عناصر الخطبة
1/أهمية ومكانة الإيمان باليوم الآخر 2/مشاهد الحساب يوم القيامة 3/مشاهد المرور على الصراط 4/دخول الفقراء والأغنياء الجنة 5/آثار الإيمان باليوم الآخراقتباس
والإيمان باليوم الآخر أعظم أركان الإيمان بعد الإيمان بالله، ذلك أن الإيمان باليوم الآخر يقوم على الإيمان والثقة بعدل الله وحكمته، فلا ينتظر العبد من ربه الحكيم العادل أن يسوّي بين الأنبياء وأعدائهم، ولا بين القاتل والمقتول...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لا يكتمل إيمان المسلم إلا إذا آمن باليوم الآخر وما فيه من أحداث كبرى؛ يجمع الله فيه الخلائق ليحاسبهم على ما قدموا من أعمال ففي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.."(رواه مسلم)، فيجمع الله الخلائق ليوم لا ريب فيه فيجازي المحسنين بجنات النعم، ويخزي الطالحين بالعذاب المقيم في جهنم، والعياذ بالله-.
وإن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، لا يصح إيمان عبد حتى يعلم ويتيقن دون ريب ولا تردد أن ثمة يومًا يرجع فيه الناس إلى الله فيحاسب المحسن والمسيء، فيجازي المحسن بإحسانه ويجازي المسيء بإساءته.
والإيمان باليوم الآخر أعظم أركان الإيمان بعد الإيمان بالله، ذلك أن الإيمان باليوم الآخر يقوم على الإيمان والثقة بعدل الله وحكمته، فلا ينتظر العبد من ربه الحكيم العادل أن يسوّي بين الأنبياء وأعدائهم، ولا بين القاتل والمقتول، ولا بين الظالم والمظلوم، ولا بين من صام وقام وعبد ربه، وبين من فجر وعصى، فعدل الله وحكمته تأبى أن يعيش موسى وفرعون ثم يموتان.. ولا شيء بعد ذلك، كلا فالله الحكيم العادل جعل هناك دارًا للجزاء، ولا يظلم ربك أحدًا.
وقد حفل القرآن الكريم والسنة المطهرة بذكر مشاهد يوم القيامة، ولنتأمل معًا أيها المسلمون في بعض أوصاف يوم القيامة في القرآن العظيم، يقول الله -جل وعلا-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)[الزمر:68-70]، ففي هذه الآيات تذكير بالإيمان بيوم القيامة الذي هو كائن لا محالة.
وفي ذلك اليوم تنشر الكتب ويعرف المرء عمله فيكون المؤمن فرحًا مسرورًا يأخذ كتابه بيمينه، ويكون الكافر أو الفاجر خائفًا وجلاً لا يدري ما يصنع به، وترفع النار فيساق إليها الكفار وردًا، يساقون إليها فيتهافتون إليها تهافت الجراد.
وأما أهل الإيمان فإنهم يتأخرون، وكذلك الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا في أمر عصيب، وتفصيل في ذلك اليوم حتى تقام الظلمة دون الجسر ويُنصب الصراط على النار، والأنبياء يقولون وهم على الصراط: اللهم سلِّم سلمْ؛ من شدة ما يرون من الهول، وكلٌّ لا يهمه إلا نفسه، فإن المرء تهمه نفسه، فيأتي أهل الإيمان يمشون على الصراط بقدر أعمالهم، ويرون الصراط ودونه الظلمة لأنهم يعطون نورًا، فيعبر بعض أهل الإيمان كالبرق سرعةً، وبعضهم يعبره كالراكب، وبعضهم يمشي مشيًا، وبعضهم يحبو حبوًا، والقلوب خائفة وجلة في أمر عصيب؛ لأن بعده عذابًا سرمديًّا أو نعيمًا سرمديًّا.
والناس إذا عبروا على الصراط فهم بين ناجٍ مُسلم، ومن مكردس في النار، فينقي الله أهل الإيمان في النار إذا لم يشأ أن يغفر لهم، ينقي ما في قلوبهم من الخبث؛ لأن العاصي في قلبه خبث لا بد أن يطهر -إن لم يغفر الله له ذلك ويطهره بمنه وكرمه-، فتكون عامة النار للكفار، وتكون طبقتها العليا لأهل التوحيد، يمكثون فيها زمانًا طويلاً، وهم في عذاب شديد، عذاب شديد، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يشفع الشفعاء وتبقى شفاعة رب العالمين إلى آخر ما يحصل من ذلك.
وإذا جاوز أهل الإيمان الصراط اجتمعوا دون الجنة فتأخر الأغنياء عن دخول الجنة بنصف يوم، يعني بخمسمائة سنة، ويدخل الفقراء الجنة أول الأمر؛ لأن حقوق المال عظيمة؛ ولأن حقوق ما آتى الله عباده فيها أمر شديد وفيها حساب، فيؤخر الأغنياء حتى يُعطى الناس منهم حقوقهم، وعند ذلك يحصل بلوغ المنازل لهم ثم يدخل أولئك الأغنياء، يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)[الحج:47].
وثقوا -أيها الإخوة- أن الإيمان باليوم الآخر له ثمرات عديدة، منها أن الإيمان بالآخرة يحجز عن الصراع والمنافسة في حطام الدنيا وملذاتها، والخوض في الحرمات والمحرمات بلا تحرج ولا حياء، فالدار الآخرة فيها عطاء، وفيها غَنَاء، وفيها عوض عما يفوت، وفي حديث عن بعض أصحاب النبي مرفوعًا أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه"(صححه الألباني).
عباد الله: إن الإيمان بالآخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات، ويضمن القصد والاعتدال، ومن لا يؤمن بالآخرة لا يملك أن يحرم نفسه شهوة، أو يكبح فيها نزوة، ومن لا يحسب حساب الوقفة بين يدي الله، ولا يتوقع ثوابًا ولا عقابًا يوم القيامة، فما الذي يمسكه عن إرضاء شهواته ونزواته، وتحقيق لذاته ورغباته؟: (إنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا)[النبأ:27-28]، بخلاف من يؤمن بلقاء ربه ويتقي الآخرة، فإن ذلك كان داعيًا لهم لفعل الخيرات وترك المنكرات قال تعالى: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)[الطور:26-27].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المؤمنون: إن الإيمان بالغيب هو الذي يحكم السلوك الإنساني، ويدخل فيه أساسًا الإيمان باليوم الآخر، فإذا لم يعتقد الإنسان بالآخرة فممن يخاف ويخشى؟ من ذا الذي يرفع يدك عن ضعيف تغتصب حقه إلا إيمانك بالآخرة، ما الذي يوقفك عن أن تأكل أموال الناس بالباطل؟ فالإيمان بالآخرة هو الوازع الخفي لانضباط السلوك؛ لأنك تعرف أن كل عمل تعمله مكتوب عليك، وسيسألك الجبار عنه، فلولا الإيمان بالآخرة لتحولت الدنيا إلى غابة يعيشها وحوش، يقتل القوي الضعيف، ويعتدي القادر على العاجز، ويضيع الحق، وتباح الحرمات، وتنتهب الأموال، وتنتهك الأعراض.
إن أخشى ما يخشاه المؤمن هو حساب الله له في الآخرة، وأخشى ما يخشاه الكافر هو الحساب في الآخرة، فالكافر وإن كان لا يؤمن بالآخرة إلا أن داخله شيء يؤرقه، والموت الذي يراه كل يوم في أهله وقومه يملأ حياته رعبًا وفزعًا، وينغّص عليه عيشه.
يا عباد الله: علينا الاستعداد لذلك اليوم العظيم بالإيمان والأعمال الصالحة، والمبادرة إلى التوبة من الذنوب، والاستغفار من كل خلل أو تقصير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18]، وليتق العبد ربه، وليستعد لذلك اليوم العظيم، الذي فيه الوعد على فعل الخير والوعيد على فعل الشر كما قال سبحانه: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة:281].
فمن علم أنه راجع إلى الله، فمجازيه على الصغير والكبير، والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له ذلك الرغبة والرهبة، والانتباه من الغفلة: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مريم:93-95]، ومن آمن بالله واطمأن بذكره، وصدق رسله، وعمل بشرعه، فهذا هو الفائز يوم القيامة وهو الذي يقال له: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر:27-30]، اللهم: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [آلعمران:193]، فاعملوا إخواني لهذا اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، جنبي الله وإياكم مضلات الفتن في الدنيا، ورزقنا من واسع بره وكرمه، وهدانا إلى الصراط المستقيم.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
التعليقات