اقتباس
الإمامُ البخاريُّ لم يكن مجردَ صاحبِ حديثٍ فحسب, بل كان من فقهاء الأمَّة المعدودين، وتراجم كتابه الأشهر (الصَّحيح) خيرُ دليل على فقهه, حتى اشتهر من قول العلماء: "فقه البخاريِّ في تراجمه", والبعض ينسبه إلى مدرسة الشَّافعيِّ في الفقه, ولكنَّ الحقَّ الذي لا مراء فيه أنَّه مجتهد مطلق قد استكمل أدواته, واختياراتُه العلمية والفقهية جديرةٌ بأن تكون مذهباً مستقلاً في الفقه, ولكنها أُلحقت بمدرسة فقهاء الأثر وأصحاب الحديث.
التعريف به
كبيرُ الحفَّاظ وإمام الأئمَّة, أمير المؤمنين في الحديث, الحافظ الحفيظ الشَّهير, المميز الناقد البصير, فخر الأمة, الإمام الهمام الذي شهدت بحفظه العلماء الأثبات, واعترف بضبطه المشايخ الثّقات, حجة الإسلام وعلمه المقدم, العالم العامل الكامل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريِّ.
وُلِدَ الإمام البخاريُّ يومَ الجمعة بعدَ الصلاة لثلاث عشرة ليلةٍ خلت من شوال سنة 194هـ بمدينة بخارى, وكان أسمرَ نحيف الجسد ليس بالطويل ولا بالقصير.
بيئته العلمية وأثرها عليه
البخاريُّ كما قال عنه القسطلانيُّ أحدُ شراح صحيحه: "قد ربا في حجر العلم، حتى ربا, وارتضع ثدي الفضل, فكان على هذا اللبا".
فلا شكَّ أنَّ طيب أصل البخاريِّ وبيئته العلميَّة الخالصة كان له أثرٌ كبير وخطير في توجه البخاري في حياته, فأبوه إسماعيل بن إبراهيم كان من الثِّقات، سمع من مالك وحمَّاد بن زيد وابن المبارك, وأمُّه كانت من العابدات الصالحات, صاحبةَ كرامات عظيمة, فقد كفَّ بصرُ البخاريِّ وهو طفل صغير، فقامت تدعو وتُصلِّي وتبكي وتبتهل, حتى رد الله -عزَّ وجلَّ- بصر ولدها، وذلك من كمال حكمته -عزَّ وجلَّ- لما كان ينتظر هذا الصبيَّ من مستقبلٍ مبهر في سماء العلوم والمعارف.
وقد مات أبوه وهو في ريعان شبابه, فنشأ البخاريُّ يتيماً في حجر أمه, وكانت أمه عاقلة صالحة فدفعت به إلى طريق العلم والحديث منذ نعومة أظافره, وقد لاحظت أمُّه أنه يمتلك حافظة فريدة, فدفعت به إلي حِلَق السَّماع وهو في سن السابعة, وقيل وهو في سن العاشرة, فكان يجلسُ إلى المعلم في الكُتَّاب حتى العصر، بعدها ينطلقُ إلي مجلس الإمام الداخليِّ من كبار محدثي بخارى، ليسمع منه الحديث ويكتبه.
ظهرت أولى علامات نبوغه ونجابته المبكرة، وهو في سن الحادية عشرة عندما أصلح رواية حديثٍ لشيخه الدَّاخلي, ورجع الداخليُّ لقوله, ولما بلغ السادسة عشر كان قد حفظ كتبَ ابن المبارك ووكيع.
رحلاته العلمية
الرحلة في اصطلاح المحدِّثين: هي السَّفر الذي يَخرج فيه الطالبُ, لطلب حديث, أو علوِّ إسناد, وكان الصحابةُ هم القدوة في ذلك, فقد سافر جابرُ بن عبد الله -رضى الله عنهما- شهراً لطلب علوِّ إسناد حديث, من عبد الله بن أنيس, وعلى هذا الهدى سار التابعون, قال أبو العالية: "كنَّا نسمع الراوية من البصرة عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما نرضى حتى ركبنا إلي المدينة, فسمعناها من أفواههم", ومن آداب الرحلة أن يبدأ طالبُ العلم بشيوخ بلده فيكتبَ عنهم, حتى يُحكمَ حديثهم, ثم يرحلَ إلى الأمصار, يُشافه الشيوخ.
البخاريُّ شأنه في طلب العلم شأن أهل عصره, فقد خرج لطلب العلم سنه 210هـ أي في السادسة عشرة, عندما خرج إلى الحجِّ مع أمِّه وأخيه, وعاد أخوه بأمِّه إلي بخارى, وبقي هو لطلب العلم, وظلَّ بمكة قرابة العامين؛ ليسمع الحديث من علماء مكة وشيوخها, ثم توجه إلي المدينة سنة 212هـ وسمع من علمائها, ثم توجه إلى البصرة, وقد تكررت رحلته إلي البصرة أربع مرات, وكذلك الكوفة دخلها عدة مرات ثم دخل بغداد ومنها إلى الشام ثم إلى مصر, قال الخطيبُ البغداديُّ: "رحل البخاريُّ إلي محدِّثي الأمصار, وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق كلها، والحجاز والشام ومصر، وورد بغداد دفعاتٍ". حتى وصل عددُ شيوخه الَّذين كتب عنهم زيادةً عن ألف شيخ, قسمهم في كتبه إلى خمس طبقات.
براعته العلميَّة
- تميّز الإمام البخاريُّ بالعديد من المواهب العلمية الفذَّة، التي جعلته أمير المؤمنين في الحديث، وأشهرَ علماء الإسلام فيه بلا منازعة، وصاحبَ الختم في صناعة الحديث كما قال المستشرقون, من أهمِّ هذه المواهب:
قوةُ حفظه
فلقد رزق الله -عزَّ وجلَّ- البخاريَّ حافظةً فريدة من نوعها ندر أن يُوجد مثلها بين البشر، فلقد كان يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة, وذلك وهو في صدر شبابه, فلقد قال عنه أقرانه في السَّماع: "كان البخاريُّ يختلف معنا إلى السماع, وهو غلام لا يكتب, حتى أتى على ذلك أيامٌ, وكنا نقول له فى ذلك, فقال: إنَّكم قد أكثرتم عليَّ, فاعرضوا عليَّ ما كتبتم, فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسةَ عشر ألف حديث, فقرأها كلَّها عن ظهر قلب, حتى جعلنا نُحكم كتبنا من حفظه, ثم قال: أترونَ أنِّي أختلف هدراً, وأضيع أيامي؟".
ومن أوضح الأمثلة على قوة حفظه ما فعله مع خُذّاق المحدِّثين في بغداد، عندما اجتمع عليه عشرةٌ منهم، وقلب كلُّ واحد منهم أسانيد عشرة أحاديث، وأدخلوا المتون والأسانيد في بعضهما البعض, فقام البخاريُّ بإصلاح الأحاديث من حفظه, وردِّ الأسانيد الصحيحة إلى متونها الأصليَّة, والعجبُ لم يكن في أصلاحه للخطأ وردِّه للصواب, ولكن العجب في حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقَوه عليه مرةً واحدة, ثم إصلاحه للخطأ كله جميعاً في مجلس واحد، كأنَّه حاسوب ذو ذاكرة جبارة، وقد تكرر الموقف معه في سمرقند وكانوا هذه المرة أربعمائة محدِّث, وقاموا بإدخال إسناد الشام في إسناد العراق, وإسناد اليمن في إسناد الحجاز, فما تعلَّقوا منه بسقطة.
وكان من قوة حفظه يسمعُ الحديث في البصرة ويكتبه في الشام, ويسمعه في الشام ويكتبه في مصر, وكان يأخذ الكتاب فيطَّلع عليه مرة واحدة فيحفظه عن ظهر قلب، وكان أهل المعرفة في البصرة يَعدون خلفه في طلب الحديث، وهو شابٌّ حتى يغلبوه على نفسه, ويُجلسوه في بعض الطريق, فيجتمعَ عليه ألوف، أكثرُهم ممن يكتب عنه, وكان وقتَها شاباً لم ينبت شعرُ وجهه.
2- براعته في معرفة العلل
العلة اصطلاحاً: هي سببٌ غامضٌ خفيٌّ يقدح في صحة الحديث, مع أنَّ الظاهر السلامة منه, ومعرفة العلل من أشرف وأدقِّ علوم الحديث, ولا يقدر عليها إلا الجهابذة من العلماء, فهذا الإمامُ الكبير عبدُ الرحمن بن مهديّ شيخ الشافعيّ، يقول: "لئن أعرف علَّة حديث, هو عندي أحبُّ إليَّ من أن أكتب عشرين حديث ليس عندي".
وهذا الفنُّ الدقيق من فنون مصطلح الحديث، لم يبرع فيه إلا قلة نادرة من العلماء, رأسُ هؤلاء الجهابذة؛ الإمامُ البخاريُّ الذي لم يُلحق شأوه في هذا المضمار.
قال الإمام الترمذيُّ: "لم أرَ أحداً في العراق ولا بخراسان، في معرفة العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد, أعلم من محمد بن إسماعيل".
وقال أحمد بن حمدون الحافظ: "رأيت البخاريَّ في جنازةٍ، ومحمد بن يحيى الذُّهليُّ, يسأله عن الإسناد والعلل, والبخاريُّ يمرُّ فيه مثل السهم، كأنه يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1]".
وكان الإمام مسلم يقول له: "دعني أُقبِّلْ رجليكَ يا أستاذَ الأستاذين, وسيِّدَ المحدِّثين, وطبيب الحديث في علله".
3- احتياطه في نقد الرجال
- نقد الرجال أو جرح الرُّواة من الأمور الصعبة في علم الحديث, إذ به ينقسم الحديث إلى صحيح وضعيف, وهو يحتاجُ إلى أقصى درجات التَّديُّن والتَّقوى والورع والتَّحرُّز والاحتياط والتَّجرُّد من الهوى, وعلم الجرح والتعديل من أهمِّ علوم الحديث وأكثرها شهرةً وإثارةً للجدل بين العلماء من السَّلف والخلف, والناس في غالب العصورلم يفهموا هذا العلم جيّداً, وعدُّوه من قبيل الاغتياب والخوض في الأعراض, قال ابنُ خلاد للإمام يحيى بن سعيد القطَّان: "أما تخشى أن يكونَ هؤلاء الَّذين تركت حديثَهم خصماءك عند الله يومَ القيامة, فقال: لئن يكونوا خصمائي, أحبُّ إلى من أن يكون خصمي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي: لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذبَ عن حديثي؟!".
- ولقد اتَّبع البخاريُّ منهجاً راقياً فريداً في نقد الرجال، دلَّ على منزلته العليا في الديانة والإخلاص والورع, فلقد كان ينتقي ألفاظ نقده بأدقِّ الكلمات التى تُحقق المراد، ولا تقدحُ في الهيئات, مثلُ أن يقولَ فيمن ترك الراويةَ عنه كلماتٍ من عينة: أنكره الناس, المتروك, السَّاقط, فيه نظرٌ, سكتوا عنه, تركوه، وهكذا. .. ومن النادر جداً أن يثبت عن البخاريِّ أنه قال عن رجلٍ بأنَّه وضَّاع, أو كذَّاب, ومن أشدِّ كلمات الجرح عند البخاريِّ أن يقول: مُنكر الحديث.
وقد قال له محمد بن أبي حاتم الورَّاق: "إنَّ بعض الناس يَنقمون عليك في كتاب (التاريخ) ويقولون: فيه اغتيابُ الناس", فقال: "إنَّما روينا ذلك روايةً لم نقُله من أنفسنا, ولا يكون لي خصمٌ في الآخرة, فما اغتبتُ أحداً منذ علمي أنَّ الغيبة تضرُّ أهلها".
4- فقهه
- الإمام البخاريُّ لم يكن مجرَّد صاحبِ حديثٍ فحسب, بل كان من فقهاء الأمة المعدودين، وتراجمُ كتابه الأشهر (الصحيح) خيرُ دليلٍ على فقهه, حتى اشتهر من قول العلماء: فقه البخاريِّ في تراجمه, والبعضُ ينسبه إلى مدرسة الشَّافعيِّ في الفقه, ولكن الحقَّ الذي لا مِراء فيه أنَّه مجتهدٌ مطلَق قد استكمل أدواته, واختياراتُهُ العلميَّة والفقهيَّة جديرة بأن تكون مذهباً مستقلاً في الفقه, ولكنها أُلحقت بمدرسة فقهاء الأثر وأصحاب الحديث.
- وقد بلغت براعةُ البخاريِّ الفقهية مبلغاً كبيراً، بحيث إنَّه قُرن بالأئمة الكبار مثل مالك وأحمد والشَّافعيِّ وإسحاق, قال بندارُ: "هو أفقهُ خلقِ الله في زماننا", وقد سُئل قتيبة عن طلاق السَّكران, فدخل محمد بن إسماعيل، فقال قُتيبة للسائل: "هذا أحمدُ بن حنبل, وإسحاق بن راهويه, وعليُّ بن المديني, قد ساقهمُ الله إليك", وأشار إلى البخاريِّ, وقال أبو مصعب الزُّهريِّ: "محمد بن إسماعيل أفقهُ عندَنا وأبصرُ, من أحمد بن حنبل", فقيل له: جاوزت الحدَّ, فقال: "لو أدركتَ مالكاً ونظرتَ إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل, لقلت: كلاهما واحدٌ في الفقه والحديث".
وكان أهلُ المعرفة في خراسان ونيسابور يعُدُّون محمد بن إسماعيل أفقه من إسحاق بن راهويه.
أخلاقه وعبادته
من الأمور الثَّابتة في سجل علماء الأمة الربَّانيِّين, أن لن تجد أحداً منهم مسرفاً على نفسه, أو مفرطاً في حق ربِّه, أو سيئ الأخلاق مع الناس, فعلماءُ الأمة الكبار وأئمَّتها الأعلام قد كمُل حالهم علماً وعملاً وخلقاً وديانة, والبخاريُّ على نفس الدرب يسير, فلقد كان زاهداً عابداً كريماً سمحاً متواضعاً شديد الورع.
قال ابنُ مجاهد: "ما رأيتُ بعينيَّ منذ ستين سنةً أفقهَ, ولا أورعَ ولا أزهدَ في الدنيا من محمد بن إسماعيل", فقد كان البخاريُّ يأتي عليه النهار, فلا يأكل فيه شيئاً سوى لوزتين أو ثلاثة, كان ذات مرةٍ بالبصرة فنفدت أمواله، فمكث في بيته عدة أيام لم يخرج، لأنه لم يجد ما يسترُ به بدنه, ورغم زهده ورقَّة حاله، إلا أنه كان جواداً سمحاً كثير الصَّدقة, واسعَ الصَّدر, عظيم الاحتمال, سهل الجناب, يُقابل الإساءة بالإحسان, يترك كثيراً من الحلال خشية الشُّبهة والوقوع في الحرام, والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، ومنها:
أنَّه كان في بيته ذاتَ مرَّة, فجاءت جاريتُه، وأرادت دخولَ المنزل, فعثرت على محبرة بين يديه, فقال لها كيف تمشين؟ قالت: إذا لم يكن طريق, كيف أمشي؟ فبسط يديه, وقال: اذهبي, فقد أعتقتك, فقيل له: يا أبا عبد الله, أغضبتك الجارية؟ فقال: إن كانت أغضبتني, فقد أرضيتُ نفسي بما فعلت.
قال البخاريُّ يوماً لأبي معشر الضَّرير: اجعلني في حِلٍّ يا أبا معشر, فقال: من أيِّ شيءٍ؟ فقال: رويتُ حديثاً, فنظرتُ إليك وقد أعجبتَ به وأنت تُحرِّك رأسك ويديك، فتبسَّمتُ من ذلك, قال: أنتَ في حِلٍّ, يرحمُك اللهُ يا أبا عبد الله.
قام يُصلِّي يوماً فلدغه زنبور سبعةَ عشر مرة, فلم يَقطع صلاته ولمَّا عوتب في ذلك، قال: كنت في سورةٍ, فأحببتُ أن أُتِمَّها, وكان يُصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة, أما في رمضان فكان له نهجُه التعبديُّ الخاص به, فقد كان يجتمع إليه أصحابه, فيُصلي بهم, ويقرأُ في كل ركعة عشرين آية, وكذلك إلى أن يختم القرآن, وكان يقرأ في السَّحر, ما بين النِّصف إلى الثُّلث من القرآن, فيختم عند السَّحر, في كلِّ ثلاث ليال, وكذلك يختمُ بالنَّهار في كل يومٍ ختمة, ويكون ختمُه عند الإفطار كلَّ ليلة، ويقول: عند كلِّ ختمةٍ دعوةٌ مستجابة.
كان البخاريُّ رغم مكانته العلمية السامقة، وانشغاله الدائم بالدرس والعلم والرحلة، إلا أنه كان يشترك في أمور المسلمين العامَّة وشئونهم الهامَّة, فلقد كان يُرابط بالثُّغور وينتظم في حلقات الرِّماية, ويحملُ فوق رأسه الآجُرَّ في بناء الربط.
ثناء العلماء عليه
وكما رزق اللهُ -عزَّ وجلَّ- الإمام البخاريَّ فتوحاً ربَّانيَّة في العلم والحفظ والفهم والفقه والزُّهد والورع والعبادة, فقد رزقه محبَّةً وقَبولاً كبيرين في قلوب العباد, فكان البخاريُّ كلَّما حلَّ ببلد أو مدينة, ازدحم عليه النَّاسُ بصورةٍ تفوق الوصفَ والبيان, وكان يخرجُ إليه عامَّة أهل البلاد, ويَنثرون عليه الورد والدراهم, ولما رجع البخاريُّ إلي بلدته بعد رحلته الدِّراسيَّة, نُصبت له القباب على فرسخ من البلد, وخرجُ إليه أهل البلد جميعاً.
وهذه طائفةٌ من ثناء العلماء على مرِّ العصور على الإمام البخاريِّ:
قال قتيبةُ بن سعيد: "جالست الفقهاء, والزُّهَّاد, والعُبَّاد, فما رأيتُ منذ عقلتُ مثل محمد بن إسماعيل, وهو في زمانه؛ كعمر في الصَّّحابة".
قال أبو حاتم الرازيُّ: "لم تُخرج خراسانُ قط, أحفظَ من محمد بن إسماعيل, ولا قَدِم منها إلى العراقِ أعلمُ منه".
قال الإمام الدَّارميُّ: "قد رأيتُ العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق, فما رأيتُ فيهم أجمعَ من محمد بن إسماعيل, فهو أعلمُنا وأفقُهنا وأكثرنا طلباً".
قال ابنُ خزيمة: "ما تحتَ أديم السَّماء أعلمُ بالحديث من محمد بن إسماعيل".
قال أبو عمر الخفاف: "هو أعلمُ بالحديث من أحمد وإسحاق وغيرهما بعشرين درجة, ومن قال فيه شيئاً فعليه منِّي ألفُ لعنة, فإنَّك لو دخلتَ عليه وهو يُحدِّث لملئت منه رعباً، فمحمدٌ هو التَّقيُّ النَّقيُّ".
قال أبو سهل الشّافعي: "دخلتُ البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها, كلَّما جرى ذكرُ محمد بن إسماعيل فضَّلوه على أنفسهم, وقد سمعتُ أكثر من ثلاثين عالماً من علماء مصر يقولون: حاجتُنا من الدُّنيا النظر في تاريخ محمد بن إسماعيل".
قال الإمام مسلم للبخاريِّ يوماً: "دعني أُقبِّل رِجليك يا أستاذَ الأستاذين, وسيدَ المحدِّثين, وطبيبَ الحديث في علله".
قال سليم بن مجاهد: "لو أنَّ وكيعاً وابن عيينة وابن المبارك كانوا في الأحياء، لاحتاجوا إلى محمد بن إسماعيل".
قال الإمامُ التِّرمذيُّ: "لم أرَ بالعراق ولا بخراسانَ في معنى العِلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد، أعلمَ من محمد بن إسماعيل".
قال عبدُ الله بن حماد: "وَدِدْتُ أنِّي شعرةٌ في صدر محمد بن إسماعيل".
قال الحافظُ ابن حجر: "ولو فتحتُ باب ثناء الأئمة, ممَّن تأخر عن عصره, لفني القرطاس, ونفدت الأنفاس, فذاك بحرٌ لا ساحل له".
قال العلامة العينيُّ الحنفيُّ: "الحافظ الحفيظُ الشهير, المميز الناقد, البصير, الذي شهدَتْ بحفظه العلماءُ الثقات, واعترف بضبطه المشايخ الأثبات, ولم يُنكر فضله علماء هذا الشأن, ولا تنازَع في صحة تنقيده اثنان, الإمام الهمام, حجةُ الإسلام, أبو عبد الله؛ محمد بن إسماعيل البخاريُّ".
قال الشيخُ نور الحق الدهلويُّ: "ما كان له مثيلٌ في عصره في حفظ الأحاديث، وإتقانها، وفهم معاني الكتاب والسنة, وحِدَّة الذِّهن, وجودة القريحة, ووفور العفَّة, وكمال الزُّهد, وغاية الروع, وكثرة الاطِّلاع على طرق الحديث وعللها, ودقَّة النَّظر, ورقَّة الاجتهاد, واستنباط الفروع من الأصول".
قال النوويُّ في خاتمة ترجمة البخاريِّ: "فهذه أحرفٌ من عيون مناقبه وصفاته, ودرر شمائله وحالاته, أشرتُ إليها إشارات, لكونها من المعروفات الواضحات, ومناقبُه لا تُستقصى؛ لخروجها على أن تُحصى, وهي منقسمةٌ إلى حفظ ودراية, واجتهادٍ في التَّحصيل ورواية, ونُسك وإفادة, وورع وزِهادة, وتحقيقٍ وإتقانٍ وتمكُّن وعرفان, وأحوال وكرامات وغيرها من أنواع الكرامات".
قال ابنُ كثير: "البخاريُّ الحافظ, إمامُ أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه, والمقدم على سائر أترابه وأقرانه, وكتابه الصَّحيح يُستقى بقراءته الغمام –وهو أمرٌ محدث في القرون المتأخرة– وأجمع العلماء على قبوله, وصحة ما فيه, وكذلك سائر أهل الإسلام, ولو استقصينا ثناءَ العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته, لطال علينا؛ فقد كان في غاية الحياء والشَّجاعة والسَّخاء والورع والزُّهد في الدُّنيا, دار الفناء, والرَّغبة في الآخرة دار البقاء".
قال القسطلانيُّ: "هو الإمام, حافظ الإسلام, خاتمة الجهابذة, النقاد والأعلام, شيخ الحديث, وطبيب علله في القديم والحديث, وإمام الأمة عجماً وعرباً, ذو الفضائل التي سارت السّراة بها شرقاً وغرباً, الحافظ الذي لا تغيب عنه شاردة, والضابط الذي استوى لديه الطارفة والتالدة".
وخلاصة هذه الأقوال ما قال الشيخُ عبد السلام المباركفوريُّ: "إنَّ الاستدلال على تبحُّر إمام المحدثين في العلم وذكائه وقوة اجتهاده وسيلان ذهنه, بأقوال المتأخِّرين, كرفع السِّراج أمام الشمس".
البخاريُّ وكتابه الجامع الصَّحيح
للبخاريّ مؤلفاتٌ كثيرة في الحديث والتاريخ والفقه والعقيدة، وغيرها من فروع العلم، غير أنَّ أشهر كتبه على الإطلاق، بل أشهرُ ما ألفه عالمٌ مسلم، وأصحُّ كتاب على وجه الأرض، بعد القرآن الكريم، هو صحيحُ البخاريِّ الذي أصبح رمزاً للصحة وعنواناً للكمال والدِّقَّة بين المسلمين أجمعين على مرِّ العصور.
ذكر الحافظُ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري أسباباً ثلاثة، دعت الإمامَ البخاريَّ رحمه الله إلى تأليف كتابه الجامع الصَّحيح:
أحدها: أنه وجد الكتب التي أُلِّفت قبله بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التَّصحيح والتَّحسين، والكثير منها يشمله التَّضعيف فلا يقال لغثِّه سمين, قال: فحرك همته لجمع الحديث الصحيح، الذي لا يرتاب في صحته أمين.
الثاني: قال: وقوّى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أميرِ المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ، المعروف بابن راهوية، وساق بسنده إليه أنه قال: "كنَّا عند إسحاق بن راهوية، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الصَّحيح".
الثالث: قال: ورَوينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس، قال سمعت البخاريَّ يقول: رأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وكأنِّي واقف بين يديه، وبيدي مروحةٌ أذُبُّ بها عنه, فسألتُ بعض المعبِّرين، فقال لي: "أنتَ تَذُبُّ عنه الكذبَ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصَّحيح".
ولم يألُ البخاريَّ -رحمه الله- جهداً في العناية بهذا المؤلف العظيم. يتَّضح مدى هذه العناية مما نقله العلماء عنه فنقل الفربري عنه أنه قال: "ما وضعتُ في كتابي الصَّحيح حديثاً إلا اغتسلتُ قبل ذلك وصليتُ ركعتين"، ونقل عمر بن محمد البحيريُّ عنه أنه قال: "ما أدخلتُ فيه -يعني الجامع الصحيح- حديثاً إلا بعد ما استخرتُ الله تعالى وصليتُ ركعتين وتيقَّنت صحته". ونقل عنه عبدُ الرحمن بن رساين البخاريّ، أنه قال: "صنَّفت كتابي الصَّحيح لست عشرة سنة، خرَّجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى".
الإمام البخاريُّ (2/2) محنة البخاريِّ ووفاته
التعليقات