الاستخلاف في الأرض

ناصر بن محمد الأحمد

2010-09-20 - 1431/10/11
التصنيفات: الأحداث العامة
عناصر الخطبة
1/ استخلاف الإنسان في الأرض فتنة له وابتلاء 2/ الذنوب والمعاصي أصل الشرور والأدواء 3/ كل راع سوف يسأل عن رعيته حفظ أم ضيع 4/ باب التوبة والإصلاح مفتوح لا يغلق
اهداف الخطبة

اقتباس

ها أنتم خلفاءُ في الأرض للماضين، ووُرَّاثٌ للسّابقين، وسُكَّانٌ في بلاد الغابرين، وها هي مساكنُهم عيانٌ للنّاظرين: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، كيف تحكمون؟! وأيَّ شيء تصنعون؟! وما تعمُرون؟! تطيعون أم تعصون؟! تتّقون وتشكرون أم تجحَدون وتكفُرون؟!

 

 

 

إن الحمد لله ...

أما بعد:

أيها المسلمون: (عْبُدُواْ اللَّهَ وَرْجُواْ الْيَوْمَ الآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) [العنكبوت: 36]، (وَتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَلْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ) [الشعراء: 184]، خلقكم الله بقدرتِه، وجعلكم خلائفَ في الأرض بحكمتِه، وسخَّر لكم زينتَها برحمتِه، وبوَّأكم في الأرض تتَّخذون من سهولِها قصورًا، واستعمَركم فيها دُهورًا، بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا.

بيدِه ملكُ الدّنيا والآخرة وسلطانُهما، نافذٌ أمره وقضاؤه فيهما، لا يمنعه مانِع، ولا يحول بينه وبين ما يريد قاطِع: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنـزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].

استخلفكم في هذه الأرض لإقامة أحكامِه، وتنفيذ أوامرِه، وتحكيم شريعتِه، وتوحيده وطاعتِه: (لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَاتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الحج: 41].

هذا هو العهدُ والميثاق، من وفَّى به حصَّل سعادةَ الدنيا وطيبها، وأمِن شقاءها وخوفَها، ومن نقضَه لقي وَبال مخالفتِه، وعاقبةَ غوايته، وشقاءَ جهالته: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك: 2]، ليبلوكم أيّكم له أطوَع، وإلى مرضاته أسرَع، وعن محارمِه أورع: (وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم) [محمد: 38]، (وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ) [الأنعام: 133]، (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيراً) [النساء: 133]، قادرٌ عليه، ويسيرٌ عليه: (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِين) [الأنعام: 134]. تلك حقيقةٌ يبدئ فيها القرآنُ ويُعيد، ويكرِّرها كثيرًا ويَزيد، فما أغفَلَنا عنها، وما أحوجَنا إليها.

أيّها المسلمون: إنَّ نعمةَ الاستخلاف في الأرضِ، والعيش في أرجائها، والمشيِ في مناكبها، فتنةٌ وابتلاء، وليس أعظم من فتنة النّعماء وامتحان السراء؛ لأنّ الرخاءَ يُنسي، والمتاع يُلهي، والثّراء يُطغي، في دُنيا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرِها، مونِقة في مظهرها، الفتنةُ بِها حاصِلة، وعدمُ السلامة منها غالبَة، يقول رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإنّ الله مستخلفُكم فيها، فينظرَ كيف تعملون، فاتّقوا الدنيا واتّقوا النساء، فإنَّ أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". أخرجه مسلم. يقول الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: "معنى "مستخلفكم فيها" أي: جاعلُكم خلفاءَ من القرون الذين من قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيتِه وشهواتِكم".

أيّها المسلمون: ها أنتم خلفاءُ في الأرض للماضين، ووُرَّاثٌ للسّابقين، وسُكَّانٌ في بلاد الغابرين، وها هي مساكنُهم عيانٌ للنّاظرين: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس: 14]، كيف تحكمون؟! وأيَّ شيء تصنعون؟! وما تعمُرون؟! تطيعون أم تعصون؟! تتّقون وتشكرون أم تجحَدون وتكفُرون؟! قرأ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذه الآية: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، فقال -رضي الله عنه-: "قد استُخلفتَ يا ابن أمِّ عمر، فانظُر كيف تعمل". وقال -رضي الله عنه-: "صدَق ربّنا، ما جعَلَنا خلفاءَ إلا لينظرَ كيف أعمالُنا، فأَرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار، سرًّا وعلانية". ويقول -جلّ في علاه-: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 129]، ينظرُ كيف يعمَل الغني في غناه، وذو الجاه فيما أعطاه، وذو الصّحّة فيما آتاه، أطاعَه أم عصاه؟! ينظر هل تتصرَّفون في الأرض بالحقّ أم بغير ما ارتضى؟!

أيّها المسلمون: لقد استخلفَ الله أُممًا في الأرض سنينَ عددًا، ولبِثوا على هذه البسيطة أمَدًا، فلم يراعوا له عهدًا، وقد أراد بهم ربُّهم رَشَدا، قصَّ الله علينا من أخبارِهم وأنبائهم ما فيه عبرةٌ للمعتبرين، وازدجار للظالمين، وموعظةٌ للمتّقين، قال الله عنهم: (وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) [الأعراف: 102]، لم يكونوا أوفياء، لم يكونوا أُمناءَ، بل كانوا مَرَقة فَسَقة، خارجين عن الطّاعة والامتثال، إلى المعصيةِ والضّلال، أممٌ سادتْ ثمّ بادت، قادت ثم فادَت: (مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: 207]. فحذار حذار أن يكونَ لنا من حالِهم نصيب، حذارِ حذار أن تعصُوا الله في بلادِه أو تضادُّوه في مرادِه، فإنَّ الأرضَ لله يورثها من يشاء من عبادِه.

إنه ما من شر وداء في الدنيا والآخرة إلا وسببه الذنوب والمعاصي، تأمل -رعاك الله- كتاب ربنا سبحانه حين قص علينا ما حل بالأمم السابقة من أنواع العقوبات، جزاء معصية الله ومخالفة أمره، تأمل ما الذي أخرج الوالدين من الجنة -دار اللذة والنعيم- إلى دار الآلام والأحزان، وتأمل ما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه، وبدله بالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجنة نارًا، فهان على الله غاية الهوان، وحل عليه غضب الرب، فمقته أكبر المقت، كل هذا بمخالفة أمر الله وارتكاب نهيه، وتأمل ما حل بالأمم المخالفة لرسل ربها، كيف كان عذاب الله لها أليمًا شديدًا!!

انظر ما حل بقوم نوح من الغرق: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ) [الأعراف: 64]، وانظر ما حل بعاد قوم هود حيث سلط عليهم الريح العقيم: (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات: 42]، وانظر ما حل بقوم صالح -عليه السلام- حيث أرسل عليهم الصيحة: (فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [الأعراف: 78]، وانظر ما حل بقوم لوط حيث قلبت عليهم قراهم، وأمطروا حجارة من السماء: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف: 84]، وانظر ما حل بفرعون وقومه حين كذبوا، وكذا ما حل ببني إسرائيل...

وهكذا تتوالي نذر الله على عباده الذين خالفوا أمره بأنواع العقوبات: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40]، ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره، فكم أهلك من القرون بسبب عصيانهم وتكذيبهم.

أيها المؤمنون: المعاصي سبب كل عناء، وطريق كل شقاء، فما حلت بديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها، وما هلك من هلك إلا بالذنوب، وما نجا من نجا -بعد رحمة الله- إلا بالطاعة والتوبة، وإن ما يصيب الناس من ضر وضيق في أبدانهم وذرياتهم وأرزاقهم وأوطانهم إنما هو بسبب معاصيهم وما كسبته أيديهم: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]. إنه لما طغت الماديات على كثير من الناس، وأشربوا حب الدنيا، غفلوا عن إدراك سنن الله الكونية، والنظر في آياته الشرعية، التي بينت كيف كان حال من قبلهم من الأمم حين خالفوا أمر الله، وغفلوا كذلك عن إدراك أن ما أصابهم وما قد يصيبهم من بلاء وشدة ونقص إنما هو بسبب ذنوبهم، لذا لم يلتفتوا إلى محاسبة النفس وكفها عن غيها، فانتشرت بذلك الفواحش، وكثرت المنكرات، واستبيحت المحرمات؛ لغياب الرقيب، وضعف الإيمان في النفوس، وقلة الخوف من الله، والجهل به سبحانه، فهانوا بذلك على الله، ولو عزوا عليه لعصمهم.

أيّها المسلمون: إنّكم ترفلون في نِعم وافرةٍ، وخيرات زاخِرة، وحياة فاخِرة، مُعجزٌ شكرُها، مُعوِز حصرُها، أرزاقٌ دارّة، ومعايش قارّة، تألّقٌ في المطعومات، وتفنُّن في الملبوسات، وتنوّعٌ في الملذّات، فهل قمتُم بشكر من أنعَم بها واستخلفكم فيها، أم عصيتموه في أرضه وتحت سمائه، وأنتم تنعمون من رزقه وتستمتِعون بنعمه؟!

من الذي أمَّننا في الدور؟! من الذي أرخى علينا السّتور؟! من الذي صرَف عنّا البلايا والشرور، والفتنةُ حولنا تدور؟! أليس الرّحيم الغفور؟! فما لنا قد كثُرت منّا العِثار، وقلَّ منا الاعتبار والادِّكار؟! ما لنا لبِسنا ثوبَ العصيان والغفلة والنّسيان؟! غرَّنا بالله الغرور، برجاء رحمتِه عن خوف نقمتِه، وبرجاء عفوه عن رهبةِ سطوته.

ها هي البيوتُ قد مُلئت بالمنكرات فما دفعناها، ها هي المعاصي كثُرت في المجتمعات فما منعناها، ترخُّصٌ بَغيض، وتساهلٌ مُقيت، واستهتار مُميت، فأينَ تعظيمُ شعائر الله يا من تعصون؟! أين الوقوفُ عند حدود الله يا من تعتَدون؟! أين الذين هم لربِّهم يَرهبون؟! أين الذين هم من خشيةِ ربِّهم مشفِقون؟! أين الخوفُ والوجل؟! أين الخشيةُ من سوءِ العمَل؟! لقد قُوِّض بنيانُ العفاف، وطُوِّحت جُدران الفضائِل، جِيلٌ في ريَعان الشّباب، وغضاضة الإهاب، قد ارتَضع لبانَ سوء، وسقط في مستنقَعٍ موبوء، فمن الذي أوردَه معاطبَ الهلاك؟! من الذي أسقطه في تِلك الأشواك والأحساك؟! ما أشدَّ المفارقة وأبعدَ المشابهة بين الأمسِ واليوم!! هُوّة عميقةٌ، وبَون واسعٌ، وفرق شاسع.

إنَّ أجيالنا اليومَ تتعرَّض لسُعار الفسادِ، وطغيان التّغريب، وداءِ التّمييع والإهمال، وسيسألنا الله عن تضييع هذه الأجيال، فهل أعدَدنا جوابًا؟! وهل سيكون الجواب صوابًا؟! يقول رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم-: "كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالأمير راع، والرّجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته". أخرجه البخاري.

أيّها المسلمون: إذا فشِلنا في جهادِنا مع أنفسنا وإصلاحِ مجتمعاتنا وأجيالِنا فسنفشل في كلّ ميادين القتال وساحات النزال، إنَّ كلَّ الضّرباتِ الموجِعة والهزائم المتتابعة والنّكسات المُفظِعة التي نتلقّاها يومًا بعد يوم إنّما هي بسببِ إضاعتِنا للعهد الذي استخلفَنا الله لتحقيقه، ومكَّننا في هذه الأرض لتطبيقِه.

إنّ على الأمّة أن تطرحَ عنها الأمنَ الكاذب، والغفلةَ المردِية، وأن تتَّعِظ بتجاربِ البشر، وأن لا تغترَّ بطراءَة العيش ورخاءِ الحياة، فإنّ سنّةَ الله لا تتخلّف ولا تتوقّف: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا) ، أي: أوَلم يتبيَّن لهم: (أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) [الأعراف: 100]، فمَن ينصرُنا من بأس الله إن جاءنا؟! فتأهَّبوا بالتّوبة، واستحصِنوا بالأوبَة، وكونوا لدِين الله أنصارًا، ووالُوا ضراعةً إلى الله وجوارًا، واستغفِروا ربَّكم إنّه كان غفارًا، فالتَّوبة تدفع عنكم ما لا يدفعه السّلاح، وتمنع عنكم ما لا يمنعه التشدُّق والصّياح: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55]، فالأرض إرثٌ، وهناك الكثير من الناس يسعى أن يكون له فيها نصيب، وخلائفُ التّقوى هم ورَّاثُها بالفرضِ والتّعصيب.

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآي والبيان، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

أما بعد:

أيها المسلمون: اتّقوا الله وراقبوه، اتّقوا الله فإنَّ تقواه أفضلُ مكتسَب، وطاعته أعلى نسب، دارُكم هذه دارُ ممرّ وليست بدار مقرّ، فلا ترضَوا بالدّون وصفقةِ المغبون، وهلمّوا إلى دار الأفراح ولذّة الأرواح، فما متاعُ الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "يُؤتَى بأنعَم أهلِ الدّنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيصبَغ في النّار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم: هل رأيت خيرًا قطّ؟! هل مرَّ بك نعيم قطّ؟! فيقول: لا والله يا ربّ، ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا في الدّنيا من أهل الجنّة، فيصبَغ صبغة في الجنّة، فيقال له: يا ابن آدم: هل رأيت بؤسًا قطّ؟! هل مرِّ بك شدّةٌ قطّ؟! فيقول: لا والله يا ربّ، ما مرَّ بيَ بؤس قطّ، ولا رأيتُ شدّةً قطّ". أخرجه مسلم.

فيا أيّها المسلمون: هذا بابُ التّوبة مفتوح، هذا زمنُ التّصحيح ممنوح، ما لم تغرغِر الرّوح، أيّها التائِه في بيداء الغَفَلات، يا مَن ترخَّص لشهواتِه، وذلّ لنزعاتِه، يا مَن ألحَّت عليه النّصائح فما أقلع، لن تعيشَ الدّهرَ ترأس وتربع، وتنهبُ وتجمَع، وتحرُث وتزرَع، وتأكل وترتَع، وتلهو وتتمتَّع، سوفَ تموت وتُسأل عمَّا كنتَ تصنع، و"لن تزولَ قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره: فيم أفناه؟! وعن شبابه: فيم أبلاه؟! وعن ماله: من أين اكتسبه وفيم أنفقَه؟! وماذا عمل فيما علِم؟!". يقول رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم- في حديث الرؤية: "فيلقى العبدَ فيقول الله: أي فلان: ألم أكرِمك وأسوِّدك وأزوِّجك، وأسخِّر لك الخيلَ والإبل، وأذرْك ترأس وتربَع؟! فيقول: بلى، فيقول: أفظننتَ أنّك ملاقيّ؟! فيقول: لا، فيقول: فإنّي أنسَاك كما نسيتَني. ثمّ يلقى الثّاني، فيقول: أي فُلان، ألم أكرمك وأسوِّدك وأزوِّجك، وأسخِّر لك الخيل والإبلَ، وأذرْك ترأس وتربَع؟! فيقول: بلى أي ربّ، فيقول: أفظننتَ أنّك ملاقيّ؟! فيقول: لا، فيقول: فإنّي أنساك كما نسيتَني. ثمّ يلقى الثّالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا ربّ: آمنتُ بك وبكتابِك وبرسُلك، وصلَّيت وصمتُ وتصدقتُ، ويُثنِي بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا –أي: قف ها هنا- ثمّ يقال له: الآن نبعَث شاهدَنا عليك، ويتفكَّر في نفسه: من الذي يشهد عليّ؟! فيُختَم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطِقي، فتنطقُ فخذه ولحمه وعظامُه بعملِه، وذلك ليعذِر من نفسِه، وذلك المنافِق، وذلك الذي يسخَط الله عليه". أخرجه مسلم.

فخلِّص نفسَك يا عبد الله، خلِّص نفسَك من جحيم الذّنوب والأوزار، ودروبِ العَار والشّنار، واستدرِك ما دُمتَ في زمن الإنظار، قبل أن لا تقال العِثار، فما هي إلا جنّة أو نار.

وطوبى لمن فاء في هذا اليوم واعترف، وأقلع عمَّا اقترف، وانتهى فغفر الله له ما سلف: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيّ وَلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ) [التحريم: 8].

أيّها المسلمون: إنَّ ثمرةَ الاستماع الاتّباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَه، وصلّوا وسلِّموا على خير الورى امتثالاً لأمرِ المولى -جلّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]. اللهمَّ صلِّ وسلِّم على النبيّ المصطفى المختار، اللهمّ صلِّ عليه وعلى الآل والصّحب الأخيار، اللهم صلِّ عليهم ما بقي الليل والنهار.

اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشركَ والمشركين والكفرةَ الملحدين...

 

   

 

المرفقات
الاستخلاف في الأرض.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life