اقتباس
الإسراف والتبذير
طه حسين بافضل
التعريف:
لغـة: الإسراف مأخوذ من مادة (س ر ف)، وتدلُّ على تَجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان.
أمَّا التبذير: فمأخوذ من مادة (ب ذ ر)، وتدلُّ على نثر الشَّيء وتفريقه، والبذير: مَن لا يمسك الأسرار.
اصطلاحًا: الإسراف: مجاوزة حدِّ الاعتدال في الأفعال والأقوال، والأموال، والمرغوبات والمحبوبات.
أمَّا التبذير: فإنفاق المال في غير حقِّه، وإخراج الكلام بعد كتمه.
الفرق بين الإسراف والتبذير؛ ويظهر فيما يلي:
1- الإسراف: صَرف فيما ينبغي، زائد على ما ينبغي، والتبذير: صرف الشيء فيما لا ينبغي.
2- والإسراف: تجاوز في الكميَّة؛ فهو جهل بمقادير الحقوق، والتبذير: تجاوز في موضع الحقِّ؛ فهو جهل بمواضعها.
يرشد إلى هذا النَّهيُ في قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141]، وتعليل النَّهي عن التبذير: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27]؛ فإنَّ تعليل الثاني فوق الأول.
هما بمعنى واحد:
وقد ذهب إلى ذلك بعضُ المفسِّرين؛ كالقرطبي وابن كثير والماوردي، وروي عن مالك؛ فقد يرِد أحدُهما ويُراد به الآخر، وإن بينهما عمومًا وخصوصًا؛ فيجتمعان فيكونان بمعنى واحد، وقد ينفرد الأعمُّ، وهو الإسراف.
الدواعي والأسباب:
1- التربية على فعلهما داخل الأسرة والمحضن التربوي، والانجرار خَلف مطالب الزوجة والأولاد دون حزم واعتدال.
2- صُحبة مَن يتَّصف بهما من الأصحاب والزملاء، والتأثُّر بغيرهم من المترفين والمنعَّمين.
3- الانتقال من الضِّيق والفقر وضنك العيش إلى النَّعيم والترف وسعة العيش.
4- طاعة النَّفس فيما تَشتهي وتريد؛ فإنها عدوَّة تَفتك بضعيف الإيمان؛ فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنَّ عمر رضي الله تعالى عنه رأى في يد جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه درهمًا فقال: "ما هذا الدِّرهم؟"، قال: أريد أن أشتري به لأهلي لحمًا قرموا إليه، فقال: "أكلَّما اشتهيتم شيئًا اشتريتموه؟!".
5- عدم فِقه متطلبات الحياة الدنيا، وأنَّها بلاغ للدَّار الآخرة، والغفلة عن مقام الوقوف والسؤال بين يدي الله تعالى.
6- الابتعاد عن سلوك الوسَط والاعتدال في حياة الإنسان كلها.
من أنواع الإسراف:
1- الإسراف في الطعام والشراب واللباس: قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: "إيَّاكم والبطنة من الطَّعام والشراب؛ فإنَّها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقَصد فيهما؛ فإنَّه أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإنَّ الله تعالى ليبغض الحبر السمين، وإنَّ الرجل لن يهلك حتى يؤْثر شهوته على دينه".
2- الإسراف في المعاصي والذنوب: وإنَّ ذلك يؤدِّي إلى القنوط من رحمة الله؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
3- الإسراف في إنفاق الحلال: قال تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141]، قيل: معناه: ولا تسرفوا في الإعطاء، فتعطوا فوقَ المعروف، وقال أبو العالية: "كانوا يُعطون يوم الحصاد شيئًا، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فأنزل الله: ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا ﴾، وقال ابن جُرَيْج: "نزلت في ثابت بن قَيْس بن شَمَّاس، جذَّ نخلًا، فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلَّا أطعمتُه؛ فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فأنزل الله: ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾.
4- الإسراف في القَتل: قال تعالى: ﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33]، قالوا: معناه: فلا يسرِف الوَليُّ في قَتل القاتل؛ بأن يمثِّل به، أو يقتصَّ من غير القاتل، وقيل: فلا يتجاوز الحدَّ المشروع فيه؛ بأن يَقتل اثنين مثلًا والقاتل واحد كعادة الجاهليَّة؛ فإنهم كانوا إذا قُتل منهم واحد قَتلوا قاتلَه وقتلوا معه غيرَه، ومن هنا قال مهلهل:
كلُّ قَتيلٍ في كُليبٍ غُرَّهْ ♦♦♦ حتى ينال القَتلُ آلَ مُرَّهْ
5- الإسراف في أكل أموال اليتامى: قال تعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ﴾ [النساء: 6]؛ فعن ابن عباس أنَّه قال: "يأكل الفقير إذا وَلي مالَ اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له، ما لم يسرِف أو يبذِّر"، وعن ابن عمر أنَّه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال، وإنِّي وليُّ يتيم؟ فقال: ((كُل مِن مال يتيمك غير مسرِف ولا متأثل مالًا، ومن غير أن تقي مالك بماله))[1].
الآثار والمضار:
1) خسارة محبَّة الله تبارك وتعالى، ومجلبة غضبه وسخطه.
2) سلوك طريق التبذير والإسراف انتِساب لأخوَّة الشياطين.
3) الضعف والخور وعدم القدرة على تحمُّل الصِّعاب والشدائد.
4) جلب الأمراض للجسد والقسوة للقلب والخمول للفكر.
5) يطبع المجتمع بطابع الانحِلال والكسَل والعجز؛ فيصبح عالَة على غيره، خاملًا مبتعدًا عن الاجتهاد والإبداع والتميُّز.
العلاج:
1- الاستسلام لأوامر الله سبحانه وتعالى، والابتعاد عمَّا نهى عنه من الإسراف أو التبذير؛ بل سلوك طريق الاعتدال.
2- التأمُّل في سيرة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، والتابعين، في وسطيَّتهم وتعاملهم مع الحياة.
3- تذكُّر أحوال المسلمين من الفقراء والمحرومين والمنكوبين والمكلومين في بِقاع الدنيا؛ فهو كَفيل لردع النَّفس عن السرف.
4- الابتعاد عن الوسَط المسرف على نَفسه من المترفين والعصاة، والاقتراب من المنكسِرة قلوبُهم لربِّهم، المعتدلين في معاشهم.
5- الاهتمام بتَوجيه الزوجة وحضها على سلوك الاقتصاد في المعيشة، وتربية الأولاد على ذلك، وعدم الرضوخ لمتطلباتها التي تَحمل في طيَّاتها سرفًا وتبذيرًا.
المراجع:
• لسان العرب؛ لابن منظور.
• تفسير روح المعاني؛ للألوسي.
• تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير.
• الزواجر؛ للهيتمي.
• فتح الباري شرح صحيح البخاري؛ لابن حجر العسقلاني.
• الفوائد؛ لابن القيم.
• نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم.
[1] أخرجه أبو داود برقم (2872)، وابن ماجه برقم (2718)، والنسائي برقم (3668).
التعليقات