عناصر الخطبة
1/ أحاديث آخر الزمان والتعامل الصحيح معها 2/ نماذج على هذا السنة الكونية (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) 3/ علاقة الأسباب العملية للتغيير في الأسباب الإيمانية 4/ منهج الإسلام في النظر إلى الموت والحياة 5/ منهج الإسلام في النظر إلى الأعمال الظاهرةاقتباس
ففي تحقيق سنن الله أسبابا إيمانية وأسبابا عملية؛ أما الأسباب العملية بلا إيمان ولا تقوى فنتائجها ملموسة بلا شك ولكن لا بركة فيها؛ لأنه لا يرجى بها وجه الله فيمتزج، فيها الحرام من ربا وغش ورشى وغصب وتعدي وما شابهها من المعاصي، فمآلها يوما ما يقدره الله تعالى أن تنقلب على...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كان حديث الأسبوع الماضي عن منهجية المجتمع المسلم كيف ينظر إلى الحياة وكيف يتعامل معها، منهجية المجتمع الذي يحمل كتاب الله ويعظمه ويجله ويتلوه آناء الليل وأطراف النهار؛ هل هي منهجية مطابقة لذلك الكتاب الكريم؟ أم هي ناقصة أم هي شيء آخر؟ والجواب: لا ينطق به اللسان بل ينطق به حال الأمة والواقع خير برهان.
معاشر الإخوة: حين النظر في أحاديث آخر الزمان وما يجري فيها من فتن وأحوال ينبغي أن نتعامل مع الحديث النبوي تعامل صحيح؛ ففي حديث أنس في الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عام إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم".
فسر أهل العلم الحديث بأكثر من تفسير؛ فمنهم من فسر الشر الذي يزداد مع الزمان أنه يكون بفقد العلماء وانتشار الجهل؛ فقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن بين يدي الساعة لأيام ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ويكثر فيها الهرج" والهرج هو القتل.
ودليل آخر هو حديث زيد بن وهب قال سمعت عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "ليأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي قبله حتى تقوم اليوم". لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالا يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس؛ فلا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر؛ فعند ذلك يهلكون.
ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه -رضي الله عنه- قال: "ليأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير ولا عاما خيرا من عام ولكن علماؤكم أو فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يفتون برأيهم".
ومنهم من فسر الحديث على الأكثر الأغلب وليس مضطردا كالحسن البصري؛ فإنه لما سئل عن وجود عمر بن عبدالعزيز بعد الحجاج بالرغم من قوله -صلى الله عليه وسلم- "إلا والذي بعده شرا منه" قال لابد للناس من تنفيس".
الحاصل أن بعض الناس ظنوا هذا الحديث يدعو إلى التشاؤم والكسل؛ فكل عام يمضي يأتي بعده عام شر منه، والصحيح أن الحديث يدعو إلى الإحسان يدعو إلى بذل الوسع؛ كي يصلح الله الحال؛ لأن الله تعالى يقول (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30].
فما لم يعفو الله تعالى فإن المصائب تحل بكسب الأيدي يقول سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11]، ولذلك لما صلح الناس في عهد عمر بن عبدالعزيز، ورجعوا إلى دينهم صلح حالهم من بعد خوف وازدهرت معيشتهم من بعد خراب.
إنها سنة الله التي حاول نبي الله نوح -عليه السلام- أن يفهمها قومه بمئات السنين (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10-12]
وكذلك نبي الله هود وهو ينصح قومه (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) [هود:52].
وكذلك باقي الأنبياء فتتابع أعمال الخير وصلاح الأعمال والاستغفار يعمر البلاد بالخير والنعم والأمن بفضل من الله تعالى.
هذه هي سنة الله في الأسباب والمسببات.
إذاً ففي تحقيق سنن الله أسبابا إيمانية وأسبابا عملية؛ أما الأسباب العملية بلا إيمان ولا تقوى فنتائجها ملموسة بلا شك ولكن لا بركة فيها؛ لأنه لا يرجى بها وجه الله فيمتزج، فيها الحرام من ربا وغش ورشى وغصب وتعدي وما شابهها من المعاصي، فمآلها يوما ما يقدره الله تعالى أن تنقلب على أهلها بالسوء؛ كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام:44].
وربما كانت عقوبتهم في الدنيا أن يُطمس على قلوبهم فلا يؤمنون، أو أن يفشلوا في العلاقات العائلية الاجتماعية؛ فهم في الظاهر يتمتعون ويأكلون كالأنعام، وفي الداخل والجوهر ضائعون تائهون.
وما إذا اقترنت تلك الأسباب العملية بالإيمان تطهرت وزكت ونمت -بإذن الله-؛ فسنن الله لا تحابي أحدا، بل تجري وفق ما أودع الله فيها من نظام سواء تعامل معها مؤمن أو ملحد؛ فالملحدون -مثلا- إذا أقاموا العدل بينهم استدامت مجتمعاتهم -وهذه سنة الله-؛ فهم عرفوا نفع العدل عقلا لا إيمانا فصاروا به بينهم، أما نحن فنعرفه عقلا وإيمانا سواء فنحن أحرى وأجدر وأحق أن نقيمه ولله الحمد.
فها هو القرآن يقول (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25] ويقول -سبحانه-: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الشعراء:181-183].
فالأمة التي منهجها الإسلام تدرك سنن الله في خلقه ولذلك حري بالمؤمن بأن يدرك أن شكر النعمة في سنن الله يأتي بالزيادة والبركة؛ كما في قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
هذا في القرآن الذي بين أيدينا الذي ينبغي أن يكون هو منهجنا ويدرك أن كفر النعمة يمحق البركة ويبدل النعمة نقمة ويفسد الحال وهو واضح في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم:28]، وقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:53].
ينبغي أن يكون فهمنا وتعاملنا مع القرآن ومع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهما راشدا وتعاملا مستقيما.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فقد قالوا لنقلل الكلام عن الموت ولنكثر الكلام عن الحياة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكر هاذم اللذات"؛ أي الموت وكان -صلى الله عليه وسلم-: "فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت".
بل إن الله تعالى قدم الموت على الحياة في مطلع سورة تبارك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) [الملك:2]؛ فلئن كانت الحياة حقاًّ فالموت أحق، والقرآن إنما يكثر من ذكر الموت حتى لا يتعلق القلب بالحياة وينسى الموت والآخرة فيجترئ على الذنب يقول سبحانه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر:30] ويقول تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة:8] ويقول سبحانه (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ) [النساء: 78] ويقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185].
أمر آخر قالوا في كسب المال الغاية تبرر الوسيلة فخذ بكل وسيلة متاحة لتكسب المال، وقال سبحانه: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) [البقرة: 188] وقال أيضا -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة:278-279].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" وقال أيضا -عليه الصلاة والسلام-: "إنه لا يربوا لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به".
أيها الأخوة: قالوا دعوا الأعمال الظاهرة فالإيمان في القلب، والله يقول: (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:43] وقال أيضا -جل من قائل- (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف:72].
وقال -صلى الله عليه وسلم- "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
الإيمان إذا في القلب وفي القول وفي العمل، وقالوا "التدين تخلف يرجعنا للوراء" وجاء في الدين قوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) وقال سبحانه: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [البقرة:212].
وقال -تعالى حاثا على السعي: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15] وقال سبحانه -حاثا على العلم-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11].
وهذا المبدأ مبدأ أن الدين هو التقدم وفيه النجاح في الدنيا والآخرة لا يقنع إلا من استقر الإيمان في قلبه بلا ريبة.
ولو رجعنا حقا إلى ما كان عليه أسلافنا في الدين لكان لنا الظهور على جميع الناس ولهذا لما حدث أبو سفيان هرقل ملك الروم، والروم في ذلك الوقت تعتبر دولة عظمى لما حدثه بما عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قال: "إن كان ما تقول حقا فسيملك ما تحت قدمي هاتين".
ففي الالتزام بالدين الخير كله وفي التفريط به الشر كله..
وللحديث تتمة إن شاء الله..
اللهم اعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين..
التعليقات