عناصر الخطبة
1/حكم الإيمان بالكتب السماوية 2/حقيقة الإيمان بالكتب السماوية 3/تحريف وتبديل الكتب السابقة 4/القرآن محفوظ من التحريف والتبديل 5/نسخ الكتب السابقة ووجوب العمل بالقرآن 6/القرآن كلام الله تعالى 7/فضل تلاوة القرآن وتدبره والعمل بما فيه.اقتباس
ومَن استخفَّ بالقرآنِ، أو المصحفِ، أو بشيءٍ منه، أو سبَّهما، أو جحدَه، أو حرفًا منه أو آيةً، أو كذَّبَ به، أو بشيءٍ منه، أو أثبتَ ما نفاهُ، أو نفى ما أثبتَه على علْمٍ منه بذلك، أو شكَّ في شيء من ذلك، فهو كافرٌ عند أهلِ العلمِ جميعًا...
الخُطْبَة الأُولَى:
إن الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله -تعالى-، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
أما بعدُ: فحَدِيثُنَا معَ حضراتِكم في هذه الدقائقِ المعدوداتِ عن الأصل الثالث من أصول الإيمان وهو: "الإيمان بكتب الله -تعالى-"، واللهَ أسألُ أن يجعلنا مِمَّنْ يستمعونَ القولَ، فَيتبعونَ أَحسنَهُ، أُولئك الذينَ هداهمُ اللهُ، وأولئك هم أُولو الألبابِ.
اعلموا -أيها الإخوة المؤمنون- أن الإيمانَ بكتبِ اللهِ كلِّها التي أنزلَها على رسلِه -عليهم السلام- ركنٌ عظيمٌ من أركانِ الإيمانِ، وأصلٌ كبيرٌ من أصولِ الدينِ، لا يتحقَّقُ الإيمانُ إلَّا بهِ؛ قال -تعالى-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)[البقرة: 177].
والكِتابُ: اسمُ جنسٍ يشملُ جميعَ الكتبِ المنزَّلةِ منَ السماءِ على الأنبياءِ، حتى خُتمتْ بأشرفِها، وهو القُرآنُ المهيمنُ على ما قبلَه من الكتبِ الَّذِي انتهى إليهِ كلُّ خيرٍ، واشتملَ على كلِّ سعادةٍ في الدنيا والآخرةِ، ونَسخَ اللهُ بهِ كلَّ ما سواهُ من الكُتبِ قبلَه، وآمنَ بأنبياءِ اللهِ كلِّهم منْ أوَّلهم إلى خاَتِمهم محمدٍ -صلواتُ الله وسلامُه عليه وعليهم أجمعينَ-(تفسير ابن كثير: 1/ 486).
والمراد بالكتب هي الكُتبُ والصحفُ التي حوتْ كلامَ اللهِ -تعالى- الَّذِي أوحاهُ إلى رسلِهِ -عليهم السلام-، سواءٌ ما ألقاهُ مكتوبًا كَالتوراةِ، أو أنزلَه عنْ طريقِ المَلكِ مُشافهةً فكُتبَ بعد ذَلك كسائرِ الكُتبِ.
ويجبُ عَلينا الإيمانُ بما علِمنَا من أسماءِ الكتبِ التي أنزلهَا اللهُ، ومَن أُنزلتْ إليهم، وما تَضمَّنَته منْ شرائعَ، وأنَّ القرآنَ ناسخٌ لها جميعِها؛ إِذ لا يَجوزُ العملُ بما فيها، وتركُ القرآنِ العظيمِ، وأنَّ مَن كذَّب بِها، أو جحدَ شيئًا منها فهو كافرٌ بالله خارجٌ من الدِّينِ؛ قَالَ اللهُ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا)[النساء: 136].
ويجبُ عَلينا الإيمانُ بأنَّ اللهَ أنزلَ كُتبًا إلى رُسلِه حتَّى يبلغوا ما فيها من توحيد، وشرائع إلى أقوامِهم، والحكمُ بها كانَ واجبًا على الأممِ التي أُنزلتْ إليها، ويجب الإيمانُ بأنها يُصدِّق بعضُها بعضًا؛ قَالَ اللهُ -تعالى-: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[البقرة: 136].
ويجب علينا الإيمانُ بأنَّ جميعَ الكتبِ السَّابقةِ قدْ دخلَها التحريفُ، والتبديلُ، والتغييرُ؛ قالَ -سبحانه وتعالى- في حقِّ اليهودِ: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[البقرة: 75]؛ قال العلماءُ في تفسير هذه الآيةِ: "التوراةُ التي أنزلها عليهم يحرِّفُونها، يجعلونَ الحلالَ فيها حرامًا، والحرامَ فيها حلالًا، والحقَّ فيها باطِلًا، والباطلَ فيها حقًّا"(تفسير ابن كثير: 2/ 246).
وقَالَ اللهُ -سبحانه وتعالى- عن اليهود: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)[النساء: 46]؛ وقَال اللهُ -سبحانه وتعالى- مخبِرًا عنِ النَّصارى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[المائدة: 14، 15].
قال العلماءُ في تفسيرِ الآيةِ: "أَيْ يُبَيِّنُ مَا بَدَّلُوهُ، وَحَرَّفُوهُ، وَأَوَّلُوهُ، وَافْتَرَوْا عَلَى اللهِ فِيهِ، وَيَسْكُتُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا غَيَّرُوهُ وَلَا فَائِدَةَ فِي بَيَانِهِ"(تفسير ابن كثير: 3/ 67).
وقد كانَ هذا التحريفُ بالزيادةِ تارةً، وبالنقصِ تارةً أخرى؛ فدليلُ الزيادةِ فيها قَولُهُ -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)[البقرة: 79].
ودليلُ النقصِ منها قَولُهُ -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ)[المائدة: 15]؛ وقَولُهُ -تعالى-: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)[الأنعام: 91].
قال العلماءُ في تفسيرِ الآيةِ: "أَيْ تَجْعَلُونَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى فِي قَرَاطِيسَ تَضَعُونَهُ فِيهَا لِيَتِمَّ لَكُمْ مَا تُرِيدُونَهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَكَتْمِ صِفَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- المَذْكُورَةِ فِيهِ"(فتح القدير، للشوكاني: 2/ 158).
أمَّا القرآنُ العظيمُ فقدْ سلِمَ مما طرأَ على الكتبِ السابقةِ من التحريفِ والتبديلِ، وهو محفوظٌ من كلِّ ذلك بحفظِ الله له كما أخبرَ اللهُ عن ذلك بقولِه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9].
قال العلماءُ في تفسيرِ الآيةِ: "وإنَّا للقرآنِ لحافظونَ من أن يُزادَ فيه باطلٌ مَا ليسَ منه، أو يُنقصَ منه ما هو منه من أحكامِه وحدودِه وفرائضِه"(تفسير الطبري 17/ 68).
وقالَ اللهُ -تعالى-: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)[القيامة: 16، 17]، ولو نظرنا في العالم لوجدنا قرآنًا واحدًا، أما الإنجيل فكثير، وكذلك التوراة، وكل نسخة منهما تختلف مع الأخرى، فهذا دليل حسي قوي على عدم تحريف القرآن، وتحريف الإنجيل، والتوراة.
ومنَ الكتبِ التي فُقدِت ولم تصلْ إلينَا: صحفُ إبراهيمَ، وزبورُ داودَ -عليه السلام-.
والقرآنُ الكريمُ هو آخِرُ الكُتبِ السماويَّةِ نزولًا على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّه خاتَمُ النبيينَ، والوحيُ انقطعَ بموتِه -صلى الله عليه وسلم-؛ قَالَ اللهُ -تعالى-: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)[الأحزاب: 40]، وقَالَ اللهُ -تعالى-: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ)[آل عمران: 3، 4].
والقرآن شاهدٌ على ما قبلَه من الكتبِ السابقةِ، وحاكمٌ عليها؛ قَالَ -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[المائدة: 48]، ولا يجوز لأحد أن يعمل بما في الكتب السابقةِ إذا كانَ مُخالفًا لما جاء في القرآن.
فلا يجوزُ لأهلِ الكتابِ، ولا لغيرِهم أن يعبدوا اللهَ بعد نزولِ القرآنِ بغيرِه، فلا دِينَ إلَّا ما جاءَ بهِ، ولَا عبادةَ إلا ما شرَعَ اللهُ فيه، ولا حلالَ إلا ما أحلَّ فيه، ولا حرامَ إلا ما حرَّمَ فيه؛ قَالَ -تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران: 85].
وقد نَهَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه -رضي الله عنهم- عن القراءةِ في كتبِ أهلِ الكتابِ؛ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَغَضِبَ، وَقَالَ: "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا بْنَ الخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي" (رواه أحمد 15156، وحسنه الألباني في الإرواء: 1589). ومعنى "أمتهوكون"؛ أي أمتحيرون، ومتشككون، ومضطربون.
أقولُ قولي هذا، وأَستغفرُ اللهَ لي، ولكُم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى، وصلاةً وَسَلامًا على عبدِه الذي اصطفى، وآلهِ المستكملين الشُّرفا.
أما بعد: اعلموا -أيها الإخوة المؤمنون- أن القرآنَ منْ كلامِ اللهِ -تعالى- تكلم به حقيقةً بلفظه، ومعناه؛ قَالَ -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ)[التوبة: 6].
والقرآنُ نزلَ به جبريلُ -عليه السلام- على قلبِ سيِّدِ المرسلينَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ قَالَ اللهُ -تعالى-: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة: 97]، وقَالَ -تعالى-: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)[الشعراء: 192 - 194].
أما ما أنزَلهُ اللهُ -جل جلاله- على غيرِ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- من الأنبياءِ، فلا يُسمَّى قرآنًا كتوراةِ موسى، وإنجيلِ عيسى، وزبورِ داودَ، وصحفِ إبراهيمَ -عليه السلام-، وكذلك ما استأثرَ اللهُ بعلمِه لا يسمَّى قرآنًا، كما قَالَ -تعالى-: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)[الكهف: 109]، وقَالَ -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[لقمان: 27].
والقرآنُ نزلَ كلُّه بلفظٍ، ولسانٍ عربيٍّ؛ قَالَ -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)[إبراهيم: 4]، وقَالَ -تعالى-: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشعراء: 192 - 195]، وقَالَ -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا)[الرعد: 37]، وقَالَ -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)[الشورى: 7].
أما ما تُرجمَ لغيرِ لغةِ العربِ، فإنَّهُ لا يسمَّى قرآنًا، وإنما يُسمَّى معَاني القرآنِ.
والقرآن تعبدَنا اللهُ -جل جلاله- بتلاوتِه، فتلاوتُه عبادةٌ يُثابُ فاعلُها، فمنْ قرأَ منه حرفًا، فلَهُ به عشرُ حسناتٍ؛ رَوَى الترمذيُّ عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ"(رواه الترمذي 2910، وصححه الألباني).
والقرآن نقلَه الصحابةُ -رضي الله عنهم- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وبلَّغوه إلى التابعينَ بلفظِه ومعناهُ، وبلَّغَ التابعونَ لفظَه ومعناهُ لمن بعدَهم حتى انتهى إلينا، فلَا يجوزُ ردُّ آيةٍ منه، ولا يحلُّ إنكارُها.
وقد أجمعَ المسلمونَ على أنَّ كلامَ اللهِ-جل جلاله- هو المتلوُّ في المَحاريبِ المَكتوبُ في المصاحفِ المشهورةِ بين أيدِينا الَّذِي أولُه سورةُ الفاتحةِ، وآخرُه سورةُ الناسِ.
ومَن استخفَّ بالقرآنِ، أو المصحفِ، أو بشيءٍ منه، أو سبَّهما، أو جحدَه، أو حرفًا منه أو آيةً، أو كذَّبَ به، أو بشيءٍ منه، أو أثبتَ ما نفاهُ، أو نفى ما أثبتَه على علْمٍ منه بذلك، أو شكَّ في شيء من ذلك، فهو كافرٌ عند أهلِ العلمِ جميعًا (الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض 2/ 304).
قال الله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]؛ والقرآنُ كلُّه نزلَ بواسطةِ المَلَك، فقد تكلَّمَ اللهُ به، وسمعَه جبريلُ -عليه السلام- من اللهِ -تعالى-، وبلَّغَه جبريلُ -عليه السلام- لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ قَالَ -تعالى-: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)[الشعراء: 192 - 194]، وقَالَ -تعالى-: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل: 102].
فهذا أخي المسلم كتاب الله لا يزال غضًّا طَريًّا كما أنزل، فهلَّا أقبلنا عليه تلاوة وتدبرًا وعملًا؟!
اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم إنا نعوذ بك من شر أسماعنا، ومن شر أبصارنا، ومن شر أَلْسُنِنَا، ومن شر قلوبنا.
اللهم إنا نعوذ بك من البَرَص، والجنون، والجذام، ومن سيِّئ الأسقام.
اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء.
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنا.
اللهم ثبِّت قلوبَنا على الإيمان.
اللهم ارزُقنا العلمَ النافع، والعملَ الصالحَ.
أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.
التعليقات