اقتباس
والأَوْلَى تركه لأجل الخبر، وإن كان ضعيفًا، ولأنه يكون متهيئًا للنوم، والوقوع، وانتقاض الوضوء؛ فيكون تركه أولى والله أعلم، ويحمل النهي في الحديث على الكراهة، ويحمل أحوال الصحابة الذين فعلوا ذلك على أنهم لم يبلغهم الخبر، والله أعلم.
إن الحمد لله -تعالى- نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على خير رسل الله محمد بن عبدالله، الهادي البشير -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه الكرام.
وبعد:
فهذا جزء مختصر في مسألة "الاحتباء يوم الجمعة والإمامُ يخطب"، قد قمنا فيه -بعون الله ومدده- بجمع ما تيسر جمعه من الأحاديث النبوية في هذا الباب، وذكر أقوال وآراء الصحابة والسلف في المسألة، ومذاهب العلماء، سائلين المولى -جل وعلا- التوفيق والسداد.
معنى الحبوة (الاحتباء):
قال الشوكاني: "يقال: احتبى يحتبي احتباء، والاسم الحُبوة بالضم والكسر معًا، والجمع حُبًى، وحِبًى بالضم والكسر.
وهي: أن يُقِيم الجالس ركبتيه ويقيم رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشد عليهما، ويكون أليتاه على الأرض، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب.
أولاً: ذكر الأحاديث والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في الاحتباء:
1-ما رواه أبو داود في "سننه" باب: الاحتباء والإمامُ يخطب:
أ-عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحُبوة يوم الجمعة والإمام يخطب(1).
ب-عن يعلى بن شدَّاد بن أوس، قال: شَهِدت مع معاوية بيت المقدس فجمَّع بنا، فنظرتُ فإذا جُلُّ مَن في المسجد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فرأيتهم محتبين والإمام يخطب(2).
قال أبو داود:" كان ابن عمر يَحْتَبِي والإمام يخطب، وأنس بن مالك وشريح، وصَعْصَعَة بن صُوحان، وسعيد بن المسيَّب، وإبراهيم النخعي، ومكحول، وإسماعيل بن محمد بن سعد، ونعيم بن سلامة قال: لا بأس بها". قال أبو داود: "ولم يبلغني أن أحدًا كَرِهها إلا عبادة بن نُسَيٍّ".
2-ما رواه الترمذي في "السنن"، عن سهل بن معاذ عن أبيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحبوة والإمام يخطب(3). قال أبو عيسى: "وهذا حديث حسن، وأبو مرحوم اسمه عبدالرحمن بن ميمون".
وقد كَرِه جماعة من أهل العلم الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب، ورخَّص في ذلك بعضهم؛ منهم: ابن عمر وغيره، وبه يقول أحمد وإسحاق، لا يريان بالحبوة والإمامُ يخطب بأسًا.
3-ما رواه ابن ماجه في "السنن"، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاحتباء يوم الجمعة - يعني: والإمام يخطب(4).
ثانياً: عرض أقوال أهل العلم على الأحاديث من حيث الرواية (السند):
قال الشوكاني: "حديث معاذ بن أنس هو من رواية ابنه سهل بن معاذ، وقد ضعَّفه يحيى بن مَعِين، وتكلم فيه غير واحد، وفي إسناده أيضًا أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون مولى بني ليث، ضعَّفه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا يحتج به. لكن سهل بن معاذ، وإن تَكلم فيه بعضهم، فهو محتمل الضعف. قال في: "التهذيب" سهل بن معاذ شامي نزل بمصر، روى عن أبيه.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، لكن قال: لا يعتبر حديثه ما كان من رواية زبَّان عنه، وذكره في الضعفاء، فقال: منكر الحديث جدًّا؛ فلست أدري أوقع التخليط منه في حديثه أم من زبَّان، فإن كان من أحدهما، فالأخبار التي رواها ساقطة". وزبان ليس بشيء، وقال العجلي عنه: مصري تابعي ثقة"؛ اهـ باختصار. وقال في "التقريب": لا بأس به. وأما أبو مرحوم – عبد الرحيم بن ميمون - قال ابن خيثمة عن ابن معين: "ضعيف الحديث". وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به". وقال النسائي: "أرجو أنه لا بأس به". وقال ابن ماكولا: "زاهد يعرف بالإجابة والفضل". اهـ. قال في التقريب: "صدوق زاهد". اهـ. والحديث قد حسَّنه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود"، وهو أيضًا في "صحيح الجامع" (3876). فالحديث كما قال الشوكاني: وأحاديث الباب تقوي بعضها بعضًا. اهـ(5).
وفي الباب عن عبدالله بن عمرو عند ابن ماجه، قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاحتباء..." الحديثَ. وفي إسناده بقية بن الوليد، وهو مدلِّس، وقد رواه بالعنعنة عن شيخه عن عبد الله بن واقد، قال العراقي: "لعله من شيوخه المجهولين". اهـ (6).
قال البوصيري عن حديث ابن ماجه: "هذا حديث إسناده ضعيف؛ بقية بن الوليد مدلس، وشيخه إن كان الهروي فقد وثق، وإلا فهو مجهول".اهـ.
قال الشيخ الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" تعليقًا على قول أبي داود: "وكان ابن عمر يحتبي والإمام يخطب..." إلخ.
قال: "لم أجد من وصل ذلك عنهم إلا ابن عمر، فوصله عنه البيهقي (3/235) بسند ضعيف". اهـ.
قال الشيخ مشهور "في هامش السنن ط. المعارف": "أثر ابن عمر له طرق عند ابن أبي شيبة (2/118، 119، 120)، وابن المنذر في "الأوسط" (4/83)، والطحاوي في "المشكل" (2905)، وهو صحيح".
وخبر أنس أورده سحنون في "المدونة" (1/139)، وأثر شريح عند عبد الرزاق (5554)، وإسناده صحيح، وأثر ابن المسيب عند ابن أبي شيبة (2/118)، وعبد الرزاق (5551)، وإسناده صحيح أيضًا، وينظر الباقي: "الأوسط" (4/83)، و"المحلى" (5/167)، و"السنن الكبرى" (3/235)". اهـ.
ثالثًا: عرض أقوال أهل العلم على الأحاديث من حيث الدراية (المتن):
قال الخطابي: "وإنما نهى عن الاحتباء في ذلك الوقت؛ لأنه يجلب النوم، ويعرض طهارته للانتقاض، وقد ورد النهي عن الاحتباء مطلقًا غير مقيد بحال الخطبة، ولا بيوم الجمعة؛ لأنه مظِنة انكشاف عورةِ مَن كان عليه ثوب واحد". اهـ.
قال في "المغني": "فصل: ولا بأس بالاحتباء والإمام يخطب، رُوي ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإليه ذهب ابن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وشُريح، وعكرمة بن خالد، وسالم، ونافع، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي.
قال أبو داود: "ولم يبلغني أن أحدًا كرهه إلا عبادة بن نُسَي؛ لأن سهل بن معاذ روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب".
ولنا ما روى يعلى بن شداد بن أوس قال: "شهدت مع معاوية بيت المقدس فجمَّع بنا، فنظرت فإذا جُلُّ من في المسجد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيتهم محتبين والإمام يخطب"(7).
وفعَله ابن عمر وأنس، ولم يُعرف لهم مخالف؛ فصار إجماعًا، والحديث في إسناده مقال؛ قاله ابن المنذر.
والأَوْلَى تركه لأجل الخبر، وإن كان ضعيفًا، ولأنه يكون متهيئًا للنوم، والوقوع، وانتقاض الوضوء؛ فيكون تركه أولى والله أعلم، ويحمل النهي في الحديث على الكراهة، ويحمل أحوال الصحابة الذين فعلوا ذلك على أنهم لم يبلغهم الخبر، والله أعلم".اهـ(8).
قال في "الموطأ": "باب القراءة في صلاة الجمعة، والاحتباء، ومن تركها من غير عذر".
قال الزرقاني في "شرحه على الموطأ" ص52: "قال أبو عمر: كذا ترجم يحيى، ولم يذكر فيه شيئًا، وفي رواية ابن بكير وغيره (عن) مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يحتبي يوم الجمعة والإمام يخطب، قال: ولم يروَ عن أحد من الصحابة خلافه، ولا روي عن أحد من التابعين كراهية الاحتباء يوم الجمعة، إلا وقد روي عنه جوازه... وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، قال الباجي: روى ابن نافع عن مالك أنه لا بأس أن يحتبي الرجل والإمام يخطب، وأن يمد رجليه؛ لأن ذلك معونة، فليفعل من ذلك ما هو أرفق به". اهـ.
وقد ذكر –أيضًا- صاحب مختصر خليل - فقه مالكي - في باب الاحتباء هذا، قال: "باب جائزات الجمعة، وذكر منها الاحتباء". اهـ.
والحاصل: أنها تكره إن أدَّت إلى جلب النوم، أو انكشاف العورة، أو انتقاض الوضوء، وإلا فلا بأس بها إن أمن ذلك كله؛ لأن النهي إذا كان لعلَّة معقولة فزالت العلة، فإنه يزول النهي"(9). اهـ.
وصلى الله تعالى على خاتم رسل الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أزواجه، وذريته أجمعين.
-------
[1] رواه أبوداود (1110)؛ حسن.
[2] رواه أبو داود (1111)؛ ضعيف.
[3] رواه الترمذي (514)؛ حسن.
[4] رواه ابن ماجه (1134).
[5] "نيل الأوطار" 3/285.
[6] "نيل الأوطار" 3/284.
[7] رواه أبو داود (1111)؛ ضعيف.
[8] "المغني" 3/ 202.
[9] قاله الشيخ العلامة ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين" 4/223
التعليقات