اقتباس
والخطباء اليوم يدركون أكثر من أي وقت مضى أن الحديث التقليدي الذي كان المجتمع النسوي يسمعه لم يعد مؤثرا بشكل كبير؛ لأن الواقع يقول إن الإسلام دين صحيح، لكن تطبيقات المسلمين تسيء إليه أحيانا، وتتناقض أحيانا أخرى.
تشرق الشمس على الأرض فيعم ضياؤها الجبال والبحار والسهول وكافة الأقطار، غير أن نصيب بعض الأماكن من دفئها وأشعتها يختلف بسب ظروف لا علاقة لها بهذا النجم الكبير، بل لعوامل أخرى، فقد لا يصل الدفء إلى بيت من البيوت لوجود عمارة أو برج يحجب عنه نور الشمس، وقد تحجب كثرة البيوت الضياء عن بعض المنازل، وبالتالي فإن محاولة معاتبة هذا القمر المنير ضرب من الجنون والسفه، وعين العقل هي النظر في الأسباب التي أدت إلى حرمان بعض البشر من هذا الضياء، الذي يسبب طول حجبه عن الجسم أمراضا معروفة.
هكذا المرأة مع الحقوق التي أقرّها لها الإسلام العظيم، هذا الدين الذي لا يختلف عن الشمس في توزيعه كافة الحقوق على البشر، "إنا كل شيء خلقناه بقدر"، غير أن عدم تحقق بعض الحقوق في دنيا بعض الفئات أو أكثرها، لا يعطي الحق لأحد بكيل التهم جزافا للرسالة الخاتمة، ومن المسائل التي كثر اللغط والحديث حولها، مسألة المرأة المسلمة وغمطها حقوقها؛ ولأن الحديث عن ما قدمه الإسلام للمرأة لا يجهله حتى أطفال المسلمين، فإن موضوعنا لا يتناول هذا المبحث، بل يحاول تسليط الضوء على أسباب الهوان الذي تعيشه المرأة المسلمة، في زمن اشتدت فيه الغارة على الإسلام، وتحاول فيه الكثير من الرؤوس والأقلام إلصاق الظلم الذي تعانيه المسلمة أو الشرقية كما يحلو لهم، بأحكام الشريعة الإسلامية.
ولأن الخطباء أحد أبرز المتصدين للمشروع التغريبي في الأمة الإسلامية، فإنهم مطالبون باعتماد أسلوب أكثر قربا من الواقع في مخاطبة المرأة، فقد تغير الواقع، ولم يعد من المقبول اعتقاد عدم تأثير الشبهات التي ترمي بها القنوات الإعلامية العلمانية والأجنبية في الساحة الإسلامية، بل أثبتت الأيام أن تركيز هذه الوسائل على المرأة أصبح أكثر دقة وحيطة، ويتلبس بلباس التحضر والشفقة والتضامن مع المرأة المسلمة، ولهذا فإن الخطيب مطالب اليوم بالحديث عن حقيقة الواقع الذي تعيشه المرأة المسلمة اليوم، تبرئة للإسلام من الشبهات، ومساعدة للمسلمات على فهم واقعهن، من خلال الحديث إليهم بأسلوب منطقي، وقد عالج القرآن الكريم مثل هذه القضايا علاجا منطقيا، فقضية الإلحاد مثلا وجدت خطابا قرآنيا يخاطب العقل، ويحرره من الجمود والركود، من خلال التركيز على أسئلة معينة، تجعل العقل يفكر فيها تفكيرا عميقا، حتى يصل إلى إجابات منطقية.
والخطباء اليوم يدركون أكثر من أي وقت مضى أن الحديث التقليدي الذي كان المجتمع النسوي يسمعه لم يعد مؤثرا بشكل كبير؛ لأن الواقع يقول إن الإسلام دين صحيح، لكن تطبيقات المسلمين تسيء إليه أحيانا، وتتناقض أحيانا أخرى.
كما أن الخطباء مطالبون بالتركيز على إقناع المرأة أن الإسلام شيء، وتصرفات المسلمين شيء آخر، ويمكن الاستعانة بالفقرات الآتية لتوجيه خطاب أكثر إقناعا وعقلانية، تثبيتا للثابتين والثابتات، وإعانة للذين تمكن الشبهات من عقولهن وقلوبهن.
المرأة في زمن الاستبداد:
إن من العدل والإنصاف أن نتحدث عن الظروف التي تحيط بالمرأة المسلمة، قبل الحديث عن ما أوجده الإسلام من حقوق وآليات لصيانة المرأة والارتقاء بها، فالكثير من الأقلام التي تكيل الاتهامات للإسلام، وتحمله الهوان الذي وصلت إليه المرأة المسلمة، تغض الطرف عن حقيقة الظرف الزمني الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية، ولو بادروا إلى ذلك لانكشف لهم أن الإسلام بريء من اتهاماتهم، ولظهر لهم أن الواقع الغريب عن هوية الأمة المسلمة، هو السبب الأكبر فيما تعيشه، فهي تحيا في زمن الاستبداد، الذي تحميه منظومات علمانية، وراءها أنظمة غربية، لا ترعى في مؤمن إلا ولا ذمة، أنظمة تعلى من شأن الأوطان-زوراً- و تسترخص حياة وكرامة الإنسان، وهو العكس الذي عليه أهل القرآن، فهذا عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه وإن نظن به إلا خيرًا"-رواه ابن ماجه- أبعد هذا يقارن بين أنظمة ترعى القهر، وتلغي حق الملايين في الحياة، نظير بقائها !! وبين دين يرى أن المؤمن أعلى شأناً من كل المقدسات؟!
مخرجات الاستبداد وأثرها في حياة المرأة:
إن الناظر في قضية المرأة، لا يستقيم له النظر إلا إذا عالج بنفسه مخرجات الاستبداد، التي لا تعدو أن تكون هي ذاتها التعاسة والبؤس، ولا بأس بالتذكير ببعض النتائج الوخيمة له، التي من أهمّها:
استرخاص الناس قيمة الحياة البشرية، واحتقار مسائل الدماء والأعراض، والسطو على حياة الآخرين، وغياب خلق التكريم المتبادل، ومن نتائجه محاولة إنسان الاستبداد التلبس بقيم الطغيان، فهو لا يشعر بذاته إلا وهو يرى في نفسه قدرة على البطش بمن هو أضعف منه في البنيان، وتفريغ شحنات الذل في من هم أقل منهم قوة وسلطة، ومن ثمراته الخبيثة شيوع روح العدوان على واقع العلاقات البشرية، والسعي إلى إثبات الذات من خلال ممارسة أبشع صنوف القهر في حق الآخرين، وهذا راجع إلى المسخ الذي يصيب فطرة الإنسان؛ فالفطرة السليمة تقتضي الرحمة، واستغلال التفوق والقوة في الغايات الشريفة، بدل تسخيرها في الاحتقار وإلحاق الأذى بالآخر.
إن هذا الإنسان المسخ، الذي تخرج في مدارس الاستبداد، لا يمكن أن ينتظر منه-غالبا- خير أو صلاح، فهو متوحش في تعاملاته، قاس في علاقاته، أناني في مطالبه، وهو من يجب أن يسلط عليه الضوء، من خلال دراسة المنظومات التي جعلته على هذه الهيئة السافلة، بدل أن يوجه سهم القدح إلى دين الفطرة السليمة، الذي جاء لتحرير هذا النوع من البشر من هذه الحياة البهيمية، يقول ربعي بن عامر -رضي الله عنه- وهو يرد على رستم قائد الفرس: "لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
إن من يعرف الاستبداد ومخرجاته؛ لا يمكن أن يتفوه بجملة الطعون الموجهة ضد الإسلام، تحت غطاء إصلاح حياة الشعوب الشرقية، ولو كان الشانئون صادقين في دعواهم لتعرضوا إلى حقيقة الواقع الرهيب الذي تحياه الأمة المسلمة؛ جرّاء منظومات وضعية ملحدة-الإلحاد الذي نبه إليه القرآن- لا تؤمن بالإسلام في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل تشنع على من يدعو إلى عودته، وتحاول جاهدة إبراز المسلمة -خاصة في الجزيرة العربية- بأبشع صور الرّق والهوان؛ لضرب الصورة التي يحملها الكثير من المسلمين عن حرائر العرب -وقد سطّر الراحل محمد قطب-رحمه الله- في كتابه: "شبهات حول الإسلام" كلمات رائعة حول هذا الواقع البئيس، فقال: "إن الوضع السيئ الذي تعانيه المرأة الشرقية يرجع إلى ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية وسيكولوجية ينبغي أن نلمّ بها، لنعلم من أين تأتينا هذه المفاسد، ونكون على هدى ونحن نحاول الإصلاح... هذا الفقر البشع الذي يعانيه الشرق منذ أجيال عدة. هذا الظلم الاجتماعي الذي يجعل قوماً يغرقون في الترف الفاجر والمتاع الغليظ، وغيرهم لا يجد لقمة الخبز والثوب الذي يكسو به العورات. هذا الكبت السياسي الذي يجعل من الحكام طبقة غير طبقة المحكومين، طبقة لها كلّ الحقوق وليس عليها واجبات، والمحكومون يدفعون جميع التكاليف بلا مقابل. وهذا الظلام التعس والإرهاق العصبي الذي يعيش فيه سواد الشعوب نتيجة هذه الظروف.. هذا كلّه هو المسؤول عما تعيش فيه المرأة من الذلّ والاضطهاد...إن ما تحتاج إليه المرأة هو "عواطف" الاحترام والمودة بينها وبين الرجل. وأين تنبت هذه العواطف؟ في الفقر المدفع والكبت المرهق للجميع؟!..ليست المرأة وحدها هي الضحية، ولكنه الرجل كذلك، وإن بدا أنه في وضع خير منها" اهـ.
عندما تهب رياح الشيطان على هودج التكريم:
لقد أثبتت نصوص الوحي أن الطغيان والاستبداد لا يستمران في جو مثالي، بل إن البيئة الفاسدة أقوى معين على تمكن جذورهما من عمق أي أرض طاهرة، ولذلك تشهد الأزمنة التي يستولي عليها الظلم والقهر انتشاراً فاحشا لشتى أنواع الفساد، فهي تنشئ للمحكومين مسارات عديدة مؤداها النهائي تحقيق اللذات، والجري وراء الشهوات، وتخصيص غالب الأوقات في البحث عنها والنهل منها، حتى يتكون مع الوقت إنسان مسخ، لا يبحث إلا عن الشهوات البدائية الحيوانية، التي ترضي غريزته، الطاغية على عقله ونور الفطرة، فيبحث الرجل المسخ عن شهواته في المرأة، ولا يراها إلا من منظار بهيمي، بعد أن طُمست النظرة الجمالية والكمالية نحوها، وقد صدق مالك بن نبي عندما قال: "إذا غابت الفكرة بزغ الصنم" و "إذا غابت الفكرة حضر الوثن".
فالقيم المثلى، والمبادئ السامية، تغيب عندما يحضر صنم الماديات والشهوات البدائية، فيبحث عن التي تلبي نداء غريزته المتغولة، فيكون الهدف البحث عن ذات المال لمالها، حتى يصبح كاللص في طباعه وسلوكياته، ويبحث عن ذات المنصب، ليغطي جهله ووضاعته، ويبحث عن ذات الجسد، كما تبحث الضباع عن فرائسها، لتنهشها حتى قبل أن تموت، أما ذات الدين والأخلاق فإنها لا تثير هذا النوع من البشر، إلا من أجل أن يفسدوا أخلاقها، أو يدمروا سمعتها وتربيتها، ولا يختلف الأمر كثيراً عند من يسمون أهل الثقافة في زمن الاستبداد، فهم لا يرون المرأة في كتاباتهم إلا مصدر إلهام يخرج دناءاتهم اللفظية، وكلماتهم السوقية، فهي لا ترقى أن تكون عندهم كائنا مكرما، بل هي متع من متع الدنيا، ولا يليق بها إلا ذلك في نظرهم، ومن عاد إلى دواوين الشعر التي تلقى رواجا في زمننا هذا، وفي الماضي الذي يشابهه، فإنه يرى بأم عينيه مدى الانحطاط في تناول المرأة، بعد أن أخرجوها من آدميتها التي أكرمها الله بها إلى مستنقعات رذائلهم الأدبية كما يزعمون.
ولهذا فإن الاستبداد هو المسؤول الأول عن غياب النظرة الجمالية بين البشر، الذي هو دين الغرائز والسفالة، وليس الإسلام دين العدالة والحرية والكرامة.
المرأة في زمن انقلاب القيم:
ولا يقف أمر الانقلاب على قيم الجمال الروحي والأخلاقي والحضاري عند الرجل فقط، بل إن المرأة تقع ضحية له أيضا، فتفضل قيم الثراء والسلطة والقوة والجبروت، على قيم المودة والرحمة والرقي الفكري، والخُلق الرصين، والمروءة الناصعة، والرجولة الوضيئة، ولهذا فإن الحق الذي يجب النُطق به: هو أن فعل الاستبداد قلّ أن ينجو منه أحد، فهل بعد هذا البيان من بيان، وهل سيرضى الشانئون بالكف عن تسديد سهام الخصومة الفاجرة بينهم وبين الإسلام، كدين سماوي خاتم للرسالات، رافع لكرامة بني آدم، حافظ لحقوق البشر، منصف بينهم، عادل في توزيع الوظائف والأدوار والحقوق؟
عندما يغيب إنسان الواجب تقهر المرأة:
عندما تصطلي الأرض بنيران الظلم والقهر، تتفحم الكثير من الحقائق، وعندما تحجب غيوم المادية الأفق عن حياة البشر، تختفي النجوم الهادية من السماء.. عن غياب إنسان الايمان والواجبات نتحدث، هذا الإنسان الذي يكون غيابه علامة بارزة على ولوغ المجتمع المسلم في الانحطاط، ونذيرا على انحدار العلاقات الاجتماعية نحو درك بهيمي، فماذا نعني بإنسان الواجب؟
نبّه القرآن الكريم المسلمين إلى ضرورة إيجاد إنسان الواجب في مواضع عدة في القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها النّاس والحجارة) [التحريم:6]، الواجب هنا إصلاح المسلم لأسرته، حتى تنال فلاح الدنيا والآخرة، ومن ذلك قوله تعالى: (وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) [طه:132]، إنه نداء رباني للمسلم بوجوب الوقوف على إسعاد أهله، بتوجيههم نحو طريق السعادة، وذلك كفيل بأن يغدق الله على القائم بهذا الواجب بالرزق وراحة البال، ومن ذلك قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله) [التوبة:105].
وقد وردت في السنة النبوية نصوص كثيرة تحث على إيجاد إنسان البذل، الذي بوجوده تتواجد آلية العطاء في المجتمع، وبالتالي وفرة الحقوق للجميع، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اليد العليا خير من اليد السفلى" (صحيح مسلم)، وقوله –عليه الصلاة والسلام-: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"(صححه الألباني)، ومن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لئن يحتطب أحدكم خير له من أن يسأل النّاس أعطوه أو لم يعطوه" (متفق عليه)، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها" (صححه الألباني)ـ وهذا الحديث بالذات يتجاوز فكرة إنسان الواجب إلى إنسان الإحسان.
فإذا غاب هذا النوع من الأفراد ظهرت التعاسة، واستفحل الظلم، وكان الضعفاء من الأطفال والنساء والمسنين أكبر من يلحقهم الضرر، حتى يصبح الواحد فيهم كاليتيم على مائدة اللئام، وقد أثر عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قوله في تفسير لفظ اليتيم في سورة الماعون: " كل ضعيف محجوز عن حقه"، ولم ينل اليتيم اهتماما من الناس إل لضعفه عن نيل حقوقه، بل وبسبب اعتقاد الناس أن اليتيم أكثر الفئات تعرضا للضيم والتهميش والظلم.
إن على الخطباء تنبيه المرأة التي تتهم الإسلام وتجعله سببا في القهر والظلم الذي تعيشه في مجتمعات اليوم، أنها تظلمه من حيث لا تدري وتظلم نفسها، ولو حركت عينيها في محيطها، ووجهت عقلها لتحليل العصر الذي تعيش فيه، وفرّغت بعض وقتها لمعرفة حقيقة المنظومة البشرية التي تحكم البشر اليوم؛ لأدركت بيسر أن وضعيتها التي تعيشها هي نتيجة حتمية لمنظومة مستبدة لم تعط خالق الكون حقه فكيف ترفع من شأن المخلوق؟ يتبع..
التعليقات