اقتباس
أظهر الشافعي طريقا ومنهجا جديدا في الاستدلال الذي هو في حقيقته مزيج من فقه الحجاز وفقه العراق ، وهو منهج أنضجه عقل متوهج ، عالم بالقرآن والسنة ، بصير بالعربية وآدابها خبير بأحوال الناس وقضاياهم ، قوي الرأي والقياس ..
الإمام الشافعي احد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة . وهو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي .
وكان أبوه قد هاجر من مكة إلى غزة بفلسطين بحثا عن الرزق لكنه مات بعد ولادة محمد بمدة قصيرة فنشأ محمد يتيما فقيرا . وشافع بن السائب هو الذي ينتسب إليه الشافعي لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، واسر أبوه السائب يوم بدر في جملة من أسر وفدى نفسه ثم اسلم . ويلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
إما أمه فهي يمانية من الأزد وقيل من قبيلة الأسد وهي قبيلة عربية لكنها ليست قرشية، قيل إن ولادة الشافعي كانت في عسقلان وقيل بمنى لكن الأصح أن ولادته كانت في غزة عام 150 هجرية وهو نفس العام الذي توفى فيه أبو حنيفة .
ولما بلغ سنتين قررت أمه العودة وابنها إلى مكة لأسباب عديدة منها حتى لايضيع نسبه ، ولكي ينشأ على ما ينشأ عليه أقرانه ، فأتم حفظ القران وعمره سبع سنين . عرف الشافعي بشجو صوته في القراءة ، قال ابن نصر : كنا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض : قوموا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القران ، فإذا أتيناه (يصلي في الحرم ) استفتح القران حتى يتساقط الناس ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته فإذا رأى ذلك أمسك من القراءة .
ولحق بقبيلة هذيل العربية لتعلم اللغة والفصاحة ، وكانت هذيل أفصح العرب ، ولقد كانت لهذه الملازمة اثر في فصاحته وبلاغة ما يكتب، وقد لفتت هذه البراعة أنصار معاصريه من العلماء بعد أن شب وكبر ، حتى الأصمعي وهو من أئمة اللغة المعدودين يقول : ( صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس ) .
وبلغ من اجتهاده في طلب العلم أن أجازه شيخه مسلم بن خالد الزنجي بالفتيا وهو لا يزال صغير .
حفظ الشافعي وهو ابن ثلاث عشرة سنة تقريبا كتاب الموطأ للإمام مالك ورحلت به أمه إلى المدينة ليتلقى العلم عند الإمام مالك . ولازم الشافعي الإمام مالك ست عشرة سنة حتى توفي الإمام مالك (179 هجرية ) وبنفس الوقت تعلم على يد إبراهيم بن سعد الأنصاري ، ومحمد بن سعيد بن فديك وغيرهم .
وبعد وفاة الإمام مالك (179 هجرية ) سافر الشافعي إلى نجران واليا عليها ورغم عدالته فقد وشى البعض به إلى الخليفة هارون الرشيد فتم استدعائه إلى دار الخلافة سنة (184هجرية ) وهناك دافع عن موقفه بحجة دامغة وظهر للخليفة براءة الشافعي مما نسب إليه وأطلق سراحه .
وأثناء وجوده في بغداد أتصل بمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة وقرأ كتبه وتعرف على علم أهل الرأي ثم عاد بعدها إلى مكة وأقام فيها نحوا من تسع سنوات لينشر مذهبه من خلال حلقات العلم التي يزدحم فيها طلبة العلم في الحرم المكي ومن خلال لقاءه بالعلماء أثناء مواسم الحج . وتتلمذ عليه في هذه الفترة الإمام احمد بن حنبل .
ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة ( 195 هجرية ) ، وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء ويقصده الطلاب من كل مكان .
مكث الشافعي سنتين في بغداد ألف خلالها كتابه (الرسالة ) ونشر فيها مذهبه القديم ولازمه خلال هذه الفترة أربعة من كبار أصحابه وهم احمد بن حنبل ، وأبو ثور ، والزعفراني ، والكرابيسي . ثم عاد الإمام الشافعي إلى مكة ومكث بها فترة قصيرة غادرها بعد ذلك إلى بغداد سنة (198هجرية ) وأقام في بغداد فترة قصيرة ثم غادر بغداد إلى مصر .
قدم مصر سنة ( 199 هجرية ) تسبقه شهرته وكان في صحبته تلاميذه الربيع بن سليمان المرادي ، وعبد الله بن الزبير الحميدي ، فنزل بالفسطاط ضيفا على عبد الله بن عبد الحكم وكان من أصحاب مالك . ثم بدأ بإلقاء دروسه في جامع عمرو بن العاص فمال إليه الناس وجذبت فصاحته وعلمه كثيرا من أتباع الإمامين أبي حنيفة ومالك . وبقي في مصر خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم .
وفي مصر وضع الشافعي مذهبه الجديد وهو الأحكام والفتاوى التي استنبطها بمصر وخالف في بعضها فقهه الذي وضعه في العراق ، وصنف في مصر كتبه الخالدة التي رواها عنه تلاميذه .
وقد أظهر الشافعي طريقا ومنهجا جديدا في الاستدلال الذي هو في حقيقته مزيج من فقه الحجاز وفقه العراق ، وهو منهج أنضجه عقل متوهج ، عالم بالقرآن والسنة ، بصير بالعربية وآدابها خبير بأحوال الناس وقضاياهم ، قوي الرأي والقياس .
وقد دون الشافعي الأصول التي اعتمد عليها في فقهه ، والقواعد التي ألتزمها في اجتهاده في رسالته الأصولية "الرسالة " وطبق هذه الأصول في فقهه ، وكانت أصولا عملية لا نظرية ، ويظهر هذا واضحا في كتابه " الأم " الذي يذكر فيه الشافعي الحكم مع دليله ، ثم يبين وجه الاستدلال بالدليل وقواعد الاجتهاد وأصول الاستنباط التي اتبعت في استنباطه ، فهو يرجع أولا إلى القران وما ظهر له منه ، إلا إذا قام دليل على وجوب صرفه عن ظاهره ،ثم إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الخبر الواحد الذي ينفرد راو واحد بروايته ، وهو ثقة في دينه ، معروف بالصدق ، مشهور بالضبظ . وهو يعد السنة مع القران في منزلة واحدة ، فلا يمكن النظر في القران دون النظر في السنة التي تشرحه وتبينه ، فالقران يأتي بالأحكام العامة والقواعد الكلية ، والسنة هي التي تفسر ذلك ،فهي التي تخصص عموم القرآن أو تقيد مطلقه ، أو تبين مجمله .
ولم يشترط الشافعي في الاحتجاج بالسنة غير اتصال سند الحديث وصحته ، فإذا كان كذلك صح عنده وكان حجة عنده ، ولم يشترط في قبول الحديث عدم مخالفته لعمل أهل المدينة مثلما اشترط الإمام مالك ، أو أن يكون الحديث مشهورا ولم يعمل راويه بخلافه .
ووقف الشافعي حياته على الدفاع عن السنة ، وإقامة الدليل على صحة الاحتجاج بالخبر الواحد ، وكان هذا الدفاع سببا في علو قدر الشافعي عند أهل الحديث حتى سموه ( ناصر السنة ) . ولعل الذي جعل الشافعي يأخذ بالحديث أكثر من أبي حنيفة حتى انه يقبل خبر الواحد متى توافرت فيه الشروط ، أنه كان حافظا للحديث بصيرا بعلله ، لا يقبل منه إلا ما ثبت عنده ، وربما صح عنده من الأحاديث ما لم يصح عند أبي حنيفة وأصحابه .
وبعد الرجوع إلى القرآن والسنة يأتي الإجماع إن لم يعلم له مخالف ، ثم القياس شريطة أن يكون له أصل من الكتاب والسنة ، ولم يتوسع فيه مثلما توسع الإمام أبو حنيفة .
وقد عرف الإمام الشافعي كإمام من أئمة الفقه الأربعة ، لكن الكثيرين لا يعرفون أنه كان شاعرا . فلقد كان فصيح اللسان بليغا ، حجة في لغة العرب عاش فترة من صباه في بني هذيل فكان لذلك اثر واضحا على فصاحته وتضلعه في اللغة والأدب والنحو ، إضافة إلى دراسته المتواصلة واطلاعه الواسع حتى أصبح يرجع إليه في اللغة والنحو .
قال أحمد بن حنبل : كان الشافعي من أفصح الناس ، وكان مالك تعجبه قراءته لأنه كان فصيحا .وقال أيضا : ما مس أحد محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في عنقه منة . وقال أيوب بن سويد : خذوا عن الشافع اللغة .
فمن شعره :
ما حك جلدك مثل ظفرك *** فتول أنت جميع أمرك
ما طار طير وارتفع *** إلا كما طار وقع
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وقال أيضا :
إذا رمت أن تحيا سليما من الردى *** ودينك موفور وعرضك صن
فلا ينطق منك اللسان بسؤة *** فكلك سؤات وللناس ألسن
وعيناك إن أبدت إليك معائبا *** فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى *** ودافع ولكن بالتي هي أحسن
وقال أيضا :
الدهر يومان ذا أمن وذا خطر *** والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف *** وتستقر بأقصى قاعه الدرر
وفي السماء نجوم لا عداد لها *** وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وقال أيضا :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب *** لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما
وقال في الزهد :
عليك بتقوى الله إن كنت غافلا *** يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري
فكيف تخاف الفقر والله رازقا *** فقد رزق الطير والحوت في البحر
ومن ظن أن الرزق يأتي بقوة *** ما أكل العصفور من النسر
نزول عن الدنيا فأنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة***وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وعن مكارم الأخلاق قال :
لما عفوت ولم أحقد على أحد *** أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته *** لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه *** كما أن قد حشى قلبي محبات
الناس داء وداء الناس قربهم *** وفي اعتزالهم قطع المودات
ومن مناجاته - رحمه الله - قوله :
بموقف ذلي دون عزتك العظمى *** بمخفي سر لا أحيط به علما
بإطراق رأسي باعترافي بذلتي *** بمد يدي استمطر الجود والرحمى
بأسمائك الحسنى التي بعض وصفها *** لعزتها يستغرق النثر والنظما
أذقنا شراب الأنس يا من إذا *** سقى محبا شرابا لا يضام ولا يظما
وكان الشافعي رحمه الله فقيه النفس ، موفور العقل ، صحيح النظر والتفكر ، عابدا ذاكرا .
وكان رحمه الله محبا للعلم حتى أنه قال : " طلب العلم أفضل من صلاة التطوع " ومع ذلك روى عنه الربيع بن سليمان تلميذه أنه كان يحي الليل صلاة إلى أن مات رحمه الله ، وكان يختم في كل ليلة ختمة .
وروى الذهبي في السير عن الربيع بن سليمان قال : كان الشافعي قد جزأ الليل ، فثلثه الأول يكتب ، والثاني يصلي ، والثالث ينام...
وظل الإمام الشافعي في مصر ولم يغادرها يلقي دروسه ويحيط به تلامذته حتى لقي ربه في (30 رجب 204 هجرية )...
رحم الله الإمام وجمعنا به في مستقر رحمته ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك غفور رحيم)
التعليقات