عناصر الخطبة
1/ الريادة العلمية للأمة الإسلامية عبر التاريخ 2/ بداية ضعف المسلمين وتلقيهم من الغرب 3/ ثورة في عالم الابتعاث 4/ تأملات في قضية الابتعاث للخارجاهداف الخطبة
اقتباس
وحين استيقظ المسلمون من رقدتهم وبحثوا عن العلم الطبيعي، وجدوا الغرب قد سبقوهم له، فجاؤوا ليأخذوه عنهم، وجاءت رحلة الابتعاث المعاكسة من أهل الإسلام إلى أهل الغرب، وبدأت رحلات الابتعاث أول ما بدأت عام 1813م، حتى نشطت في القرن الماضي في عدد من دول الإسلام، وأما في بلادنا فكانت أول موافقة للمبتعثين في عام 1346هـ، وتتابعت البعثات، وعاد النتاج، ورجع الطلاب وقد تباينت الثمار ..
فمنذ بزغ فجر الرسالة وأمة الإسلام هي الرائدة في علومها الشرعية، ورسالتها الدينية؛ ذلك أنها مستقاة من السماء، والسند فيها محمد عن جبريل عن رب العالمين، وما مرّت على تاريخ المسلمين إلا عقود من السنين حتى صارت أمة الإسلام هي المتقدمة، لا في علوم الشريعة فحسب، بل في علوم الطبيعة والمعرفة، فبزّ المسلمون الأممَ في علوم الطب والعمارة والهندسة وغيرها، وفاقوا غيرهم حتى صارت الأمم عالةً عليهم، بل واكتشفوا علومًا عنهم أُخذت وبهم عرفت.
وظل أمر المسلمين على هذا قرونًا من الزمان، كان الفرد من أبناء أمم الغرب وغيرها إذا أراد علمًا من هذه ابتعث إليهم، وتحدث المستشرقون عن بعثات أناس جاؤوا من الغرب للأندلس لينهلوا من علوم أهل الإسلام ومعارفهم، وكان للمسلمين شأن في نشر الحضارة ونهضة العلم والمعرفة، ولهم في ذلك مؤلفات، يكفيك منها أن ابن النفيس ألف ثمانين مجلدة في الطب وعلومه.
وحين ضعف المسلمون وأنشب الأعداء في جسد الأمة أظفارهم كان مما سعوا له أن يرتحلوا بالعلوم إلى ديارهم، فتلقفها أبناء الغرب وألموا بها، وما زالوا ينهلون من تلك المصادر، فزادوا فيها وطوروا وقدموا وأخروا حتى غدت على ما هي عليه، طبٌّ متقدم ومعارف متجددة وعلوم حديثة، أصولها من هنا وفروعها هناك، وربما فاق الفرع الأصل، فتأخر المسلمون وتقدم غيرهم.
وحين استيقظ المسلمون من رقدتهم وبحثوا عن العلم الطبيعي، وجدوا الغرب قد سبقوهم له، فجاؤوا ليأخذوه عنهم، وجاءت رحلة الابتعاث المعاكسة من أهل الإسلام إلى أهل الغرب، وبدأت رحلات الابتعاث أول ما بدأت عام 1813م، حتى نشطت في القرن الماضي في عدد من دول الإسلام، وأما في بلادنا فكانت أول موافقة للمبتعثين في عام 1346هـ، وتتابعت البعثات، وعاد النتاج، ورجع الطلاب وقد تباينت الثمار، كان من الطلاب من ذهب ليحصّل علم القوم، فرجع بفكر القوم لا بعلمهم، فلا هو حصل العلم، ولا بقي على أفكار مجتمعه، فصار بعضهم شوكًا في حلوق بلادهم، حين رجع متأثرًا في أخلاقه وأفكاره وطروحاته وولائه، بل إن كثيرًا من الأحزاب السياسية -سواء الاشتراكية أم العلمانية أم اليسارية أم غيرها- ما عرفها المسلمون إلا حين بدأت وفود المبتعثين الأوائل تعود، وللحق فإن عددًا من المبتعثين جاء بعلم نفع به بلده ومجتمعه، ورجع بعدما أعطى عن الإسلام صورة حسنة، وكان داعية إلى الله بفعاله وربما بأقواله، ورجع بفكره الإسلامي لم يتأثر بتغريب ولم يفتتن بفكرٍ كافرٍ غريب، وهؤلاء هم الوجه المشرق للابتعاث، وشتان ما بين الثمرتين.
معشر الكرام: ومنذ سنواتٍ يسيرة وبلادنا -رعاها الله- تشهد ثورة في عالم الابتعاث مختلفة عن سابقاتها، في العدد والعمر وتعدد المجالات، فهي لجميع العلوم ولشتى الدول وكافة التخصصات ولجلّ الراغبين، حتى وصل عدد المبتعثين مئة ألف أو يزيدون، ما بين شباب وفتيات وما بين المتخرجين من المرحلة الثانوية أو طلاب الدراسات العالية، وفي كل عام يزداد العدد ويصاح بالراغب، ويفتح الباب للمتقدم، فأنفقت في ذلك أموال طائلة، وارتحل إلى هناك أعداد ضخمة ما بين ذكور وإناث، وهي أكبر حركة ابتعاث عرفتها الدول العربية، وأرى أننا حين نتحدث عن الابتعاث فلا بد أن نشير لجملة من الأمور:
أولاً: كان قصد ولاة الأمر بالابتعاث نقل العلوم لهذه البلاد، وذلك مقصد حسن، ومن العدل أن نقول بأن في الابتعاث بعض المصالح: كاكتساب العلوم والمعارف التي لا توجد في بلادنا، وإيجاد الاكتفاء من أبناء البلد، لا سيما وبلاد الإسلام ينبغي أن يكون لديها الهدف لإيجاد تنمية شاملة لجميع مجالات الحياة لتقارع الدول المتقدمة ماديًّا، ولا تكون عالة على غيرها ممن سبقوها، وفي سبيل هذا الهدف يكون الابتعاث أمرًا فيه مصلحة لو كان بضوابطه وقيوده المرعية.
ثانيًا: حين يكون هدف الابتعاث حسنًا فلا يسوّغ ذلك لنا أن نبتعث الأولاد من الجنسين بلا ضوابط ولا قيود؛ ذلك أن المرء بالابتعاث يسافر إلى بلاد تختلف عن مجتمعه، فما يحرم هنا يتيسر هناك، والبيئة والدين تختلف عما عليه الوضع في بلده، لا سيما وهو سيسافر لبلاد كفر في غالب الأمر، ومن هنا فثمة ضوابط ينبغي على الراغب في الابتعاث تلمسها من نفسه، وقبل ذلك وأهم على الجهة الراعية للابتعاث أن تعتني بها، ومن آكد ذلك أن يكون لدى المرء علم شرعي يحميه من الشبهات، وما أكثرها هناك!! وأن يكون لديه الدين الذي يعصمه من الوقوع في الشبهات، وأن يكون البلد بحاجة لتخصصه وما يريد تعلمه.
وحتى مع تحقق هذه الشروط فالأصل أن يكون للذكور، وعلى تحفظ، وفي حدود ضيقة، ولقد كان لهيئة كبار العلماء في هذا البلاد رأي وتشديد في ابتعاث النساء؛ لأن الأمر في حقهن أصعب، وتأثرهن أسرع، وتبعات ابتعاثهن أكثر، وبقائها على حشمتها وحجابها متعذر، جاء في قرار الهيئة قبل ثلاثين عامًا ما يلي: منع ابتعاث البنات للخارج منعًا باتًّا لا استثناء فيه، ويتعين عدم السماح لأي إنسان يبعث بنته أو من له ولاية عليها للدراسة في الخارج، سواء في البلاد المجاورة، أو في بلاد الغرب، ولو على حسابه الخاص. فرحم الله أولئك العلماء، وحفظ من بقي منهم، ما كان أكثر فقههم، وما أحوجنا إلى الرجوع لرأيهم!!
ثالثًا: وكل ناظر لواقع الابتعاث يقابله الواقع المشاهد، فما هي حال المبتعثين هناك، أما إن منهم من استفاد وحفظ دينه وإيمانه واعتقاده، ولكن ثمة جملةً كبيرة منهم اعترضتهم العوارض، واعتراهم القصور من جوانب، ماذا تتوقع من إرسال شبابٍ بعد مرحلة الثانوية في عنفوان الشباب وزمن التفتح الفكري والجسمي، وربما بعضهم عجز أهله عن تحصينه والسيطرة عليه في بلده وهو بينهم، ثم تراه يرسل في موئل الفتنة وبلاد الكفر، بعيدًا عن الرقيب البشري، وخليًّا من التحصين الداخلي، والأمر أخطر حين تكون أنثى غير متزوجة تبقى هناك مع زميلاتٍ تعرفت عليهن، أو مع أخيها الذي يحتاج لقيّم، أو محرمها الذي يعود لبلده سريعًا، نعم إننا أمام معضلة أطلت برأسها، والتبعة -وإن كان يشترك فيها الأسرة والمجتمع- إلا أنه يتحملها أولاً من فتح أبواب الابتعاث على مصراعيه، يلج فيه كل راغب حتى ولو كان ممن أوصدت أمامه أبواب الجامعات، ويلتحق به كل قاصد ولو كان يريد به ركوب الموضة والسفر للنزهة والسياحة ومواكبة الأقران.
وهنا نتساءل: هل المقصود من الابتعاث تحصيل العلم؟! وإذا كان كذلك فلماذا نبتعث لأي تخصص وعلم ولو كان له وجود في بلادنا، ولم لا يجعل محصورًا على علومٍ محددةٍ لا توجد عندنا، وهل في جامعاتنا قصور حتى نتجاوزها ونلجئ الشباب لأن يذهبوا هناك ليأخذوا علومًا هي في جامعاتنا أقعد وأقوى، وهل نعجز عن استقطاب أفضل الأساتذة وتشييد أرقى الجامعات بضوابط المسلمين بجزء من ميزانيات الابتعاث؟! أسئلة مطروحة ولا زالت تنتظر الإجابة.
الخطبة الثانية:
رابعًا: حين ترى كبار العلماء يحذرون من الابتعاث فليس ذلك لأنهم غابت عنهم منافع الابتعاث في حين أنها ظهرت لغيرهم، وإنما لأنهم يعلمون أن أغلى ما لدى الإنسان دينه واعتقاده وإيمانه، وهي عرضة للتأثر في بلاد الكفار، وحين ينظر للابتعاث بوضعه الحالي يجد فيه من المفاسد ما يطغى على مصالحه؛ فثمة آثارٌ أخلاقية كتيسر الخمور والمخدرات، ووقوع جملة من شبابنا في شراكها، وتيسير أبواب الفواحش، وثمة الملاهي والمراقص ووسائل الإفساد وهي قد فتحت أبوابها، وقد سقط في حمأتها جملة من شبابنا، وما ظنك بجيلٍ نشأ على الطهر والحشمة والحياء فتح عينيه وإذا كل هذا أمامه بلا رقيب بشري ولا رادع نظامي.
والآثار أكثر من هذا؛ فهل انقدحت شرارة حركات التغريب والدعوة لتحرير المرأة في بلاد المسلمين إلا في بلاد الابتعاث؛ حيث قاسم أمين والطهطاوي وطه حسين وغيرهم، وكلهم جاؤوا بها بعد ابتعاثهم لفرنسا ورجوعهم منها مفتونين بالغرب، دعاةً للتغريب في مصر وغيرها، بل وقلب ناظريك في دعاة التغريب في مجتمعنا تجد أن جلّهم من بقايا المبتعثين الأوائل.
كل هذه الآثار وغيرها ليست بأخطر من الأثر العقدي؛ حيث يضعف الولاء والبراء في نفس المخالط لهم صباح مساء، وربما تأثر المرء ببعض الشبهات العقدية المطروحة، والمفاهيم الفكرية الباطلة، وتأثر بالكفار وتشبه بهم، وأخطر من كل هذا أنه ربما ترك دينه ولحق بدين القوم، وهذه قاصمة الظهر، والتي وقعت بمشهد ومسمع من تحدث من هناك، وحدثني بها من وقف عليها في بعض البلدان، كل هذه آثار موجودة، وظهرت على السطح لدى فئة من هؤلاء، وإن كان جملة من المبتعثين قد سلم منها وهو الأصل، بل بعضهم زاد تمسكه بدينه حين ذهب، كل هذا وُجِد، وليس الحديث عن الآثار يعني أن كل مبتعث واقع فيها، ولكن وقوع بعض شبابنا فيها هو نذير خطر بالغ إن لم تتدارك.
وبعد هذا نعلم لم شدد العلماء الأفاضل في الانفتاح على الابتعاث وأغلظوا فيه القول، قال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- مفتي هذه الديار السعودية في زمانه، متحدثًا عن الابتعاث في الثمانينيات: "والذي أراه يتعين ولا يسوغ العدول عنه هو منع البعثات إلى الخارج بتاتًا؛ سدًّا لباب الردة والنشء الكفري، وقطعًا لمادة الفتنة، وتمييزًا وتفريقًا بين الحق والباطل".
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "من أساليب الغزو الفكري: ابتعاث أبناء المسلمين إلى الجامعات الأوربية والأمريكية وغيرها، وبعد إكمال دراستهم وعودتهم إلى بلادهم وتسلمهم المناصب الكبيرة في الدولة هم أخطر ما يطمئن إليه المستعمر بعد رحيله، ويضع الأمانة الخسيسة في أيديهم، ينفذونها بكل دقة، بل بوسائل أشد عنفًا وقسوة من تلك الذي سلكها المستعمر".
وقال الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-: "تبينتُ فيما أكَّدَتْ لي الأيام، وأثبتت لي التجارب، أن جُل الفساد الذي دخل مجتمعنا، فأضاع أخلاقنا، وبعَّدنا عن ديننا، إنما جاء كله من الغرب، من أوروبا وأمريكا، من ذهاب أبنائنا إليه".
وغيرهم كثير من العلماء الأفاضل، كل هذا لا تظن أن فيه قصر نظر من هؤلاء العلماء، كلا، وإنما لأن القاعدة أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأن الباب إذا كان شره أغلب من خيره أوصد، وإلا فإذا وجد الابتعاث بضوابطه فلا يمنع العلماء من ذلك.
خامسًا: وحين يكون الابتعاث واقعًا مفروضًا فكيف نرشّده ونخرج منه بالثمرة وبأيسر الخسائر:
فأول ذلك: أن لا يكون الابتعاث للمتخرجين من الثانوية؛ بل لمن تقدمت أعمارهم ونضج فكرهم، ويؤكد على كونه متزوجًا ليحصنه ذلك، وتقليل العدد في سبيل اختيار النوعية، وجعله في التخصصات التي تحتاجها البلاد، كل هذا مع الحرص الأكيد على تحصين الذاهب عقديًا وشرعيًا وتربويًا وأخلاقيًا، ليعود مثمرًا نافعًا، بقي له دينه ورجع بعلم ينفع فيه أمته، مع إيجاد اللجان التي تتابع المبتعث وتتلمس حاجته الدينية، وتكثيف الدورات الشرعية قبل الذهاب وبعد الذهاب.
وأما أنت -يا من رغبت في الابتعاث- فاحرص على أن تتحصن قبل ذهابك بالعلم الشرعي والإيمان، وليكن هدفك نفع الأمة لا نفع نفسك فحسب، وكن خير سفيرٍ للإسلام، وتحلّ بأخلاقه العظام، وأنت أدرى بنفسك، فإن خفت زيغة وتأثرًا في دين أو فكر أو معتقد فدينك ونفسك أولى، فالزم بلدك ولتسعك ديارك، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
وبعد -أيها الفضلاء- أعلم أننا أمام موضوع كبير، ربما آثاره لم تظهر بقوة بعد إلى الآن، ولكن أما وقد صار الابتعاث واقعًا فالتعاون في ترشيده وضبطه مطلب مهمٌ ينبغي أن تصرف الجهود له، اللهم احفظ شباب المسلمين في كل مكان، وارزقنا خير الابتعاث واحفظ بلادنا من شره.
التعليقات