عناصر الخطبة
1/حاجة الأمة للمصلحين 2/ صفات أهل الإصلاح بين الناس 3/ من فقه الإصلاح 4/ منزلة الإصلاح 5/ مفاسد الخصومة الدنيوية والأخرويةاهداف الخطبة
التذكير بفضل الإصلاح بين الناس / حث المتخاصمين على الصلح والتصافي / توجيه المصلحين إلى فقه الصلحاقتباس
إن الأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين، ويعيد الوئام إلى المتنازعين. إصلاح تسكن به النفوس، وتأتلف به القلوب. إصلاح يقوم به عصبة خيرون شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة ..
الخطبة الأولى:
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال:1].
أيها المسلمون: أصلحوا ذات بينكم؛ فالإصلاح عنوان الإيمان في الإخوان: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10].
الإصلاح مصدر الطمأنينة والهدوء ومبعث الاستقرار والأمن، وينبوع الألفة والمحبة.
أيها الإخوة، لقد أقضت مضاجع القضاة القضايا، وامتلأت كثيراً من السجون بالبلايا، ناهيك بما في مراكز الشرطة وأسرة المشافي من المآسي. بل إن مشكلات الأمة الكبرى في الصومال وأفغانستان، ومواقع من ديار المسلمين أخرى تحتاج كل الحاجة إلى الصالحين المصلحين.
ألا ينبري خيرون بمساعي حميدة هنا وهناك؛ ليطفئوا نار الفتن وينزعوا فتيل اللهب؟!
إن التنازع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدد للثروات (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46]
بالخصومات والمشاحنات تنتهك حرمات الدين، ويعم الشر القريب والبعيد. ومن أجل ذلك سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساد ذات البين بالحالقة، فهي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين.
إن الأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين، ويعيد الوئام إلى المتنازعين. إصلاح تسكن به النفوس، وتأتلف به القلوب. إصلاح يقوم به عصبة خيرون شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نبل الطباع وكرم السجايا.
فئات من ذوي الشهامة من الرجال والمقامات العلية من القوم، رجال مصلحون ذو خبرة وعقل وإيمان وصبر، يخبرون الناس في أحوالهم ومعاملاتهم، حذاق في معالجة أدوائهم، أهل إحاطة بنفوس المتخاصمين وخواطر المتباغضين والسعي بما يرضي الطرفين.
أيها الإحبة: إن سبيل الإصلاح عزيمة راشدة، ونية خيرة، وإرادة مصلحة.
وبريد الإصلاح، حكمة المنهج، وجميل الصبر، وطيب الثناء، سبيل وبريد يقوم به لبيب تقي يسره أن يسود الوئام بين الناس: (وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) [النساء:129].
أيها الإخوة: وللإصلاح فقه ومسالك دلت عليها نصوص الشرع وسار عليها المصلحون المخلصون.
إن من فقه الإصلاح النية، وابتغاء مرضاة الله، وتجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية. إذا تحقق الإخلاص حل التوفيق وجرى التوافق وأنزل الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
أما من قصد بإصلاحه الترؤس والرياء وارتفاع الذكر والاستعلاء فبعيد أن ينال ثواب الآخرة، وحري ألا يحالف التوفيق مسعاه (وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114].
ومن فقه الإصلاح سلوك مسلك السر والنجوى. فلئن كان كثير من النجوى مذموماً فإن ما كان من صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو محمود مستثنى: (لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114].
أيها الإخوة: وهذا فقه في الإصلاح دقيق، فلعل فشل كثير من مساعي الصلح ولجانه بسبب فشو الأحاديث، وتسرب الأخبار، وتشويشات الفهوم مما يفسد الأمور المبرمة والاتفاقيات الخيرة.
إن من الخير في باب الإصلاح أن يسلك به مسلك النجوى والمسارة؛ فمن عرف الناس وخبر أحوالهم لاسيما فيما يجري بينهم من منازعات وخصومات وما يستتبع ذلك من حبٍ للغلبة وانتصار للنفس أدرك دقة هذا المسلك وعمق هذا الفقه.
إن من الناس من يأبى أن يسعى في الصلح فلان أو فلانةٌ، وآخر يصر على أن تكون المبادرة من خصمه. وتمشياً مع هذه المسالك السرية والتحركات المحبوكة أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب في العبارات والوعود.
"فليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيراً، أو يقول خيرا" هذا هو حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وفي خبر آخر عنه يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا يصلح الكذب إلا في ثلاث؛ رجل يصلح بين اثنين، والحرب خدعة، والرجل يصلح امرأته" ويقول نعيم بن حماد: قلت لسفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر من الشيء عسى أن يكون قد فعله ويُحرِّف فيه القول ليرضي صاحبه أعليه فيه حرج؟ قال: "لا. ألم تسمع قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس بكاذب من قال خيراً، أو أصلح خيراً، أو أصلح بين الناس" وقد قال الله -عز وجل-: (لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114].
إنها النفوس الشحيحة التي تحمل صاحبها وغيرها على ما تكره. ولكن في مقابل هذه النفوس الشحيحة يترقى أصحاب المروءات من المصلحين الأخيار؛ ليبذلوا ويغرموا، نعم يبذلون الوقت والجهد، ويصرفون المال والجاه.
ولقد قدر الإسلام مروءتهم، وحفظ لهم معروفهم، فجعل في حساب الزكاة ما يحمل عنهم غرامتهم -بارك الله فيهم-؛ لئلا يُجْحِفَ ذلك بسادات القوم المصلحين.
أيها الإخوة في الله: وميدان الصلح واسع عريض؛ في الأفراد والجماعات والأزواج والزوجات، والكفار والمسلمين، والفئات الباغية والعادلة، في الأموال والدماء، والنزاع والخصومات.
ومن أجل ذلك فقد عظم ثوابه، وكبر أجره، فهو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدِّين" ولقد باشر الصلح بنفسه -عليه الصلاة والسلام- حين تنازع أهل قباء، فندب أصحابه وقال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم".
وخرج -عليه الصلاة والسلام- للإصلاح بين أناس من بني عوف حتى تأخر عن صلاة الجماعة.
والإمام الأوزاعي -رحمه الله- يقول: "ما خطوة أحب إلى الله -عز وجل- من خطوة في إصلاح ذات البين".
إذا كان الأمر كذلك -أيها الاخوة- فمن ذا الذي لا يقبل الصلح ولا يسعى فيه، ليسوا إلا أناس قد قست قلوبهم، وفسدت بواطنهم وخبثت نياتهم؛ حتى كأنهم لا يحبون إلا الشر، ولا يسعون إلا في الفساد، ولا يجنحون إلا إلى الظلم.
والأشد والأنكى أن ترى فئات من الناس ساءت أخلاقها، وغلظت أكبادها، لا يكتفون بالسكوت والسكون، بل في أجوائهم يستفحل الخصام، ويقسو الكلام، وما أشبه هؤلاء بأعداء الإسلام وأهل النفاق، إنهم يلهبون نار العداوة ويوقدون سعير البغضاء كلما خبت نار الفتن أوقدوها. ولا غرو بعد ذلك أن تضيع الحقوق، وتهدر الحرمات، ويرق الدين، وتنزع البركات.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتقوه وأصلحوا ذات بينكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، لا تحصى نعمة ولا تحد، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا رسول الله محمد، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فتقوى الله خير زاد.
أيها الإخوة: الكريم لا يحقد ولا يحسد ولا يبغي ولا يفجر، إن بلغه عن أخيه ما يكرهه التمس عذراً، فقد علم أن الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويرفع الأحقاد، ويزيل الصدود.
إن حقاً على -إخوة الإيمان- أن يسود بينهم أدب المحبة، أدب ينفي الغش والدغل مع استسلام لله بما يصنع، ورضاً بما يكتب.
اسمعوا -رحمكم الله- إلى هذا الحديث: روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر الله لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا" قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: "يدل هذا الحديث على أن الذنوب إذا كانت بين العباد فسامح بعضهم بعضاً سقطت المطالبة بها من قبل الله عز وجل". الله أكبر -يا عباد الله-: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ) [النساء:147].
وسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما؛ إذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه -أي يطلب منه أن يخفف عنه دينه-، وهو يقول: والله لا أفعل. فخرج عليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: " أين المتألي على الله ألا يفعل المعروف؟" فقال: أنا يا رسول الله. فقال له: "أي ذلك أحب؟". فعدل الرجل عن يمينه، واستجاب لتذكير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، طاعة لله ورسوله، واستجابة لداعي الحق.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فمن أراد الثواب الجزيل الذكر الجميل وراحة القلب فليحلم على الجاهل، وليعفو عن المعتدي وليقبل الصلح (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى:4].
هذا وصلوا وسلموا على نبي الهدى ودين الحق، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
التعليقات