اقتباس
على الرغم من انتماء ابن أبي العز للمذهب الحنفي الذي يميل معظم أتباعه إلى مدرسة أبي منصور الماتريدي في العقيدة، والتقليد التام للإمام أبي حنيفة -رحمه الله- إلا إن ابن أبي العز
من أكثر الشخصيات العلمية إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي؛ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذاك العالم الموسوعي الكبير الذي ترك أثراً بالغاً في الحياة العلمية والسياسية بآرائه وفتاويه ومواقفه العلمية والعملية في القرن الثامن الهجري، وجهاده في شتى الميادين، وجهوده التربوية والسلوكية والأخلاقية والاجتماعية والتي تبلورت في شكل مدرسة متميزة وخاصة جداً في التراث الإسلامي عُرفت باسم مدرسة "ابن تيمية"، والتي صار لها أتباع وتلاميذ وأنصار في شتى بقاع العالم، تخرجوا على تقريراته العلمية وتحقيقاته التراثية واختياراته العقدية ومنهجه التربوي والسلوكي في إصلاح المجتمع والحفاظ على هويته وانسجامه، وكانوا في المحصلة النهائية ترجمة حية لفكر ابن تيمية وعلومه أبقت مدرسته ومنهجه حياً حاضراً متفاعلاً مع وسطه وبيئته ومؤثراً فيها حتى اليوم.
وكما كانت حياة شيخ الإسلام ابن تيمية عبارة عن سلسلة متتالية من المحن والابتلاءات؛ لأنه جعل من دعوته شعاراً جامعاً ودواءً شافياً لعلل الأمة بالعودة إلى ما كان عليه سلف الأمة من عقائد ونظم وسلوكيات ومجتمعات، وهذا بطبيعة الحال قاد ابن تيمية لصراع مرير مع سدنة التقليد والجمود وحرّاس الخرافة وأرباب الكلام والنظر والفلسفة، فإن تلاميذه من بعده ومن تأثر بمنهجه وسار على دربه العلمي والعملي تعرض لنفس ما تعرض له الشيخ من محن وابتلاءات ومواجهات قوية وعنيفة وصلت لحد التنكيل والعزل من الوظائف والمنع من التدريس انتهاءً بالحبس والاعتقال حتى الموت.
وهذه قصة واحد من أهم تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ممن كان له الفضل -بإذن الله- في الحفاظ على تراث الشيخ ونشره بين الناس على الرغم من كل التضييق والحصار المفروض على مؤلفات الشيخ وإنتاجه العلمي. قال الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله-: "لما حُبس (ابن تيمية) تفرّق أتباعه، وتفرّقت كتبه، وخوّفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه، وذهب كل أحد بما عنده وأخفاه، ولم يظهروا كتبه، فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه، أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتى إن منهم من تُسرق كتبه، فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها".
هذه قصة الإمام ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية الشهيرة ونشأته العلمية وحياته ومنهجه ومؤلفاته ومحنته التي جاءت استمراراً لحالة الاضطهاد التي مارسها أصحاب الطرق الصوفية والفرق الكلامية ضد أتباع المنهج السلفي عبر العصور إلى وقتنا الحاضر.
مولده والتعريف به
هو الإمام الكبير صدر الإسلام أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن شمس الدين أبي عبد الله محمد بن شرف الدين أبي البركات محمد بن عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء الأذرعي أصلاً الدمشقي موطناً المعروف بن أبي العز؛ الحنفي مذهباً، السلفي الأثري عقيدة وعملاً.
ولد في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة من الهجرة بدمشق العامرة فترة حكم المماليك البحرية، وبعد ثلاثة سنوات فقط من وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
وُلد في أسرة علمية عريقة في العلم والتدريس والافتاء والقضاء، أسرة تولت زعامة المذهب الحنفي وصار أبناؤها مشايخ المذهب وأئمته، فأبوه وجده وأبو جده كلهم تولوا منصب القضاء والإمامة والخطابة والحكم والنيابة عن الولاة، وعلى رجال هذه الأسرة العلمية دارت الفتوى وأُسندت خلاصة المذهب الحنفي.
لذلك كان من الطبيعي أن يكون الإمام ابن أبي العز الحنفي على درب أسلافه ونهج أسرته في طلب العلم والبراعة فيه، ناهيك عما أودعه الله -تعالى- فيه من استعداد فطري لافت للغوص في بحر العلم، وذكاء متوقد وحافظة قوية، ملكات التميز من حسن التصور والبناء والاستنباط، حتى ملك الآلة وبرع فيها، فجلس للإفتاء والتدريس، وقعد للتأليف والتصنيف، وتبوء المناصب من القضاء والنيابة، وقد أقر له علماء المذهب الحنفي بالرئاسة وزعامة المذهب حتى صار مفزعهم عند ملمات الفتوى وجسام النوازل، فلا يخرجون عن رأيه.
تأثره بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية
على الرغم من انتماء ابن أبي العز للمذهب الحنفي الذي يميل معظم أتباعه إلى مدرسة أبي منصور الماتريدي في العقيدة، والتقليد التام للإمام أبي حنيفة -رحمه الله- إلا إن ابن أبي العز كان سلفي المعتقد على نهج القرون الفاضلة ومتأثراً بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية التي غيرت شكل الحياة العلمية في بلاد الإسلام بعد سنوات طويلة من هيمنة المدراس الكلامية والطرق الصوفية على الساحة العلمية ومنابرها ومدراسها.
وكان السبب في تأثر ابن أبي العز الحنفي بالاتجاه التيمي هو تتلمذه على يد الحافظ الكبير عماد الدين ابن كثير الدمشقي الشافعي صاحب البداية والنهاية والتفسير الشهير، وكان من خواص شيخ الإسلام ابن تيمية وممن امتحن بسببه وأوذي معه.
فقد غرس ابن كثير -رحمه الله- في عقل تلميذه ابن أبي العز مبدأ الاتباع والتخلص من ربقة التقليد المذموم، وهو ما ظهر جلياً بعد ذلك في مصنفات ومؤلفات ابن أبي العز، مما جلب عليه عداوة سدنة التقليد وشيوخ المذاهب، على الرغم من كونه رأس الحنفية في زمانه.
أهم مؤلفاته
1- شرح العقيدة الطحاوية، وهو أهم ما كتب، وبه طارت شهرة ابن أبي العز ونال القسط الأوفر من القبول والاشتهار عبر العصور إلى وقتنا الحاضر، وأيضا هو الكتاب الذي بث فيه تراث شيخ الإسلام ابن تيمية ووضعه في ثنايا شرحه على عقيدة الطحاوي، وهو أيضا الكتاب الذي جلب عليه التشنيع من مبتدعة الفرق الكلامية فاتهموه التجسيم والحشو والتشبيه إلى آخر لائحة الاتهامات التي وُجهت من قبل لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
2- الـتـنـبـيـه على مـشـكـلات الـهـدايـة، وهو الكتاب الذي اعتبره سدنة التقليد جرحاً وليس شرحاً لكتاب الهداية للإمام المرغيناني وهو من أمهات كتب المذهب، وقد بان في هذا الكتاب نفس ابن أبي العز الفقهي واستقلاله بنصرة الدليل قبل أقوال المذهب.
3- رسالة تتضمن الإجابة على مسائل فقهية منها: صحة الاقتداء بالمخالف، حكم الأربع بعد أداء الجمعة.
4- النور اللامع فيما يعمل به في الجامع -يقصد الأموي- من بدع ومخالفات.
5- الاتـبـاع، وهو من كتبه الهامة التي أظهرت اتجاهه السلفي في الاستدلال، وهو رد على الرسالة التي ألفها معاصره أكمل الدين محمد بن محمود بن أحمد البابرتي الحنفي المتوفى سنة 786 هـ، وكان رأس الحنفية في زمانه وذو حظوة كبيرة جداً عند سلطان الوقت؛ الظاهر برقوق، ورجح فيها وجوب تقليد مذهب أبي حنيفة، وحض على ذلك، وقد وجد فيها ابن أبي العز مواضع مشكلة، فأحب أن ينبه عليها خوفا من التفرق المنهي عنه، واتباع الهوى الردي، وقد كان موفقا كل التوفيق في هذا الرد.
وقد قال في مقدمة رسالته: "أما بعد: فإني وقفت على رسالة لبعض الحنفية رجح فيها تقليد مذهب أبي حنيفة وحض على ذلك ووجدت فيها مواضع مشكلة فأحببت أن أُنَبِّه عليها خوفا من التفريق المنهي عنه واتباع الهوى المردي امتثالا لقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103]، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)[الأنعام:159]، وقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[الشُّورَى: 13]، وقوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)[المؤمنون:52-53] زُبُراً : أي كتبا . وقوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)[الشُّورى:14]، وقوله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[ص: 26]، ولقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: "فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وأمثال ذلك في الكتاب والسنة كثيرة في النهي عن التفرق واتباع الهوى".
ويتضح من هذه المقدمة سلفية ابن أبي العز واستقلاله الفقهي وميله لتقديم الدليل على أقوال المذاهب، وهو ما أوقعه في محنته الشهيرة التالي ذكرها.
بداية المحنة
قبل أن نشرع في الحديث عن محنة الإمام ابن أبي العز الحنفي يجب أن نعرف أنها لم تكن أول ولا آخر محنة تعرض لها أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ممن انتهج منهج السلف الصالح في العقائد والفقه من أنصار الاستقلال الفقهي وفقه الدليل. فهذه المحنة كانت فصلاً من فصول كثيرة ممتدة إلى وقتنا الحاضر، ومناكفات خرجت إلى طور استباحة الأذى والقتل والسجن من جانب الصوفية والأشعرية -ألد خصوم مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية- بحق تلاميذه والمتأثرين بمنهجه من أتباع هذه المدرسة؛ فالمحنة لم تكن خلافاً علمياً عقائدياً كان أم فقهياً، بل كانت تصفية حسابات ومحض انتقام ورغبة عارمة في الوأد والقضاء على هذا المنهج النقي.
والسرد التاريخي لرواية فصول المحنة يكشف لنا عن حقيقة أبعادها ودلالاتها.
قال الحافظ ابن حجر في حوادث سنة (784هـ) في كتابه (إنباء الغمر): "وفيها كائنة الشيخ صدر الدين على ابن العز الحنفي بدمشق، وأولها أن الأديب علي بن أيبك الصفدي عمل قصيدة لامية على وزن بانت سعاد وعرضها على الأدباء والعلماء فقرظوها ومنهم صدر الدين علي بن علاء الدين بن العز الحنفي، ثم انتقد فيها أشياء فوقف عليها علي ابن أيبك المذكور فساءه ذلك ودار بالورقة على بعض العلماء فأنكر غالب من وقف عليها ذلك وشاع الأمر فالتمس ابن أيبك من ابن العز أن يعطيه شيئا ويعيد إليه الورقة فامتنع، فدار على المخالفين وألبهم عليه، وشاع الأمر إلى أن انتهى إلى مصر، فقام فيه بعض المتعصبين إلى أن انتهت القضية للسلطان فكتب مرسوماً طويلاً، منه: بلغنا أن علي بن أيبك مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصيدة وأن علي بن العز اعترض عليه وأنكر أموراً منها التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والقدح في عصمته وغير ذلك وأن العلماء بالديار المصرية خصوصاً أهل مذهبه من الحنفية أنكروا ذلك، فتقدم بطلبه وطلب القضاة والعلماء من أهل المذاهب ونعمل معه ما يقتضيه الشرع من تعزير وغيره.
وفي المرسوم أيضاً: بلغنا أن جماعة بدمشق ينتحلون مذهب ابن حزم وداود ويدعون إليه، منهم القرشي وابن الجائي والحسباني والياسوفي، فتقدم بطلبهم فإن ثبت عليهم منه شيء عمل بمقتضاه من ضرب ونفي وقطع معلوم، ويقرر في وظائفهم غيرهم من أهل السنة والجماعة.
وفيه: وبلغنا أن جماعة من الشافعية والحنابلة والمالكية يظهرون البدع ومذهب ابن تيمية فذكر نحو ما تقدم في الظاهرية، فطلب النائب القضاة وغيرهم فحضر أول مرة القضاة ونوابهم وبعض المفتين فقرأ عليه المرسوم، وأحضر خط ابن العز فوجد فيه قوله: حسبي الله، هذا لا يقال إلا لله، وقوله: اشفع لي، قال: لا يطلب منه الشفاعة، ومنها: توسلت بك، قال: لا يتوسل به، وقوله: المعصوم من الزلل، قال: إلا من زلة العتاب، وقوله: يا خير خلق الله، الراجح تفضيل الملائكة، إلى غير ذلك، فسئل فاعترف، ثم قال: رجعت عن ذلك وأنا الآن أعتقد غير ما قلت أولاً، فكُتب ما قال وانفصل المجلس، ثم طلب بقية العلماء فحضروا المجلس الثاني وحضر القضاة أيضاً، وممن حضر: القاضي شمس الدين الصرخدي، والقاضي شرف الدين الشريشي، والقاضي شهاب الدين الزهري، وجمع كثير، فأعيد الكلام فقال بعضهم: يعزر، وقال بعضهم: ما وقع معه من الكلام أولاً كاف في تعزير مثله، وقال القاضي الحنبلي: هذا كاف عندي في تعزير مثله، وانفصلوا ثم طلبوا ثالثاً وطلب من تأخر وكتب أسماؤهم في ورقة، فحضر القاضي الشافعي، وحضر ممن لم يحضر أولاً: أمين الدين الأتقى، وبرهان الدين ابن الصنهاجي، وشمس الدين ابن عبيد الحنبلي وجماعة، ودار الكلام أيضاً بينهم، ثم انفصلوا ثم طلبوا، وشدد الأمر على من تأخر فحضروا أيضاً، وممن حضر: سعد الدين النووي، وجمال الدين الكردي، وشرف الدين الغزي، وزين الدين ابن رجب، وتقي الدين ابن مفلح، وأخوه، وشهاب الدين ابن حجي، فتواردوا على الإنكار على ابن العز في أكثر ما قاله ثم سئلوا عن قضية الذين نسبوا إلى الظاهر وإلى ابن تيمية فأجابوا كلهم أنهم لا يعلمون في المسمين من جهة الاعتقاد إلا خيراً، وتوقف ابن مفلح في بعضهم، ثم حضروا خامس مرة واتفق رأيهم على أنه لا بد من تعزير ابن العز إلا الحنبلي، فسئل ابن العز عما أراد بما كتب؟ فقال: ما أردت إلا تعظيم جناب النبي -صلى الله عليه وسلم- وامتثال أمره أن لا يعطى فوق حقه، فأفتى القاضي شهاب الدين الزهري بأن ذلك كاف في قبول قوله وإن أساء في التعبير، وكتب خطه بذلك، وأفتى ابن الشريشي وغيره بتعزيره، فحكم القاضي الشافعي بحبسه فحبس بالعذراوية، ثم نقل إلى القلعة، ثم حكم برفع ما سوى الحبس من التعزيرات، ونفذه بقية القضاة، ثم كتبت نسخة بصورة ما وقع وأخذ فيها خطوط القضاة والعلماء وأرسلت مع البريد إلى مصر، فجاء المرسوم في ذي الحجة بإخراج وظائف ابن العز، فأخذ تدريس العزية البرانية شرف الدين الهروي، والجوهرية على القليب الأكبر: واستمر ابن العز في الاعتقال إلى شهر ربيع الأول من السنة المقبلة. وأحدث من يومئذ عقب صلاة الصبح التوسل بجاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أمر القاضي الشافعي بذلك المؤذنين ففعلوه".
ومن خلال هذا النص التاريخي لمحنة الإمام ابن أبي العز يتضح لنا عدة أمور:
1- أن المحنة بدأت بتأليب وتحريض أديب لم يقبل أن ينتقد أحد قصيدته على الرغم من أنه نفسه قد طلب من الإمام تقييمها وإبداء الرأي فيها، فكتب فيها ابن أبي العز كتابة حسنة من ناحية البلاغة والأدب والشعر وهو ما كان يفترض أن يُفرح الشاعر، ولكنه لما وجد انتقادات أخرى من ناحية العقيدة لم يعجبه الأمر، وشعر أن هذه الانتقادات سوف تتسبب في بوار قصيدته وكسادها في سوق الشعر، فدار بها على المخالفين لابن أبي العز من الصوفية والأشاعرة، ثم حاول مساومة الإمام وطلب منه مالاً نظير أن يعيد له الورقة التي كتب فيها الاعتراضات العقدية على القصيدة وهو ما رفضه الإمام بشدة، مما جعل الشاعر يعمل على تأليب الناس على الإمام وإشاعة الخبر في كل مكان حتى أدى لاستفحال الأمر ووصوله من دمشق إلى القاهرة!!
فالمحنة بدأت لغرض دنيوي ونفسي محض، بدأت برفض النقد ثم محاولة المتاجرة واستغلالها في تحقيق منافع دنيوية محضة.
2- أن المحنة لم تكن قاصرة على ابن أبي العز الحنفي وحده، بل كانت محاكمة تفتيش لاتجاه ومنهج بأكمله، وهذا ظاهر من استدعاء آخرين للتحقيق معهم في القضية لا علاقة لهم بها سوى أنهم من تلاميذ وأتباع مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية!! من شتى المذاهب الفقهية ما ذكر ابن حجر في تاريخه. ولبيان الإصرار على المحاكمة تم عقد خمس مجالس متتالية استدعي فيها كل من حامت عليه شبهة الانتماء لابن تيمية ولو من بعيد، وتم تهديد الجميع بالعزل من الوظائف وقطع الأرزاق والحبس وربما القتل باسم التعزيز، حتى أنهم قد أجبروهم على كتابة خطوط بأسمائهم وبانتمائهم للعقيدة الأشعرية!.
3- أن العلماء والقضاة من المذهب الشافعي كانت لهم صولة وحظوة عند سلاطين المماليك، وجلّ الشافعية في ذلك الوقت كانوا أشاعرة يكرهون مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية ويسعون للقضاء عليهم قضاءً مبرماً، وقد ظهر ذلك من قيام اثنين من أكبر علماء الشافعية في هذا الوقت وهما سراج الدين البلقيني الملقب بشيخ الإسلام، والحافظ العراقي، وكلاهما من كبار علماء الإسلام ولهما جهود وسعي محمود في العلم والتصنيف، ومع ذلك سعى كلاهما في استغلال المحنة للنيل من أنصار العقيدة السلفية والقضاء تماماً على الاتجاه التيمي في العلم والفهم، حتى أن سراج الدين البلقيني قد أطلق عبارات الكفر واللعن بحق ابن أبي العز في هذه المحنة في رد طويل كتبه وانتشر هذا الرد في كل مكان.
4- على فرض خطأ ابن أبي العز في بعض مآخذه على القصيدة، فإن اعتراضاته كانت علمية محضة وليس فيها بمبتدع، بل سبقه علماء تكلموا في ذات المسائل واعترضوا عليها، وما تعرضوا لمثل ما تعرض له ابن أبي العز من التنكيل والعزل والحبس، مما يبين وجود نية مبيتة للثأر وتصفية الحسابات مع ابن أبي العز، وهو ما توضحه عبارات بعض المؤرخين كتغري بردي الذي وصف بعض من تحزب ضد ابن أبي العز بأن له غرض في التنكيل به وعزله من وظائفه ليثبوا عليه، وعلى الرغم من تراجع ابن أبي العز عن انتقاداته للقصيدة واعترافه -مضطراً ومكرهاً- أمام المجلس بهذا الخطأ، إلا إنهم اصروا على التنكيل به وعزله من وظائفه وتجريده من مناصبه وحبسه مع المجرمين في المطبق، بل وصل الأمر لئن يقوم أحد خصومه بتأليب أهل زوجته عليه حتى ألزموه طلاقها، ثم تزوجها هذا الخصم العدو بعد ذلك مما أصاب الإمام بحزن وغم كبير وأثر على نفسيته بشدة، مما يؤكد على أنها لم تكن محاكمة علمية فقط، بل ثأر وانتقام وتنكيل لا مبرر له.
5- ما قام به القاضي الشافعي في مصر بعد انتهاء هذه المحنة يؤكد على طبيعتها وغرضها الأصلي؛ فقط النكاية والسعاية في وأد الفكر السلفي واقتلاعه من بلاد الإسلام ولو بنشر البدع المنكرة. حيث أمر المؤذنين في صلاة الفجر بالتوسل بجاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عقب الآذان في بدعة شنيعة في دلالة على انتصار التيار الصوفي الأشعري في هذه المحنة، وهي البدعة التي اقتلعت بفضل الله -عز وجل- من بلاد الإسلام فلم يعد لها ذكر ولا وجود.
نهاية المحنة
ظل الإمام ابن أبي العز في مسجوناً عدة شهور وقد ضاقت عليه الدنيا؛ ففقد وظائفه، وتشوهت سمعته، وانصرف عنه الطلبة، وفارقته زوجته لتكون تحت ألد خصومه، ولكن فرج الله -تعالى- قريب، فقد خرج من محبسه بعد أربعة شهور، فانقطع في بيته عدة سنوات يعاني من مرارة المحنة حتى أذن الله -تعالى- في ردّ اعتباره سنة 791 هجرية على يد الأمير سيف الدين يَـلـبُـغـا بن عبد الله الناصري الأتابكى أحد كبار الأمراء فعاد إلى وظائفه، فخطب بجامع الأفرم على عادة أهل بيته أبيه وجده، ودرس بالمدرسة الجوهرية المخصصة للحنفية، ويشاء السميع العليم أن تأتيه الوفاة بعد ذلك بقليل في ذي القعدة من سنة 792 هجرية ليموت معززاً مكرماً بعد أن تأذى كثيراً من محنة ظالمة جائرة أُريد بها محاكمة مدرسة واتجاه بأكمله وليس شخصاً بعينه.
التعليقات