عناصر الخطبة
1/في ظلال قوله تعالى (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) 2/حال العبد عند وقوعه في المعاصي لا يخرج عن ثلاث 3/علامات المستدرجين وأوصافهم.اقتباس
والله -تعالى- يمنح أحيانا عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم، فيتصورون أن هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف وتستولي عليهم الغفلة فينزل عليهم عذاب الله فجأة ويحيط...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران : 102].
أما بعد -عباد الله- تأملوا هذه القصة: لما قدم على عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بما أصيب بالعراق من الغنائم، قال له صاحب بيت المال: ألا أدخِلُه بيت المال؛ قال: لا ورب الكعبة لا يؤوى تحت سقف بيت حتى أقسمه، فأمر به فوضع بالمسجد، ووضعت عليه الأنطاع -غطاء من الجلد- وحرسه رجال المهاجرين والأنصار، فلما أصبح غدا مع العباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه-ما-، أخذ بيد أحدهما، فلما رأوه قشطوا الأنطاع عن الأموال، فرأى منظراً لم يُرَ مثله، رأى الذهب فيه، والياقوت، والزبرجد، واللؤلؤ يتلألأ، فبكى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-؛ فقال له أحدهما: إنه والله ما هو بيوم بكاء، ولكنه يوم شكر وسرور. فقال: إني واللَّه ما ذهبتُ حيث ذهبتَ ولكنه واللَّه ما كثر هذا في قوم قط إلا وقع بأسهم بينهم، ثم أقبل على القبلة، ورفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرَجاً فإني أسمعك تقول: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)(رواه البيهقي).([1])
وكم في هذه القصة من دروس وعبر؛ منها خوف الفاروق -رضي اللَّه عنه- من عقوبة الاستدراج التي حذرنا الله منها قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)، وقال النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَال محذراً: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ -تَعَالى- يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ"، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:- (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)(أخرجه أحمد و صححه الألباني).
قال الشوكاني: المعنى: سنستدرجهم قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى مَا يُهْلِكُهُمْ، وَذَلِكَ بِإِدْرَارِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَنْسَائِهِمْ شُكْرَهَا، فَيَنْهَمِكُونَ فِي الْغَوَايَةِ، وَيَتَنَكَّبُونَ طُرُقَ الْهِدَايَةِ لِاغْتِرَارِهِمْ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ إِلَّا بِمَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ وَالزُّلْفَة.
وقال علي -رضي اللَّه عنه-: كم من مستدرج بالإحسان وكم من مفتون بحسن القول فيه وكم من مغرور بالستر عليه. وقال أبو روق: أي كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال سفيان: نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها، وقيل لذي النون: ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قال: بالألطاف والكرامات: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ).
والله -تعالى- يمنح أحيانا عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم، فيتصورون أن هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف وتستولي عليهم الغفلة فينزل عليهم عذاب الله فجأة ويحيط بهم وهذا من أشد ألوان العذاب ألماً.
والعبد إذا وقع في الذنب لا يخرج عن ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إما أن ينتبه ويندم ويرجع عن خطئه ويتوب إلى الله -تعالى- منه فهذا يفوز بمحبة الله ورحمته؛ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة: 222].
الحالة الثانية: أن ينزل عليه العذاب ليعود إلى رشده ويرجع إلى ربه ويفر إليه فيكون هذا العذاب نعمة على ذلك العبد وسبباً في صلاحه؛ (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يونس: 98].
الحالة الثالثة: أن يتمادى العبد في معصية الله ولا يعتبر بما يحصله من عقوبات فلا يكون أهلاً للتوبة ولا للعودة لرشده بعد التنبيه له، فيعطيه الله نعمه بدل البلاء وهذا هو عذاب الاستدراج.
فإذا رأيت نفسك مصراً على الذنوب والمعاصي والله يعطيك فاحذر إنما هو استدراج احذر من عقوبة الله المفاجأة، احذر أن يأخذك الله -عز وجل- على غرة منك، إن أخذه اليم شديد؛ قال ابن الجوزي -رحمه الله-: علامة الاستدراج العمى عن عيوب النفس، والنفس ما ملكها عبد إلا عز، وما ملكت عبداً إلا ذل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان حمد عبده ورسوله أما بعد:
عباد الله: للمستدرجين علامات منها :
أولاً: الظلم والطغيان؛ قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)، وعَنْ أَبِي مُوسَى -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)(رواه البخاري).
ثانياً: تجدد المعاصي مع تجدد النعم؛ أي أنهم بترادف نِعم الله -تعالى- عليهم، لا يقابلونها بشكر واهبها سبحانه بل يتمادون في العصيان ويوظفون نعم في خدمة شهواتهم المحرمات. قال يحيى بن المثنى: كلما أحدثوا ذنبا جددنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار.
ثالثاً: حبّ الدنيا والتعلق بها والغفلة عن طاعة وذكره وتضيع حقوقه سبحانه؛ قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ).
رابعاً: اتباع الهوى وإعطاء النفس ما تشتهي من الشهوات المحرمة مع الغفلة عن الله والدار الآخرة، فلا يزال الهوى بصاحبه حتى يورده الهلاك، ولذا حذر الله نبيه داود -عليه السلام- بقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
وصدق من قال:
وَمِنَ الْبَلاءِ وَلِلْبَلاءِ عَلامَةٌ *** أنْ لاَ يُرَى لَكَ عَنْ هَوَاكَ نُزُوغُ
الْعَبْدُ عَبْدُ النَّفْسِ فِي شَهَوَاتِهَا *** وَالْحُرُّ يَشْبَعُ تَارَةً وَيَجُوعُ
خامساً: الفرح والبطر وانشراح الصدر بلذة الدنيا عاجلة والاغترار بها، وأكثرها ما يكون ذلك في اللذات البدنية والدنيوية، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ).
عباد الله وللمستدرجين نهاية مؤلمة نعوذ بالله منها خافها كثير من السلف، وكان الفضيل بن عياض كثيراً ما يبكى ويردد قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47].
إن الله -سبحانه وتعالى- يعطي الوقت الكافي لهؤلاء المستدرجين، الذين يتمتعون بمتع الدنيا، رغم غيّهم ومعاصيهم، حتى لا تكون لهم حجة يوم القيامة. يكلهم الله جل وعلا إلى الأسباب التي يتخذونها حتى يقعوا في الهلاك عياذ بالله من ذلك قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ).
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ *** وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ الليَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا *** وَعِنْدَ صَفْوِ الليَالِي يَحْدُثُ الْكَدَر
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا بمنك وكرمك يا حي يا قيوم.
([1]) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 357)
التعليقات