآن الكريم، ويعظِّمونه، ويدركون قيمته في التوجيه والإرشاد، ويرغبون في تعلُّمه، والعمل بأحكامه، والانتفاع ببركاته في المجالس، وما ذلك إلا لأن الأمَّة تكونت لديها عبر التاريخ ثقافةٌ أخلاقية تجاه القُرْآن الكريم؛ لأنه كتاب توفَّرت له من الخصائص ما لم تتوفرَّ لكتاب قبله ولا بعده.
ثانيًا: مِن خصائص كتاب الله -تعالى- وقيمة استمداد هداياتها:
1 - القُرْآن الكريم هدًى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )[الإسراء: 9]، وأن: (لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ )[البقرة: 2]، وأنه (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة: 185].
2 - وأنه نورٌ للاهتداء به، وإخراج الناس من الظُّلمات إلى النور: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[المائدة: 15، 16].
3 - وبه بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ بُعِثَ لإخراجِ الأمَّة مِن النور إلى الظلمات: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ )[الحديد: 9]، (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ )[الطلاق: 11].
4 - وهو شفاءٌ؛ تربَّى المسلمون على الاستشفاء به: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ )[يونس: 57]، وقد أخبَر الباري جلا وعلا أن القُرْآنَ الكريم نزل شفاءً ورحمة، فقال سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا )[الإسراء: 82]، (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ )[فصلت: 44].
5 - وأن اتِّباعه هو السبيل الأنجى مِن الشقاوة، والجالب لسعادة الدارين: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى )[طه: 2]، وفي أخرى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى )[طه: 123].
6 - وأن هَجْرَه والإعراض عنه سببٌ للشقاء في الدنيا والآخرة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى )[طه: 124 - 126].
إذًا، ألَا يجدُرُ بالخطيب المسلم الحرصُ على توظيف القُرْآن الكريم في استشهاداته، واستحضار هذه المقاصد الجزئية والكلية، وإعمال شواهده؛ لإرساء قواعده، وخدمة مقاصده في الإصلاح والتهذيب، والوعظ والإرشاد، وهَدْي العباد لهدايات رب العباد.
وتزداد آثارُ الاستشهاد بالقُرْآن الكريم وتعظُم كلما كان الخطيب أعلمَ بمعانيه، وأخشع قراءة وتدبرًا له، حريصًا على التخلُّق به، وقَّافًا عند حدوده، كثير العيش بالقُرْآن الكريم، ومعه، ومِن أجله، آنذاك - وآنذاك فقط - ترى القلوبَ تهتزُّ وتُنبِت كلَّ سلوك صالح نافع.
ثالثًا: شروط الاستدلال بالقُرْآن الكريم:
♦ أن يستدل بالآيات القطعية الدلالة، التي هي نصٌّ في بابها، وعدم الاشتغال بإيراد الآيات الظنية، أو غير الدالة على القصد دلالة قاطعة.
♦ إذا استدل الخطيب بما هو ظنيٌّ مِن آي القُرْآن، فعليه مراعاة ما يلي:
- مراعاة شروط التأويل السائغ والمقبول عند العلماء.
- مراعاة ما عليه الجمهور دون الميل للآراء الشاذة، إلا لنُكتةٍ.
- الاستشهاد بكل ما يجعل التأويل سائغًا من الحُجَجِ والأدلة من القُرْآن نفسه، والسنَّة، وأقوال الثقاتِ مِن العلماء.
♦ انتقاء الأقوى والأنسب من الآيات في المقام، والتوسُّط في ذلك، دون إكثار مُمِل، ولا تقصير مُخِل.
♦ بيان وجه الدلالة من الآيات غير الصريحة، أو التي ليست نصًّا في بابها.
♦ استحضار جميع نصوص القُرْآن الكريم والسنَّة النبوية في المسألةِ مَحَلِّ الاستشهاد لها.
رابعًا: أخطاءٌ يقع فيها بعض الخطباء؛ منها:
- نقلُ الروايات الضعيفة، والإسرائيليات، والأقوال الشاذة، والتأويلات الضعيفة والبعيدة مِن غير فحصٍ ولا تمحيص، بل الواجب اعتمادُ ما صحَّ مِن الروايات وصلَح، وقوِي دليلُه ورجَح، وهو محل قبول واعتبار من جمهور الأمة، ولا يسُوغ للخطيب إيراد ما ضعُف دليله، أو بعُد تأويلُه، إلا لنكتة في الأمر، أو وجه معين فيُقدَّر بقدره.
- إحياء النزعة الجدلية والكلامية، واستنساخها، والإغراق في إيراد الخلافات الكلامية واللُّغوية في المسألة دون حاجةٍ عملية، قد تكون جهلًا مِن الخطيب بالمقصود الذي يرُومه، أو إعجابًا منه بما ينقُله، أو إظهارًا لعِلمه وسَعة معارفه...
- الإكثار من إيراد كل الأقوال المختلفة في المسألة الواحدة، مما لا يكون له تعلُّقٌ قويٌّ بالمراد والقَصْد، فيسقط في اللغو والحشو، والخُلو من الفائدة، وشَغْل السامعين بجزئيات الأمور، وبما ليس تحته عمل، فضلًا عن أن ذلك كثيرًا ما يكون سببًا للملَل والضجَر للمستمِع والمتحدِّث معًا؛ فقد رُوِيَ عن عمرو بن عبيد أنه كان يقول: "إذا طال الكلامُ عرَضَتْ للمتكلِّم أسبابُ التكلُّف، ولا خيرَ في شيء يأتيك به التكلُّف".
- الجزمُ بالتأويلات، والتصويبُ والتخطئة بأسلوب فجٍّ وَقِحٍ غيرِ علمي قد يُسيءُ إلى علماء الأمة، والتعصُّب لآراء أحد المفسِّرين بما قد يدعو إلى تأجيجِ الخلافات المذهبية، وإيقاظ فِتَن الفُرْقة، والجدل العَقيم بين الجمهور.
- الاستدلال بآيةٍ ليست دالةً على المقصود مباشرةً.
- الاستدلال بجزء آية لا يتبيَّن المعنى كاملًا إلا بتتمة الآية.
- الاستدلال بآية مِن الظاهر، دون التفاتٍ إلى ما يُقوِّي ذلك الظاهر مِن تخصيص، أو استثناء، أو تقييد، أو غير ذلك من المرجِّحات.
- الاستدلال بآية منسوخة، ثبَت عند العلماء نسخُها، وبناء الأحكام عليها دون العلم بنسخها، أو التنبيه على ذلك.
- الاقتصار في بناء الحُكم على آية واحدة، دون الالتفات إلى كل القُرْآن الكريم والسنَّة النبوية مما يتعلَّق بالمسألة موضوع الحُكم؛ لِما قرره العلماءُ مِن أنه لا بد من اعتبار كليات الشريعة وجزئياتها عند إجراء الأدلة، فهذا ابن حزم الظاهريُّ يؤكد هذه القاعدة الذهبية فيقول: "الحديثُ والقُرْآن كلُّه كلفظةٍ واحدة، فلا يُحكَم بآيةٍ دون أخرى، ولا بحديثٍ دون آخر، بل يُضمُّ بعضُه إلى بعض"، والإمام الشاطبيُّ -رحمه الله تعالى- ينبِّهُ على هذه القاعدة في النظر الكلي للقُرْآن الكريم والسنَّة: "إذ مِن الواجب اعتبارُ تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة... إذ مِن المحال أن تكونَ الجزئياتُ مستغنيةً عن كلياتها، فمَن أخذ بنص في جزئيٍّ، معرضًا عن كلِّيِّهِ فقد أخطأ"، وقال أيضًا: "شأنُ الراسخين في العلم تصوُّرُ الشريعة صورةً واحدة، يخدُمُ بعضُها بعضًا".
- الاكتفاء في تفسير الآية بالرجوع إلى تفسير واحد، أو تفاسيرَ لطائفة مذهبية، أو لمنهج واحد، دون تقصِّي المعنى عند سائر المفسِّرين من مختلِف المذاهب والمناهج، قديمًا وحديثًا.
- وأقبحُ منه الاكتفاءُ بتفسير الآية بما يخطُرُ على الذهن، واعتمادًا على الرأيِ والاجتهاد الشخصي مِن قِبَل مَن هو غيرُ مؤهَّلٍ لذلك.
- الاستدلال بالآية دون بيان وجه الدلالة، وقد يسُوق الخطيبُ آيةً طويلة تتناول قضايا متعددة دون بيان مَحَلِّ الشاهد منها.
والخلاصة: أن الاستشهادَ بالآيِ مِن كتاب الله -تعالى- يعتبر جوهرَ الكلام، ودُرَرَه التي تُلزم الخَصم بالإقناع، وتبعَث على الاطمئنان والسكينة، وحُسن السماع والاستماع؛ لذلك وجَب على الخطيب أن يكون ريَّانًا مِن كتاب الله -تعالى-، وقد نصَح أصحابُ فن الكتابة والترسُّلِ الكاتبَ والشاعر - ومنهم: الخطيب، والداعية، والواعظ - بأن يكون "أول ما يبدأ به مِن ذلك حفظ كتاب الله -تعالى-، مداومة قراءته، وملازمة درسه، وتدبُّر معانيه؛ حتى لا يزال مصورًا فيه، دائرًا على لسانه، ممثلًا في قلبه، ذاكرًا له في كل ما يرِدُ عليه مِن الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها، ويفتقر إلى إقامة الأدلة القاطعة به عليها، وكفى بذلك معينًا له في قصده، ومغنيًا له عن غيره؛ قال -تعالى-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام: 38].
وقد أخرج مِن الكتاب شواهد لكل ما يدور بين الناس في محاوراتهم ومخاطباتهم مع قصورِ كل لفظ ومعنًى عنه، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بسورة من مثله"، بل يكفي في الاستشهاد للقوَّة الحِجاجيَّة للدليل من القُرْآن الكريم ما ورَد في الخبر، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ عن علي قال: أما إني قد سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا إنها ستكون فتنةٌ"، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله؛ فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحُكم ما بينكم، وهو الفصلُ ليس بالهزل، مَن تركه من جبارٍ قصَمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، وهو حبلُ الله المتين، وهو الذِّكر الحكيم، وهو الصراطُ المستقيم، هو الذي لا تزيغُ به الأهواء، ولا تلتبسُ به الألسنة، ولا يشبَع منه العلماء، ولا يخلُقُ على كثرةِ الرَّدِّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ )[الجن: 1- 2]، مَن قال به صدَق، ومَن عمِل به أُجر، ومَن حكَم به عدل، ومَن دعا إليه هُدِي إلى صراطٍ مستقيم".
فضلًا عما سبق، فإن الأمةَ الإسلامية لم تولَدْ في تاريخها إلا بالقُرْآن الكريم، ولم تدخُلِ التاريخَ إلا بالقُرْآن الكريم، ولم تُبدِعْ ما أبدعَتْه في تاريخها من علوم البيان إلا بفضل تدبُّرِها للقُرْآن الكريم، ولا يكونُ إحياء الأمة من جديد إلا بما أحياها اللهُ به من الوحي؛ لذلك كان الاستشهادُ به في كل كلام وحديث وتواصل وخطاب إنما هو إحياء للذات الحضارية، انطلاقًا مِن مقوماتها الربانية، وخصوصياتها الحضارية، وحفاظًا عليها في البقاء والاستمرار، وتعزيزًا للشعور بالانتماء الحضاري، والانتساب لقافلة الأخيار مِن عباد الله -تعالى- من الأنبياء والمرسلين، والمصلِحين والعلماء الربانيين؛ ولهذا فـ: "إن الاستشهادَ بالآيات والأحاديث لا يوفِّر ركائزَ للبرهنة على صحة الطرح أو صواب المعالجة فحسب، وإنما يُؤمِّن للسامع التجذُّر الثقافي، والتواصل مع أصول تراثه، ومع القيَم والمفاهيم التي كان عليها أسلافُه".
المصدر/ الألوكة
التعليقات