عناصر الخطبة
1/ أهمية الحرية للإنسان 2/ من أصول السنن الربانية في الخلق 3/ الحكمة من خلق الإنسان 4/ العلاقة بين العبودية والحرية في الإسلام 5/ ضوابط الحرية عند الغربيين 6/ مفهوم الإسلام للحرية 7/ ماذا جنى الغربيون من الحرية؟اهداف الخطبة
اقتباس
الحرية في حياة جميع شعوب الأرض ضرورة إنسانية، ومطلب سامق رامق عزيز، بل تكاد الحرية في بعض الحضارات أن تكون دين يقدس فتقدم لها القرابين والولاء، ويرخص كل معتقد من أجل الحرية، ويرخص كل معتقد من أجل الحرية، ويسمح لخوارم المروءة وشواذ السلوك أن تُمارَس باسم الحرية، وأصبحت الحرية مع تصارع الزمان مشرِّعًا للفوضى الأخلاقية بكل أنواعها. ولذا ينبغي لنا وسط هذه الفوضى أن نقف، ثم نتأمل في وضعنا نحن المسلمين من هذه الفوضى.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الحرية كلمة جميلة تغنَّى بها الشعراء، وجاهَد للحصول عليها عبر العصور والأزمان ملايين وملايين البشر، قال الشاعر:
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ *** يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا *** إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ *** بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
الحرية في حياة جميع شعوب الأرض ضرورة إنسانية، ومطلب سامق رامق عزيز، بل تكاد الحرية في بعض الحضارات أن تكون دين يقدس فتقدم لها القرابين والولاء، ويرخص كل معتقد من أجل الحرية، ويرخص كل معتقد من أجل الحرية، ويسمح لخوارم المروءة وشواذ السلوك أن تُمارَس باسم الحرية، وأصبحت الحرية مع تصارع الزمان مشرِّعًا للفوضى الأخلاقية بكل أنواعها.
ولذا ينبغي لنا وسط هذه الفوضى أن نقف، ثم نتأمل في وضعنا نحن المسلمين من هذه الفوضى.
أيها الإخوة: لقد جعل الإسلام الحرية حقًّا من الحقوق الطبيعة للإنسان، فلا طعم لحياة الإنسان بلا حرية، وحين يفقد المرء حريته يموت داخليًّا وإن كان في الظاهر يتكلم ويأكل ويشرب ويسعى في الأرض.
فالحرية مطلب في داخل فطر الإنسان، ولقد كرم الله الإنسان بمنحه حرية الاختيار فأعطاه العقل والقدرة والمشيئة ودلَّه على طريق الخير، وحذره من طريق الشر، وقال تعالى: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)، وقال أيضًا سبحانه: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) [التكوير:28].
وقال كذلك -عز وجل- (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:3]، وقال جل وعلا: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256]، وقال في ذلك أيضًا: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99].
أي: أن لك أيها الإنسان حق الاختيار، فالحرية وضمان المشيئة وعدم الإكراه للعباد من أصول السنن الربانية في الخلق، وركن من أركان الابتلاء ما يبتلى به العباد، فحرية الإنسان في الإيمان مكفولة بنص القرآن.
حسنًا والآن أين موقع العبودية من هذا كله؟ فنحن جميعًا ندرك أن الغاية من خلق الإنسان هي العبادة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
فإذا كنا قد خلقنا للعبادة، فكيف نجمع بين العبودية التي تعني الرقة والتملك وبين الحريات.
معاشر المسلمين: قبل أن نبدأ في الكلام عن العلاقة بين العبودية والحرية في الإسلام نطرح سؤالاً مهمًّا هل الحرية في العالم الغربي الليبرالي الذي يسمى بالعالم الحر، هل الحرية عندهم حرية مطلقة غير مقيدة؟
والجواب على هذا أن الحرية المزعومة عند من يسمون بالعالم الحر حرية مقيدة بعدة قيود، فهناك قيد التعدي على حرية الآخرين كما هو مبدأ فيلسوفهم "توماس هوبز": "حريتك تصطدم بحرية الآخر".
وهناك قيد النظام فهم ليسوا أحرارًا فالنظام العام هو الذي يسمح لهم أو يمنعهم، وهناك قيد القانون، فالقانون هو الذي يشرع لهم المباح والمحرم.
إذاً أين ذهبت الحرية المزعومة؟ هذا تساؤل يوجه إلى ليبراليي مجتمعنا الذين جعلوا الغرب الحر قدوة في الحرية، فهم الأحرار وغيرهم العبيد؛ لأن ليبرال بالانجليزي معناها "حر".
الحقيقة المجردة أيها الإخوة: أنه لا حرية مطلقة لأحد أبداً، بل لابد من حدود تقف عندها حرية الإنسان مهما كان ومن أي بلد كان.
وهذا القصر والجبر أمر طبيعي في كل مخلوق لأن المخلوق في أصله لم يكن حرًّا في اختيار خروجه إلى الحياة، خرج إلى الحياة دون اختياره ولم يكن حرًّا في اختيار لونه أو جنسه أو اختيار أمه أو أبيه، هذا هو شأن المخلوق.
أما الخالق البارئ فهو وحده الذي يخلق ويفعل ما يشاء بلا أي قيد؛ لأنه خالق كل شيء (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر:62].
ومشيئة الخالق سبحانه نافذة لا مانع لها (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2]، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص:68].
وخلقه وفعله -جل وعلا- كله خير وحكمة.
إذاً فحرية الإنسان في كل مجتمع على وجه الأرض محدودة ومقيدة، مسلمًا كان ذلك الإنسان أو غير مسلم، وحرّ في جانب، ولكنه مقيد ليس حرًّا في جوانب أخرى.
أيها الإخوة : بعد بيان حقيقة اللا حرية مطلقة للإنسان نأتي إلى مفهوم الإسلام للحرية.
إن الحرية الحقيقية في الإسلام هي الانعتاق من عبودية النفس والشيطان والأرباب الأخرى والخلوص لله وحده، ولذلك كان هذا هو التساؤل المنطقي لمطلع دعوة يوسف عليه السلام للفتين في السجن (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 39- 40].
وأمر الله نبيه أن يجادل العبيد الذين لم يتحرروا من ذل العبودية لغير الله فقال: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام: 19].
وصرح القرآن بعبودية الإنسان للشيطان في قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [يس: 60-61].
وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عبودية الإنسان لأكثر من إله بقوله: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أُعطي رضي، وإن مُنع غضب، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش".
فالعبودية لله وحده دون غيره هو مفهوم الحرية في الإسلام، العبودية لله أعلى وأسمى مقام يصل له الإنسان الحر.
ولذلك سمى الله أنبياءه بهذا المسمى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)، وقال: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) [ص:45]، (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [مريم:2].
وجاء الأمر في القرآن بالفرار إلى الله تعالى، والفرار لا يكون إلا من خائف ضعيف أو عبد أبق يريد الحرية، فالفرار إنما يكون إلى الله للتحرر مما سواه وهو عين الحرية (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الذاريات: 50- 51].
فإن أصحاب الفكر الليبرالي في بلادنا يسعون حثيثًا إلى فك ما يمسونه قيودًا دينية من طبيعة الحياة في مجتمعنا، ويدَّعُون أنه لا تحقق الحرية إلا بذلك، وقد خلصنا مما تقدم إلى أن الفرق في مفهوم الحرية بيننا وبين المطالبين بالحرية من ليبراليين وغيرهم من الشهوانيين التي تحد الحرية وتضبطها، فبينما يحد الحرية في منهج الإيمان ما نهى عنه الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- يحد الحرية حسب رؤيتهم حرية الآخرين، النظام، القانون، وما وراء ذلك افعل ما شئت حسب ما شئت، حسب ما يمليه عليه هواك، ولو خالفت الله خالقك، أنت حر.
لكنهم إن ظنوا أنهم أصبحوا بذلك أحرارًا، فإنهم يتوهمون؛ لأنهم في واقع الأمر لم يتحرروا بل وقعوا أسرى لعديد من الآلهة أولها الشيطان ثم تتفرع فالمال يأمرهم وينهاهم فيحرف أخلاقهم وذممهم.
والشهوة المحرمة تأمرهم وتنهاهم فتفسد فطرتهم وطهارتهم، المنصب يأمرهم وينهاهم ويحملهم على الظلم والجور والطمع يأمرهم بالجشع وغير هؤلاء كثير تحت قاسم مشترك واحد وهو الهوى.
يقول سبحانه: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 43- 44].
أما إذا كان الإنسان مؤمنًا بالغيب وبيوم القيامة والحساب والعقاب والثواب، فلن يكون ربه إلا الله، ولن يكن إلهه إلا الله، وسيتحرر من كل إله سواه، ومن ثَم يكون هو الحر بحق ودونه العبيد..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
التعليقات