اقتباس
ثمَّة إجماعٌ بين المؤرِّخين على أنَّ الإمام ابن حزم من أكثر أهل الإسلام تصنيفاً وتأليفاً, فقد بلغت مؤلفاته نحو أربعمائة مجلد في شتى فروع العلم: الفقه والحديث والأصول والملل والنحل, والعقائد, التاريخ, الأدب والنسب, والرد على المعارضين, وذلك في ثمانين ألفِ ورقةٍ, ممَّا يجعله يأتي في المرتبة الثَّانية بعد الإمام ابن جرير الطبريِّ, ومُصنَّفات ابن حزم تتراوح ما بين المصنفات الضخمة في عدة مجلدات, والمتوسطة في مجلدين, أو في مجلد واحد ..
إمامُ الظَّاهِريَّة
حياتُه وآراؤه ومحنتُه
التعريف به
هو الإمامُ الكبير, والمجتهد المطلق, بحر العلوم, وجامع الفنون, وإمام المذهب الظَّاهريِّ ومجدِّدُه, الفقيه الحافظ, الأديب الوزير, المؤرِّخ الناقد، العالم الموسوعيُّ, صاحب التَّصانيف الباهرة, والأقوال الظَّاهرة, الإمام أبو محمَّدٍ عليُّ بن أحمد بن سعيد بن حزمٍ الأندلسيُّ, الشَّهير بابن حزم الظاهري.
وُلد في آخر يوم من شهر رمضانَ سنة 384 هـ بمدينة الزهراء عاصمة الأندلس فى عهد الدولة العامريَّة, في بيت عزٍّ وثراءٍ ووزارة, فأبوه أحمد بن حزم كان أحد وزراء المنصور بن أبي عامر حاكمِ الأندلسِ القوي, فنشأ ابن حزم في تنعم ورفاهية, يلبس الحرير, وينامُ عليه, يُطالع كتبه على قناديل الذَّهب والفضة, المضاءةِ بشموع العنبر والمسك.
كان أبوه يُعِدُّه ليسير على درب الوزارة والرياسة مثله, لذلك كانت اهتماماته العلمية في بداية حياته منصبَّةً على الأدب والتاريخ والشِّعر والأنساب وفنون القيادة, وقد تولى بعضَ المهام الإداريَّة والقياديَّة في بداية شبابه, ولكنه سرعان ما هجر ذلك الطريق وأقبل على العلوم الشرعية.
طلبه للعلم
من عجيب أمر الإمام ابن حزم الظاهريِّ أنَّه لم يبدأ فى طلب العلم إلا بعد أن جاوز الخامسةَ والعشرين, وكان قبل ذلك مهتماً بالسياسة ومعاناة شئونها, حتى إنَّه قد وصل لمنصب الوزارة وهو فى ذلك السن الصغير.
ثم وقعت حادثةٌ عابرة كان لها أبعدُ الأثر على مسيرة ابن حزم وحياته كلها, ذلك أنه شهد جنازةً لرجل كبير من إخوان أبيه, فدخل المسجدَ قبل صلاة العصر والنَّاس مجتمعون فيه, فجلس ولم يركع, فأشار إليه أستاذُه الذي رباه بأن يقوم لصلاة تحية المسجد, فلم يفهم وجلس, فقال له بعض المجاورين له: أبلغت هذه السن ولا تعلم أنَّ تحية المسجد واجبة؟ -والراجح أنَّها ليست واجبة-, وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عاماً, قال: فقمت وركعت, وفهمت إذاً إشارة الأستاذ إليّ بذلك, قال: فلمَّا انصرفنا من الصلاة على الجنازة الى المسجد مشاركةً للأحباء من أقرباء الميت دخلت المسجد, فبادرتُ بالركوع, فقيل لي: اجلس اجلس, ليس هذا وقتَ صلاة, فانصرف ابن حزم من المسجد وقد أُصيب بالإحراج الشديد من جهله وقرَّر اللجوء إلى دروس العلم فجلس أولاً الى الشيخ الفقيه أبي عبدالله بن دحون وقرأ عليه موطأ الإمام مالك، وتتلمذ عليه ثلاثة أعوام.
ابن حزم تفقه فى بدايته بالمذهب الشَّافعيِّ, وكان يُناظر على مذهبه المالكية، وكانوا هم الغالبية من أهل العلم فى الأندلس, ومع تبحُّره فى العلم وتوغُّله فى كلِّ فنونه, وصل ابن حزم لدرجةٍ عالية أدَّت الى القول بنفي القياس كلِّه جلِيِّه وخفِيِّه, والأخذ بظاهر النَّصِّ وعموم الكتاب و السنة, والقول بالبراءة الأصلية, واستصحاب الحال, وجدَّد مذهب داود الظاهريِّ, حتى صار من أهمِّ و أشهر علماء المذهب الظاِهريِّ, حتى إنَّ المذهب قد أصبح يُنسبُ إليه بدلاً من مؤسِّسه داود.
اجتهاده
رزق الله عزَّ وجلَّ ابنَ حزم عقلية فذَّة, وذهناً سيَّالاً, وحافظة متَّقدة, وكلُّها ادوات مكَّنت الإمام من النهوض بعلوم جمة وفنون متنوعة, وإجادة النقل, والتوغل فى الكثير من الكتب والمراجع, ومع تبحُّره فى العلم, وصل الإمام لدرجة الاجتهاد المطلق.
ودرجة الاجتهاد التي بلغها ابنُ حزم لم تكن محلَّ شكٍّ أو طعنٍ عند أهل العلم, فالرجل مُجمع على علمه ومكانته وتفرُّده من بين علماء الأندلس الذين كانوا من أتباع المذهب المالكي –على الأغلب– وندر أن يكون من بينهم مجتهد مطلق مثلما هو حال ابن حزم الذي كان يقول دائماً: "أنا أتَّبع الحقَّ وأجتهد ولا أتقيَّد بمذهب", وكان يستعمل اللُّبان – نباتٌ من الفصيلة البخوريَّة يُفرز صمغاً يُسمَّى الكندر – لقوة الحفظ, حتى أصابه البرص, كما كان يستعملُه الإمام الشافعيُّ من قبل فأصابه النزيف.
غير أنَّ اجتهاد ابن حزم وعدم تقيُّده بأقوال أحدٍ من العلماء -حتى الأئمَّة منهم- قد أورثه الكثير من الفتن والمحن مع علماء الاندلس, ذلك أن ابن حزم كان لا يبالي إلا بالنصوص الشرعية القطعية, ويرُدُّ قول أيِّ عالم مهما كانت درجته ومنزلته, ويُسفِّه رأيه, ويُقذع فى نقده, طالما لم يستصحب لرأيه دليلاً من الوحيين, وكان لا يعرف تعريضاً ولا تورية, إذا عارضه أحدٌ فى مسألة صار كالبحر المغرق والجحيم المحرق، فنفرت منه النفوس, وأعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمَّة, وهجروها ونفروا منها, ووصلت عداوة العلماء له فى الأندلس حتى أن أخرجوه من قرطبة وشرَّدوه فى البلاد, وأحرقوا كتبه فى محاضر عامة, بعد أن استعانوا بقوة الدولة وسلطة الأمير.
قال الإمامُ الذَّهبيُّ: "ابن حزم رجل من العلماء الكبار, فيه أدوات الاجتهاد كاملة, تُفتح له المسائل المحرَّرة والمسائل الواهية, كما يقع لغيره, وكلُّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-, وقد امتُحن هذا الرجل وشُدِّد عليه وشُرِّد عن وطنه, وجرت له أمور, وقام عليه الفقهاء؛ وأبشع رد, وجرى بينه وبين أبي الوليد الباجي مناظرة ومنافرة", وقال أبو العباس بن العريف: "كان لسانُ ابن حزم وسيفُ الحجَّاج شقيقين".
ابنُ حزم بين ظاهريَّة الفروع وتأويل الأصول
على الرَّغم من ظاهرية ابن حزم المفرطة ونفيه التام للقياس بنوعيه الجليِّ والخفيِّ, ونضاله عن آرائه ومذهبه أشدَّ النضال, وصبره على الإيذاء والتشريد بسبب ذلك, إلا أنه خالف ظاهريتَّه في الفروع عندما تكلَّم في الأصول, فلقد كان من أشدِّ الناس تأويلاً فى باب الأسماء والصِّفات, يُحيل آيات الصِّفات على غير معانيها الظَّاهرة, وكان السرُّ وراء هذه المخالفة بين الفروع والأصول, أنَّ ابن حزم قد درس في أول حياته العلميَّة علم المنطق على يد محمد بن الحسن المذحجيِّ الكتَّاني القرطبي, فأفسده في باب الصِّفات وحمله على التَّأويل بأشدِّ صوره, حتى إنَّه قد صنَّف كتاباً في فضل علم المنطق وتقدُّمه على سائر العلوم.
مُصنَّفاته
ثمَّة إجماعٌ بين المؤرِّخين على أنَّ الإمام ابن حزم من أكثر أهل الإسلام تصنيفاً وتأليفاً, فقد بلغت مؤلَّفاته نحوَ أربعمائة مجلد في شتى فروع العلم: الفقه والحديث والأصول والملل والنحل, والعقائد, والتَّاريخ, والأدب والنَّسب, والرد على المعارضين, وذلك في ثمانين ألف ورقة, مما يجعله يأتي فى المرتبة الثانية بعد الإمام ابن جرير الطبري, ومصنَّفات ابن حزم تتراوح ما بين المصنَّفات الضخمة في عدة مجلدات, والمتوسِّطة في مجلدين, أو في مجلد واحد, وله عشرات الرسائل في شتَّى فنون العلوم واللغة والأدب.
من أشهر مصنَّفات ابن حزم كتابُه الرائع: "المحلى بالآثار" الذي قال عنه الشيخ المجتهد العزُّ بن عبد السلام: "ما رأيت في كتب الإسلام فى العلم مثل المحلَّى لابن حزم وكتاب المغني للشيخ موفق الدين"، وكثير من مؤلفات ابن حزم قد فُقدت بسبب ما تعرَّض له من محن وفتن, ولكن فى نفس الوقت ما زال يُوجد له الكثيرُ من المؤلَّفات، التي يُعتبر من أهمِّها: الإيصال إلى فهم كتاب الخصال، وهو أكبر مصنفاته ويقع فى خمسةَ عشرَ ألف ورقة, و "الخصال في شرائع الإسلام", و "المحلَّى بالآثار", و "رسائل فى الإمامة في الصلاة", و"حجة الوداع", و"مناسك الحج", وكلُّها فى الفقه, و"مراتب الإجماع", وكتاب "الجامع فى صحيح الحديث", و"اختلاف الفقهاء", و"الإملاء في قواعد الفقه", "الفرائض", و"الفِصَل فى الملل والأهواء والنِّحَل"، وهو من كتب الفرق والمذاهب الشَّهيرة, و"مختصر فى علل الحديث", و"طوق الحمامة" وهو من الكتب المثيرة للجدل التي جلبت عليه لوم الخصوم, وكتاب "نقط العروس" وهو من الكتب الرائعة فى التَّاريخ, وقد جلب عليه عداوةَ ملوك الطوائف، خاصة المعتضد بن عبَّاد أمير إشبيلية, وكتاب "جوامع السيرة" أو "الرَّسائل الخمس", وكتاب "الإحكام في أصول الأحكام", وهو من الكتب الفريدة فى بابها, وعلى منوالها نسج مَن جاء بعده مثلُ الآمديِّ والرَّازيِّ وابنُ الحاجب وغيرهما, وله كتابٌ في الرَّدِّ على يوسف اليهودي المعروف بابن النغريلة, كما له كتاب فى الطب النَّبويِّ, وعدَّة كتب في الرقائق وأدواء النَّفس, كما له كتاب "جمهرة أنساب العرب", و "فتوح الإسلام" و"الخلفاء" و"السير", كما له العديد من كتب الأدب واللغة, وكان شاعراً مطبوعاً مجيدا ً، له الكثير من القصائد الفائقة الرائقة, ومن أفحل قصائده؛ قصيدته التي أنشدها على البديهة للرَّدِّ على قصيدةٍ مليئةٍ بالسَّباب والشَّتم للإسلام والمسلمين والدولة الإسلامية، قد أرسلها امبراطور بيزنطة سنة 352 هجرية للخليفة العباسيِّ المطيع لله يستهزئ به فيها, فردَّ ابن حزم على هذه القصيدة الطَّافحة بالكفر على الفور بقصيدةٍ فخمة مهولة في غاية القوة والروعة, غفر الله عز وجل له بها.
ثناء أهل العلم عليه
قال الإمام أبو القاسم صاعد بن أحمد: "كان ابن حزم أجمعَ أهلِ الأندلس قاطبةً لعلوم الإسلام, وأوسعَهُم معرفةً، مع توسُّعه فى علم اللِّسان, ووفور حظِّه من البلاغة, والمعرفة بالسِّيَر والأخبار".
قال أبو عبدالله الحميدي: "كان ابن حزم حافظاً للحديث وفقهه, مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة, متفنناً فى علوم جمة, عاملاً بعلمه, ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذَّكاء, وسرعة الحفظ, وكرم النَّفس, والتَّديُّن, وكان له في الأدب والشِّعر نَفَسٌ واسع وباع طويل, وما رأيت من يقول الشِّعر على البديهة مثلُه, وشعره كثير".
قال العزُّ بن عبد السَّلام: "كان ابنُ حزمٍ أحدَ المجتهدين, ما رأيت في كتب الإسلام فى العلم مثل ( المحلَّى ) لابن حزم وكتاب ( المغني ) للشيخ موفق الدين ", وقال أبو حامد الغزالي: "وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً ألفه أبو محمَّد بن حزم الأندلسيّ, يدُلُّ على عِظًم حفظه, وسيلان ذهنه".
قال اليسع الغافقيُّ عن ابن حزم: "أما محفوظه, فبحرٌ عجَّاج, وماء ثجَّاج، يخرج من بحره مَرجان الحِكم, وينبت بثجاجه ألفاظ النِّعم في رياض الهِمَم, لقد حفظ علوم المسلمين وأربى على كل أهلِّ دين".
قال الإمام الذَّهبيُّ: "نشأ فى تنعُّم ورفاهيَّة, ورٌزق ذكاءً مفرطاً, وذهناً سيَّالاً وكتباً نفيسةً كثيرة,. ...., فإنَّه رأسٌ في علوم الإسلام, متبحِّرٌ فى النَّقل, عديمُ النَّظير على يبُسٍ فيه, وفرطُ ظاهريَّة في الفروع لا الأصول, وكان ينهض بعلوم جمَّة, ويُجيد النَّقل, ويُحسن النظم والنثر, وفيه دين وخير, ومقاصده جميلة, ومصنَّفاته مفيدة, وهو زهد في الرئاسة, ولزم منزله مُكباً على العلم ", وقد قال الذَّهبيُّ معقِّباً على هجوم القاضي أبي بكر بن العربيِّ عليه: "لم يُنصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخَ أبيه فى العلم, ولا تكلَّم فيه بالقِسط, وبالغ في الاستخفاف به, وأبو بكر فعلى عظمته فى العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد, ولا يكاد, فرحمهما الله وغفر لهما".
قال أبو مروان بن حيان: "كان ابن حزم -رحمه الله- حامل فنون من حديث وفقه وجدل ونسب, وما يتعلَّق بأذيال الأدب, مع المشاركة في أنواع التَّعاليم القديمة من المنطق والفلسفة, وله كتب كثيرة".
وفاؤه وتدينه
من أبرز أخلاق الإمام ابن حزم صفتان تتفرع عنهما كلُّ سلوكياته, ما قبله الناس ومالم يقبلوه؛ وهما: وفاؤه وتديُّنه, وهو يقول لنا عن وفائه: "ولقد منحني الله -عز وجل- من الوفاء لكل من يمتُّ إليَّ بلقية واحدة, ووهبني من المحافظة لمن يتذمَّم مني ولو بمحادثة ساعة حظاً أنا له شاكر وحامد, ومنه مستمد ومستزيد, وما شىءٌ أثقلَ عليَّ من الغدر, وما سمحت نفسي قطُّ فى الفكرة في إضرار من بيني وبينه أقل ذمام, وإن عظمت جريرته وكثرت إليَّ ذنوبه, ولقد دهمني من هذا غيرُ قليل, فما جزيت السُّوْءَى إلا بالحسنى, والحمد لله على ذلك كثيراً".
أما عن تدينه فحسبك أنه قد نشأ في بيئة مترفة وتوفرت له كل دواعي المعصية, والأجواء التي كانت تمر بالأندلس وقتها كانت تشجع على الانحلال, ومع ذلك ظل طاهر الذيل, بريء الساحة, يقول عن نفسه في ذلك: "يعلم الله أني بريء الساحة, سليم الإدام, صحيح البشرة, نقيُّ الحجزة, وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط, ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا منذ عقلت إلى يومي هذا".
محنته
ذهب معظم المؤرخين الذين أرَّخوا لحياة الإمام ابن حزم الظاهري، إلى أن السبب الرئيسي للمحن المتتالية التي أصابته هو حدة لسانه وقلمه، وأنه لم يتأدب مع الأئمة في الخطب، وكان إذا عارضه أحد في مسألة صار كالبحر المغرق والجحيم المحرق، فنفرت منه النفوس، واستحكمت عداوته في القلوب، فألَّبوا عليه الناس، ومنعوا طلبة العلم من الجلوس إليه، وطورد وشرد عن دياره، وأحرقت كتبه في محضر عام بإشبيلية وقرطبة، وعاش منفيًّا قرابة العشرين سنة حتى مات رحمه الله.
ولكن عند التحقيق التاريخي والتوثيق البحثي للمحن التي تعرض لها الإمام ابن حزم الظاهري، نكتشف أن أسباب محنته أكبر وأبعد من شدته النقدية وحدته وسلاطة لسانه، بل نستطيع أن نقول بكل اقتناع: إن حدة لسانه وقلمه ما هي إلا عارض للأسباب الرئيسية التي كانت وراء المحن التي تعرض لها في حياته، وهذه الأسباب الثلاثة كالآتي:
1 ـ نشأة ابن حزم وتربيته:
فلقد ولد ابن حزم في بيئة مترفة وحياة ناعمة، في بيت وزارة ورياسة، وجاه وغنى، ومنذ نعومة أظافره وأبوه يعده ويهيئه للوزارة والزعامة والمراتب العليا وقد غرس ذلك في قلبه الصغير، فتربَّى ابن حزم على الزِّعامة والقيادة والسيادة، تربى على أن يقود ولا يقاد، يأمر ولا يُؤمر، وقد تولى بالفعل الوزارة لعبد الرحمن بن هشام الملقب بالمستظهر الأموي وهو في أوائل العشرينات، قد مرَّ ابن حزم بكل تلك المراحل قبل أن يسلك سبيل العلم والبحث والدراسة، فأثرت تلك التنشئة والتربية عليه، وجعلته يفتقد لسياسة العلم التي هي في بعض الأحيان أهم أدوات العالم الرباني في نشر علمه واجتماع الناس عليه، فكان ابن حزم إذا ناظر أحدًا من العلماء لا يبالي إلا بالنصوص الشرعية القطعية، فهو كما أسلفنا من أكبر أئمة الظاهرية إن لم يكن أكبرهم، وكان يرد قول أي عالم مهما كانت درجته ومنزلته، ويسفه رأيه ويقذع في نقده، طالما لم يستصحب لرأيه دليلاً من القرآن والسنة، وكان لا يعرف تعريضًا ولا تورية، بل يلقي قوله ورأيه كالحجر الثقيل بلا تزين ولا تهذيب، وتلك الصراحة الفجة إنما تولدت في نفس ابن حزم بسبب تربيته الأولى ونشأته القيادية في البداية.
2ـ مذهبية أهل الأندلس:
فلقد كان أهل الأندلس كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وعاميُّهم، متمذهبًا بالمالكية، وكان هو المذهب السائد بالأندلس منذ أيام الدولة الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل أو صقر قريش، وكانوا لا يعرفون إلا موطأ مالك، وما عداه من مذاهب وكتب ومصنفات للحديث أو غيره كانت مهجورة أو مجهولة، ولقد عانى الإمام بقي بن مخلد رحمه الله والمتوفى سنة 276هـ من قبل من جمود علماء الأندلس وانغلاقهم على مذهب المالكية فقط، وكان الإمام بقي بن مخلد قد أدخل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تلك البلاد، ويفتي بالأثر، وعلماء الأندلس لا يخرجون عن قول مالك وتفريعاته، فقاموا عليه وبدعوه ورموه بالزندقة وأغروا به السلطان، وجرت له محن كثيرة وخطوب كبيرة نصره الله فيها وأعلى ذكره وأمره.
ولما بدأ ابن حزم في طلب العلم اختار المذهب الشافعي وبرع فيه وناظر عليه، وفي تلك الفترة تعرض ابن حزم لنقد شديد من مالكية الأندلس وضيقوا عليه كثيرًا، فلما تحول ابن حزم للمذهب الظاهري وترقى في سلم العلوم وتوسع وتبحر وصار من المجتهدين الذين لا يتقيدون بمذهب، زادت حدة النقد حتى وصلت لحملات حربية ووقائع ومشاهد، استخدم فيها المالكية شتى الأساليب لتنفير الناس عن ابن حزم وتبغيضه لديهم، وساعدهم ابن حزم نفسه على ذلك بحدة لسانه وسطوة قلمه وفجاجة عبارته، وتمامًا مثلما حدث مع الإمام بقي بن مخلد استعدى المالكية السلطان على ابن حزم، فآذوه كثيرًا وضيَّقوا عليه وفضُّوا الناس من حوله، وأجبروه على الخروج من دياره، يهيم في الأرض، كلَّما حطَّ رحاله في بلد تنادى المالكية بها لطرده وزجره ومنعه من الدَّرس والعلم، وهكذا ظل الإمام العشرين سنة الأخيرة من حياته شريدًا طريدًا منقطعًا عن التدريس، ضحية من ضحايا العصبية المذهبية والجمود الفقهي، ضحية لعلماء يظنون أنهم يحسنون صنعًا ويحمون مذهبًا ويدافعون عن الدين والحق وهم بلا شك مدانون حتى النخاع، متورطون في محنة هذا الإمام العظيم.
3ـ الظروف السياسية المحيطة:
من ضمن الأسباب الرئيسة والمهمة لمحنة الإمام ابن حزم الظاهري، الظروف والأوضاع السياسية المحيطة بدولة الإسلام في الأندلس، فلقد وُلد ابن حزم أيام الحاجب المنصور والذي كان يحكم بمسمى الدولة الأموية -أحفاد عبد الرحمن الداخل- ولما شبَّ ابن حزم وقعت أحداث الفتنة بقرطبة والأهوال التي عانتها دولة الإسلام لفترة طويلة هناك، ورأى ابن حزم ذلك رأي العين، فتجول حينًا في ألمرية وبلنسية في كنف الفتيان العامريين -وهم موالي الحاجب المنصور- وكان مثلهم من أتباع الخلافة الأموية، ثم قامت دولة ملوك الطوائف وانقسمت دولة الخلافة الأموية إلى أكثر من عشرين مملكة، على رأس كل واحدة منها متغلب ومستقوٍ بعشيرة أو بعصبية أو بنفوذ وجاه، وأغلبهم لا دين له ولا أخلاق، وفي خضم تلك الأحداث المضطربة عاش ابن حزم ورأى انحلال خلافة وقيام طوائف، وشهد الكثير من أحوال ذلك العصر وتقلباته ورأى أيضًا تصرفات ملوك الطوائف ومثالبهم وبغيهم ومجونهم وانحلالهم، فهزَّت هذه التقلبات مشاعر ابن حزم إلى الأعماق، فأطلق لقلمه العنان يؤرخ لتلك الفترة العصيبة من حياة دولة الإسلام في الأندلس، وحمل على ملوك الطوائف بعنف وبعباراته اللاذعة على استهتارهم بالدين والعقيدة حتى قال عنهم في كتابه الشهير "نقط العروس" قال: "والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى، فيمكنونهم من حُرَم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس".
لذلك كره ملوك الطوائف ابن حزم، وحرصوا على إبعاده عن أراضيهم، ونفيه من مكان لآخر، فلقد كانوا يخافون من آرائه النقدية وحملاته الفكرية على فضائحهم وجرائمهم، ولربما أحرقوا كتبه بمحضر عام من الناس، كما فعل ذلك طاغية إشبيلية المعتضد بن عباد، وحرضوا العوام عليه، ومنعوا الطلبة من الجلوس إليه، فقضى الإمام آخر عشرين سنة في حياته منفيًّا في مسقط رأس أسرته في قرية منت ليشم من أعمال لبلة في غرب الأندلس، ولكنه استفاد من تلك المحنة وتفرغ بالكلية للتأليف والتَّصنيف، فأخرج دررًا وكنوزًا رائعة في شتَّى الفنون، وحوَّل الإمام محنته ومنفاه إلى قلعة علمية للكتابة والتأليف، ليخرج بعد ذلك علمه للعالم بأسره ينتفع به الناس على مر العصور حتى الآن وإلى أن يشاء الله عز وجل.
المراجع والمصادر
سير أعلام النبلاء،
البداية والنهاية ،
تذكرة الحفاظ ،
جذوة المقتبس،
الصلة ،
المغرب في حلي المغرب ،
الإحاطة ،
نفح الطيب،
وفيات الأعيان ،
شذرات الذهب ،
تاريخ دولة الإسلام في الأندلس ،
ابن حزم للشيخ أبو زهرة ،
ابن حزم لعبد الحليم عويس.
التعليقات