اقتباس
قال الشيخ نور الدين عتر: ومما أفاد الترمذي, الرسوخ في علم الحديث عنايته بتلقي الأئمة الكبار الذين إليهم المنتهى في حفظ الحديث ودرايته, وأخذه عنهم, فأكمل تحصيله, وتعمقه, وبرز نبوغه؛ فتقدم إلى محراب الإمامة في الحديث, غير منازع, ولا ممانع.
التعريف به:
اسمه: محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي, الترمذي, الإمام العالم البارع, الحافظ العلامة، مصنف ( الجامع ).
والترمذي نسبة إلى ترمذ, مدينته التي نشأ بها, شمال إيران.
مولده: قال الذهبي: ولد في حدود سنة عشر ومائتين.
صفته: اختلف فيه؛ فقيل: ولد أعمى, والصحيح أنه أضر في كبره, بعد رحلته وكتابته العلم، طلب العلم صغيرا وسافر وارتحل، وسمع بخراسان والعراق والحرمين، ولم يرحل إلي الشام أو مصر.
ثناء العلماء عليه:
قال الحاكم: سمعت عمر بن علك يقول: مات البخاري, فلم يخلف بخرسان مثل أبي عيسى في العلم, والحفظ, والورع, والزهد, بكى حتى عمي, وبقي ضريرا ً سنين.
وذكره ابن حبان في (الثقات), وقال: كان ممن جمع, وصنف, وحفظ, وذاكر.
وقال الذهبي: جامعه قاض له بإمامته, وحفظه, وفقهه؛ ولكن يترخص في قبول الأحاديث, ولا يشدد.
وقال الحافظ العالم أبو سعيد الإدريسي: أحد الأئمة الذين يقتدي بهم, في علم الحديث, صنف (الجامع), و(التواريخ), و(العلل), تصنيف رجل عالم متقن, وكان يضرب به المثل في الحفظ.
وقال المزي: أبو عيسى الترمذي الضرير الحافظ, صاحب (الجامع ) وغيره من المصنفات, أحد الأئمة الحفاظ المبرزين, ومن نفع الله به المسلمين.
وقال الذهبي في الميزان: الحافظ العلم صاحب (الجامع), ثقة, مجمع عليه, ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم فيه, في الفرائض, من كتاب (الإيصال): إنه مجهول؛ فإنه ما عرفه, ولا دري بوجود (الجامع), ولا (العلل) له.
وقال الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب): ( وأما لأبو محمد بن حزم؛ فإنه نادى على نفسه بعدم الاطلاع؛ فقال في كتاب الفرائض من الإيصال: محمد بن عيسى بن سورة مجهول, ولا يقولن قائل: ( لعله ما عرف الترمذي, ولا اطلع على حفظه, ولا تصانيفه؛ فإن هذا الرجل قد أطلق هذه العبارة في خلق من المشهورين, من الثقات الحفاظ؛ كأبي القاسم البغوي, وإسماعيل بن محمد الصفار, وأبي العباس الأصم, وغيرهم, والعجب أن الحافظ بن الفرضي ذكره في كتابه ( المؤتلف والمختلف ), ونبه على قدره, فكيف فات ابن حزم الوقوف عليه فيه.
قال العلامة أحمد شاكر: وأنا أظن أن هذا تحامل من الحافظ ابن حجر على ابن حزم, ولعله لم يعرف الترمذي, ولا كتابه, بل لعل الحافظ الذهبي أخطأ نظره, حين نقل ما نقل من كتاب (الإيصال), وما أظن ابن حجر رأى كتاب (الإيصال ), ونقل منه, وإنما أرجح أنه نقل من الذهبي, والله أعلم.
وقال أبو الفضل البيلماني: سمعت نصر بن محمد الشيركوهي, يقول: سمعت محمد بن عيسى الترمذي, يقول: قال لي محمد بن إسماعيل – يعني البخاري – ما انتفعت بك, أكثر مما انتفعت بي.
قال العلامة أحمد شاكر: وهذه شهادة عظيمة بن شيخه إمام المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث في عصره.
قال الشيخ نور الدين عتر: ومما أفاد الترمذي, الرسوخ في علم الحديث عنايته بتلقي الأئمة الكبار الذين إليهم المنتهى في حفظ الحديث ودرايته, وأخذه عنهم, فأكمل تحصيله, وتعمقه, وبرز نبوغه؛ فتقدم إلى محراب الإمامة في الحديث, غير منازع, ولا ممانع.
لقي الإمام مسلم بن الحجاج, وأخذ عنه, لكنه لم يخرج عنه إلا حديثا ً واحدا, وهو حديث أبي هريرة ( احصوا هلال شعبان لرمضان ).
ولقي أيضا ً الإمام أبا داود سليمان بن الأشعث السجستاني وروى له في جامعه, وأفاد في علل الحديث, والرجال, وفنون الحديث, من الإمام عبدالله بن عبدالرحمن, وأفاد في علل الحديث, والرجال, وفنون الحديث, من الإمام عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي, وأبي زرعة الرازي, كما ذكر في آخر جامعه, ولكن التأثير الكبير, والإفادة العظيمة, تمت للترمذي على الإمام, أمير المؤمنين في الحديث؛ محمد بن إسماعيل البخاري؛ فقد لازمه الترمذي طويلا, وأخذ عنه العلم الكثير, حتى تخرج علي يديه, واعترف به.
ولم تقتصر إفادته على الحديث, وعلومه, بل إنه أفاد منه فقه الحديث؛ كما قال الذهبي: ( وتفقه في الحديث على يد البخاري ), وحسبك بالبخاري فقيها ً في الحديث, غواصا ً على خفايا فقهه, والاستنباط منه.
فضائل جامعه:
عن أبي علي منصور بن عبدالله الهالدي, قال: قال أبو عيسى: صنفت هذا الكتاب, وعرضته على علماء الحجاز, والعراق, وخرسان, فرضوا به, ومن كان هذا الكتاب – يعني الجامع – في بيته؛ فكأنما في بيته نبي يتكلم.
قال الذهبي: في ( الجامع ) علم نافع, وفوائد غزيرة, ورؤوس المسائل, وهو أحد أصول الإسلام, لولا ما كدره بأحاديث واهية بعضها موضوع, وكثير منها في الفضائل.
قال الحافظ أبو الفضل؛ محمد بن طاهر المقدسي ( المتوفى سنة 701 هـ ), في شروط الأئمة الستة: سمعت الإمام أبا إسماعيل؛ عبدالله بن محمد الأنصاري بهراة, وجرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي, وكتابه, فقال: ( كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم؛ لأن كتابي البخاري ومسلم لا يقف على الفائدة منهما إلا المتجر العالم, وكتاب أبي عيسى قد شرح أحاديثه, وبينها, يصل إلى فائدته كل أحد من الناس.
وقال ابن الأثير:
" كتابه الصحيح أحسن الكتب, وأكثرها فائدة, وأقلها تكرارا ً, وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب, ووجوه الاستدلال, وتبين أنواع الحديث من الصحيح, والحسن, والغريب, وفيه جرح وتعديل, وفي آخره كتاب العلل, قد جمع فيه فوائد حسنة, لا يخفي قدرها على من وقف عليها ".
وقال الشيخ إبراهيم الباجوري, في شرحه على الشمائل:
" وناهيك بجامع الصحيح, الجامع للفوائد الحديثية والفقهية, والمذاهب السلفية, والخلقية, فهو كاف للمجتهد, مغن للمقلد ".
وقال العلامة أحمد شاكر: وللقاضي أبو بكر بن العربي, في أول شرحه على الترمذي, الذي سماه ( عارضة الاحوذي ), فصل نفيس في مدح كتاب الترمذي, ووصفه, لكن طابعيه حرفوه, حتى لا يكاد يفهم, وسأنقله هنا بشيء من الاختصار, والتصرف؛ لنصل المراد منه, قال: " اعلموا – أنار الله أفئدتكم – أن كتاب الجعفي [ يقصد البخاري ], هو الأصل الثاني في هذا الباب, والموطأ هو الأول, واللباب, وعليهما بناء الجميع, كالقشيري, والترمذي, فمن دونهما, وليس فيهم مثل كتاب أبي عيسى حلاوة مقطع, ونفاسة منزع, وعذوبة مشرع, وفيه أربعة عشر علما ً, وذلك أقرب إلى العمل, وأسلم؛ أسند, وصحح, وضعف, وعدد الطرق, وجرح, وعدل, وأسمى, وأكنى, ووصل وقطع, وأوضح المعمول به, والمتروك, وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره, وذكر اختلافهم في تأويلهم و وكل علم من هذه العلوم أصل في بابه, وفرد في نصابه, فالقارئ له لا يزال في رياض مونقة, وعلوم متفقة ومتسقة, وهذا شيء لا يعمه إلا العلم الغزير, والتوفيق الكثير, والفراغ, والتدبير.
شرط الترمذي في جامعه:
لم يصرح أحد من أصحاب الكتب الستة بشرط في كتابه, وقد توجد لبعضهم عبارات, يفهم منها شيء من شروطهم في كتبهم؛ فالأصل في معرفة شرط الكتاب دراسته, ومطالعة أصوله, واستقرائها.
قال الدكتور نور الدين عتر: أما شرط أبي عيسى الترمذي, فقد تحدث الترمذي عن أحاديث في كتابه, بما يستأنس به, لمعرفة شرطه, قال في ( علل الجامع ): "جميع ما في هذا الكتاب من الحديث, فهو معمول به, وقد أخذ به بعض أهل العلم, وما خلا حديثين. .....إلخ ".
فأفاد أنه بنى اختيار حديث الكتاب, على عمل العلماء به في الجملة؛ فكل حديث استدل به مستدل, أو احتج به عالم, فهو من شرطه, وهو شرط فسيح جدا ً, لكن الترمذي لا يزل إلى الواهي أو الموضوع؛ لأن الأئمة لا يحتجون بالواهي ولا بالموضوع, وقد دل الاستقراء على أنه شرطه هو أن يخرج أحاديث الطبقة الرابعة, من الرواة فمن فوقهم, ورجال الطبقة الرابعة قوم لم تكثر ممارستهم لحديث شيوخهم, ولم يسلموا أيضا ً من غائلة الجرح.
قال الحازمي في شروط الأئمة الخمسة:
"ثم اعلم أن لهؤلاء الأئمة مذهبا ً في كيفية استنباط مخارج الحديث, نشير إليها على سبيل الإيجاز؛ وذلك أن مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه, وفيمن روى عنهم, وهم ثقات أيضا ً, وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت, يلزمه إخراجه, وعن بعضهم مدخول, لا يصلح إخراجه إلا في الشواهد, والمتابعات, وهذا باب فيه غموض, وطريقة معرفة الرواة عن راوي الأصل, ومراتب مداركهم, ولنوضح ذلك بمثال؛ وهو أن نعلم مثلا ً أنهم أصحاب الزهري على طبقات خمس, لكل طبقة منها مزية على التي تليها:
الطبقة الأولى: قوم جمعوا بين العدالة التامة, والإتقان, والحفظ, وطول الملازمة لشيخهم الزهري, حتى كان فيهم من يزامله في السفر, ويلازمه في الحضر, وهم الغاية في الصحة, وهم غاية مقصد البخاري.
الطبقة الثانية: شاركت الأولى في العدالة, غير أنها لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة, فلم تمارس حديثه, وكانوا في الإتقان, دون الطبقة الأولى؛ وهم شرط مسلم.
الطبقة الثالثة: جماعة لزموا الزهري؛ مثل أهل الطبقة الأولى, غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح, فهم بين الرد والقبول, وهم شرط أبي داود والنسائي.
الطبقة الرابعة: قوم شاركوا أهل الطبقة الثالثة في الجرح والتعديل, وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري؛ لأنهم لم يصحبوا الزهري كثيرا ً, وهم شرط أبي عيسى, وفي الحقيقة شرط الترمذي, أبلغ من شرط أبي داود؛ لأن الحديث إذا كان ضعيفا ً فإنه يبين ضعفه ونبع عليه, ويصير الحديث عنده, من باب الشواهد والمتابعات, ويكون اعتماده على ما صح عند الجماعة, وعلى الجملة؛ فكتابه مشتمل على هذا الفن؛ فلهذا جعلنا شرطه دون شرط أبي داود.
الطبقة الخامسة: نفر من الضعفاء, والمجهولين, لا يجوز لمكن يخرج الحديث, على الأبواب, أن يخرج حديثهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود, فأما عند الشيخين فلا, انتهى.
رتبة جامع الترمذي:
وبمعرفة شروط الأئمة الثلاثة, نجد الترمذي:
يشترك في شرطه مع الشيخين, فيخرج في كتابه حديث الطبقة الأولى, والثانية, وهما شرط البخاري, ومن شرط مسلم أيضا ً, ومن حديث الطبقة الثالثة التي يخرج مسلم عن بعض رجالها.
ويفترق كتاب الترمذي عن كتابي البخاري, ومسلم؛ حيث ينزل فيكثر من حديث الطبقة الثالثة, ويروي لرجالها على اختلاف أحوالهم, ويروي أيضا ُ حديث الطبقة الرابعة, وينزل عنهما درجة أخرى, إذن, فكتاب الترمذي دون الصحيحين, وفوقه كتاب مسلم, وفوقهما كتاب البخاري.
ولكن هل يأتي كتاب الترمذي عقب الصحيحين في المرتبة, فيكون ثالثهما ؟ أو إن كتاب أبي داود هو الثالث, والترمذي رابعهما ؟
الذي نراه أن كتاب أبي عيسى ثالث الكتب الستة, تالي الصحيحين في الرتبة, من حيث الصحة, وذلك لأن شرطه أقوى من شرط أبي داود, كما نص الإمام الحازمي على ذلك, وفي كلمته التي نقلناها في طبقات الرواة.
وقال الذهبي فيما نقله عنه السيوطي: انحطت رتبة جامع الترمذي عن سنن أبي داود, والنسائي؛ لإخراجه حديث المصلوب, والكلبي, وأمثالهما أ. هـ؛ يعني من الكذابين, أو من اتهم بالكذب.
مؤلفاته:
قال العلامة أحمد شاكر:
وصفه العلماء فيما مضى بأنه (صاحب التصانيف) وسموا كتبا ً من مؤلفاته, ولكنا لم نر منها إلا كتابين (الجامع الصحيح), وكتاب (الشمائل)؛ وهوكتاب نفيس معروف مشهور, ولعل باقي كتبه فقد فيما فقد من نفائس المؤلفات, وكنوز الأئمة العلماء, وفي التهذيب, ولأبي عيسى كتاب (الزهد) مفرد لم يقع لنا, وكتاب (الأسماء والكنى), وهذا بيان مؤلفاته؛ كما ظهر لنا من أقوال اعلماء :
1- الجامع الكبير. 2- الشمائل. 3- العلل.
4- التاريخ 5- الزهد. 6- الأسماء والكنى.
ولعل له كتبا ً أخرى لم يصل إلى خبرها حين أكتب هذا.
وفاته:
قال المزي: قال الحافظ أبو العباس؛ جعفر بن محمد بن المعتز المستغفري: مات أبو عيسى الترمذي الحافظ, بالترمذ ليلة الاثنين لثلاث عشرة ليلة مضت من رجب, سنة تسع وسبعين ومائتين.
----------
المصادر والمراجع:
- سير أعلام النبلاء
- تهذيب الكمال
- طبقات الحفاظ
- تذكرة الحفاظ
- البداية والنهاية
- وفيات الأعيان
- شذرات الذهب
- من أعلام السلف
- مقدمة عارضة الأحوذي
التعليقات