عناصر الخطبة
1/وجوب تعلم آداب الخلاف 2/فضل المحبة والصحبة في الله 3/من صدق المحبة ألا تؤثر فيها الخلافات في الفروع 4/طريقة تعامل السلف مع الخلاف 5/التحذير من المراء والجدالاقتباس
والبعض يهجر أخاه لخلاف بينهما في مسألةٍ، الخلاف فيها من القديم، ولا علاقة لها بالعقيدة، بل هي من باب الأوامر والنواهي؛ ولهذا يجب على المسلم أن يكون لديه سعةُ أفق، فيحتوي الخلاف، ويعلم أن الناس طباع وأجناس، ويعلم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، أما بعد:
فيا أيها الناس: الناس في هذه الدنيا يتعايشون، ويحدث بينهم الخلاف أياً كان نوعه، ثم لا يلبثون أن يعود إليهم الود مرة أخرى، وهكذا الدنيا دول، والأيام تتقلب يوم لك ويوم عليك.
عباد الله: إن الخلاف الذي يقع بين الناس متنوع، ويجب على المسلم أن يتعلم آداب الخلاف، والحكم الشرعي في التعامل مع المخالف، فقد يكون الخلاف في أمر عقدي، وقد يكون الخلاف في مسألة فقهية النزاع فيها قديم، وقد يكون الخلاف في توافه الأمور كأمور الدنيا.
معاشر المؤمنين: إن المسلم في هذه الدنيا، يحيى لله ويموت لله، ويتعامل لله في كل تصرفاته؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162 - 163]، فالدافع للمحبة هو الله، والصارف عن المحبة هو الله، والمولاة لله، والمعاداة لله، وحفظ الود لله، أخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله -عز وجل-".
عباد الله: يخطئ بعض الناس فلا يحب إلا للدنيا، ولا يوالي إلا للدنيا، فإن كان يرجو منك مصلحة خالطك وصاحبك؛ حتى ينال مراده، ثم يلتفت عنك معرضا، ضاربا بالصحبة عُرض الحائط، وإن لم يرج منك مصلحة دنيوية تجده لا يحرص على مصاحبتك، ولا يلتفت إليك، وإذا تعاملت معه عاملك بخلق سيئ؛ لأنه لا يراقب الله فيك، فمن كانت الدنيا تجمعهم، وتفرقهم، أوشكوا أن يفترقوا في الدنيا قبل الآخرة، ويوم القيامة تنقلب صحبتهم إلى عداوة؛ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67].
وإنك -للأسف- تجد كثيرا من الناس صحبتهم في الدنيا إنما هي للدنيا -ولو لم يشعروا-، فهذا يصحب ذاك لأنه صاحب منصب، والآخر لماله، والثالث لجماله، والرابع لخدمته، والخامس لندامته وفكاهة مجلسه وهكذا؛ ولهذا تجد أن صحبة هؤلاء ليست وثيقة، وليس له عرى يستمسك بها المصاحب؛ فتسقط في أي لحظة.
فعلى العاقل اللبيب أن يسعى جاهدا في مراجعة علاقاته ومحبته للناس، هل هي لله أم للدنيا؟ وليصحح الخطأ فيها، أما إذا كانت الصحبة لله، فإنها تنشأ من المحبة، والمحبة لها أسباب ألا وهي طاعة المحبوب، وقربه من الله؛ ولهذا تجد أن المتحابين في الله، يسعى كل منهما لنفع صاحبه، حتى بعد الموت، فقد جاء أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- آخى بين اثنين من الصحابة، فتعاهدا أيهما مات قبل الآخر أن يأتي صاحبه في المنام فيخبره عن أفضل الأعمال، وللقصة بقية؛ ولهذا كان من السنة أن يعلم المسلم أخاه أنه يحبه في الله، أخرج الإمام أحمد من حديث أبي ذر قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله، فليخبره أنه يحبه لله".
معاشر المسلمين: لو لم يكن من فضل المحبة لله إلا أن الله يحبك لكفى بها أجرا، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "زَار رَجلٌ أَخًا لَه فِي قَرية، فَأرصد اللَّهُ لَه مَلَكاً عَلى مَدرجَتِه، فَقال: أَينَ تُريدُ؟ قَال: أَخًا لِي فِي هَذه القَريةِ، فَقال: هَل لَه عَليكَ مِن نِعمةٍ تَرُبُها؟ قالَ: لَا، إِني أُحِبُه فِي اللَّهِ، قَال: فَأِني رسولُ اللَّهِ إِليكَ: أنَّ اللَّهَ أَحَبَكَ كَما أَحبَبتَهُ"، سبحان الله!، من تأمل هذا الحديث عرف كيف أن الله يحب أن يتحاب الناس فيه!.
عباد الله: إذا كانت المحبة لله فيجب ألا تفسد هذه المحبة أو يقطعها شيء من أمور الدنيا البتة، ومتى ما أفسدتها دل ذلك على أن هذه المحبة فيها دخن؛ لأن ما كان لله لا تفسده الدنيا.
وإذا أحب المسلم أخاه وجب أن يحتمل عثراته وزلاته، وأن يسعى جاهدا في النصح له، والتماس العذر له عند الهفوة والغفلة، وأنهما مهما كان الخلاف بينهما -طالما أنه لا يتجاوز الفروع- فلا ينبغي أن تؤثر هذه الخلافات في المحبة.
عباد الله: إن من المؤسف حقا أن يتهاجر المسلمان المدة الطويلة؛ من أجل حظوظ النفس وترهات الدنيا، ولعل أحدهما أن يهلك على ذلك، فيندم الحي على ذلك كما يندم الميت، والرابح هو الشيطان، قال يونس الصدفي: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة ثم افترقنا، ولقيني من الغد فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة".
نعم -أيها المسلمون- هذا هو الفقه، والبعض يهجر أخاه لخلاف بينهما في مسألةٍ الخلاف فيها من القديم، ولا علاقة لها بالعقيدة، بل هي من باب الأوامر والنواهي؛ ولهذا يجب على المسلم أن يكون لديه سعةُ أفق، فيحتوي الخلاف، ويعلم أن الناس طباع وأجناس، ويعلم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- اختلفوا ومع هذا لم يتهاجروا، فانظر إلى عبد الله بن مسعود كان ينكر على عثمان إتمامه الصلاة في الحج، فلما صلى خلفه أتم، فقيل له، فقال: "بحسبي ركعتان متقبلتان، والخلاف شر".
وهذا علي بن أبي طالب مع ما حصل بينه وبين طلحة بن عبيد الله والزبير إلا أنه لم يلتفت لذلك، كما ذكر الذهبي في السير عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال: دخلت على علي مع عمران بن طلحة بعد وقعة الجمل، فرحب به وأدناه ثم قال: "إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[الحجر: 47]".
ألا فلنكن هكذا قبل أن تتمزق الأخوة ونحن لا نشعر؛ فالشيطان حريص على زرع الضغائن والبغض بين الناس، والأمة الإسلامية فيها من التمزق ما يكفيها، فلا نقضِ على ما بقي بطاعة الشيطان.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد:
فيا أيها الناس: الخلاف لا يفسد للود قضية، ما لم يكن الخلاف في مسائل تقتضي الهجران ليرتدع المخالف، كالكفر والبدع وكبائر الذنوب، أما مسائلُ الدنيا بل صغائر الذنوب فلا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَبَاغَضُوا، وَلا تحَاسَدُوا، ولا تَدابَرُوا، وَكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْواناً، ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاثَةِ أَيّامٍ".
كما على المسلم أن يجتنب الجدل والمراء الذي لا فائدة فيه، حيث إنه سبب للخصومة والتقاطع، أخرج أبو داود من حديث أبي أمامة، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ يَتْرُكِ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ"، وربض الجنة: ما حولها.
وقد عد الذهبي -رحمه الله- الجدال لرد الحق من الكبائر، حيث يقول في كتابه الكبائر: "إن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محمودا، وإن كان الجدال في مدافعة الحق أو كان بغير علم كان مذموما، وعلى هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته وذمه"، أخرج أحمد والترمذي من حديث أبي أمامة، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ"، ثُمَّ قَرَأَ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)[الزخرف: 58]".
وعلى المسلم إذا ترك الجدل أن يترك أهله، خصوصا أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، كما أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة أنها قالت: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[آل عمران: 7]، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُمْ".
ولقد تكاثرت النصوص عن سلف الأمة في التحذير من الجدل والمراء؛ وذلك لعلمهم بعظيم شره وبلائه، قال سليمان بن داود -عليهما السلام- لابنه: "دع المراء؛ فإن نفعه قليل، وهو يهيج العداوة بين الإخوان"، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"، وقال عمر بن عبد العزيز: "من جعل دينه غرضا للخصومات كثر تنقله"، وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل"، أخرج ذلك كله الدارمي في سننه.
وروى اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد: أن رجلا سأل سهلا التستري -رحمه الله-: متى يعلم الرجل أنه من أهل السنة والجماعة؟ فقال: "إذا عرف من نفسه عشر خصال: لا يترك الجماعة، ولا يسب أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولا يخرج على هذه الأمة بسيف، ولا يكذب بالقدر، ولا يشك في الإيمان، ولا يماري في الدين، ولا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب، ولا يترك المسح عل الخفين، ولا يترك الجماعة، أو قال: الجمعة خلف كل وال جار أو عدل".
معاشر المسلمين: الاختلاف بين الناس أصله من الجدل بالباطل، ويكثر الخلاف بين أهل الخير من هذا الباب، وهو جدل وللأسف في أمور لا تجلب الخلاف إلا أنها باب فسيح للشيطان؛ لنفخ الفرقة بين الناس.
فعلينا جميعا أن نجتنب الجدل فإنه يحرم صاحبه الوصول للحق، ويورث البغضاء والكراهية وسبب للوقوع في الحرمان والخذلان عن طريق الحق.
التعليقات