عناصر الخطبة
1/أهمية الإخلاص ورفعة منازل المخلصين 2/من ثمرات الإخلاص وفوائده 3/عِظم النية الصالحة وأثرها في تحصيل أجر العمل.اقتباس
يتفاضل النَّاس عند الله -تعالى- بتفاضل ما في قلوبهم من الإخلاص, وحُسْنِ القصد, والخشيةِ لله -سبحانه-, فمَنْ كان لله أتقى, ولعبادته أخْلَص؛ كان لله أقرب, .. واللهُ -تعالى- لا يقبل من الأعمال إلاَّ ما كان صالحاً, وابتُغيَ به وجهه,....
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: يتفاضل النَّاس عند الله -تعالى- بتفاضل ما في قلوبهم من الإخلاص, وحُسْنِ القصد, والخشيةِ لله -سبحانه-, فمَنْ كان لله أتقى, ولعبادته أخْلَص؛ كان لله أقرب, قال -تعالى-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات:13].
عباد الله: إنَّ الإخلاص في العمل يُورِث قَبولَه عند الله, واللهُ -تعالى- لا يقبل من الأعمال إلاَّ ما كان صالحاً, وابتُغيَ به وجهه, قال -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110]، وقال -سبحانه-: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ)[المائدة:27]؛ أي: الذين اتَّقوا الشركَ.
قال ابن عطية -رحمه الله-: "وإجماعُ أهل السُّنة في معنى هذه الألفاظ: أنها اتقاء الشرك، فمَنْ اتَّقاه وهو مُوَحِّد فأعمالُه التي تَصْدُق فيها نِيَّتُه مقبولة".
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فِيهِ, فَعَمِلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ مُوَافِقًا لأََِمْرِ اللَّهِ, فَمَنْ اتَّقَاهُ فِي عَمَلٍ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ -وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي غَيْرِه, وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِيهِ لَمْ يَتَقَبَّلْهُ مِنْهُ- وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِهِ".
وكذا قال السعدي -رحمه الله-: "أصحُّ الأقوالِ في تفسير المتقين هنا؛ أي: المتقين لله في ذلك العمل، بأنْ يكون عملُهم خالصاً لوجه الله، مُتَّبِعين فيه لِسُّنة رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-".
والإخلاص لله -تعالى- له أثر عظيم في إجابة الدعاء؛ بل هو شرطٌ رئِيسٌ في إجابة الدعاء, وتحقيقِ رغبةِ الدَّاعي؛ لأنَّ الدعاء هو العبادة, ومن شرط العبادة ألاَّ تُصْرَفَ لغير الله -تعالى-: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غافر:60]؛ فسمَّى دعاءه عِبادةً. وتأمَّل قولَه: (ادْعُونِي) الدال على قصده وحْدَه بالدعاء. قال ابن كثير -رحمه الله-: "نَدَبَ عِبادَه إلى دُعائِه، وتَكفَّل لهم بالإجابة".
ولهذا استجاب اللهُ -تعالى- دُعاءَ الأنبياء والصالحين من عباده؛ لَمَّا اخلصوا له الدعاء؛ كما في "سورة الأنبياء" - في لُجوءِ إبراهيمَ إلى -تعالى- وتوكُّلِه عليه, ودُعاءِ نوحٍ وأيوبَ ويونسَ وزكريا؛ فقد خَتَمَ اللهُ إخبارَه عن دعائهم بقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء:90]؛ فَسِرُّ إجابتِه لدعائهم أنهم: كانوا مُلازمِين للدعاء في حال الرَّخاء والشِّدة, بإخلاصٍ ويقينٍ وحضورِ قلب؛ ولذا أمَرَ اللهُ -تعالى- بالإخلاص له في الدعاء, فقال: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[غافر: 14]. فالإجابة مقرونةٌ بالإخلاص, لا فُرْقَةَ بينهما.
وللإخلاص أثر عظيم في مُضاعفة الأجر؛ قال الله -تعالى-: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:114]. فقد رتَّب الله -تعالى- على فعل هذه الأعمال بإخلاص الأجرَ العظيم؛ حيث نَكَّرَه وعَظَّمَه, مما يدل على كثرته.
ومِمَّا يدلُّ على مُضاعفة أجْرِ المُخلِص قوله -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:261]؛ إذْ دلَّ قولُه -تعالى-: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) على مُضاعفة الأجر بحسب ما قام بقلب المُتصدِّق المُنفِق؛ من الإيمانِ بالله, والتصديقِ بوعده, والإخلاصِ له, واحتسابِ الثواب.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "إنَّ تضعيفَ حَسَنَةِ العملِ إلى عشرةٍ مَجزومٌ به, وما زاد عليها جائِزٌ وقوعُه؛ بحسب الزيادةِ في الإخلاص, وصِدْقِ العزم, وحضورِ القلب, وتَعَدِّي النَّفع".
وقال -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)[البقرة:245]، والقَرْضُ الحَسَن: هو الحلال, المقصود به وجه الله -تعالى-؛ فرتَّب الله مضاعفته الأجور على حُسْنِ القرض, ونِيَّةِ المُقرِض؛ بل إنَّ الله -تعالى- يُضاعفه له أضعافاً كثيرة, فنَكَّر الأضعافَ وكثَّرها, فلا حدَّ لها, ولا حصر, مما يدل على أثر الإخلاص في المُضاعفة.
عباد الله: التوبةُ لا تكون مَقبولةً عند الله -تعالى- حتى تكون خالصةً لله, فقد يُقلِع العبدُ عن المعصية خوفاً على نفسه, أو حِفْظاً لماله, أو إبقاءً على جاهه, ونحو ذلك. والإخلاصُ له أثر جَلِيٌّ في صحة التوبة, وقبولِها عند الله -تعالى-, ويدل عليه قوله -تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور:31]. قال السعدي -رحمه الله-: "فيه الحثُّ على الإخلاص بالتوبة في قوله: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ"؛ أي: لا لِمَقْصِدٍ غير وجهه؛ من سلامةٍ من آفات الدنيا، أو رياءٍ وسُمعَة، أو نحو ذلك من المقاصِدِ الفاسدة"؛ فينبغي أن يكون الباعِثُ على التوبة ابتغاءَ رضوانِ الله ومغفرتِه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: بالإخلاص لله -تعالى-, وقَصْدِ الأجرِ والثوابِ منه -تعالى-؛ يُدرِك المسلِمُ الأجرَ - وإنْ لم يَعْمَل, وهذا من أعظم آثار الإخلاص في العمل؛ لأنَّ المُعَوَّل عليه عند الله ما قام بقلب المؤمن. قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء:100].
نزلت هذه الآية في رَجُلٍ من خُزاعة, لمَّا أُمِروا بالهجرة كان مَرِيضاً, فأمَرَ أهلَه أنْ يَفْرُشوا له على سريره, ويحملوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ففعلوا, فأتاه الموتُ وهو بالتَّنعِيم, فنزلت هذه الآية. فهذا الرَّجلُ أراد الهجرةَ, وبادر إليها, ولكن حال الموتُ دون تحقيقِ مُرادِه, فحصل له أجْرُ المُهاجِرِ الذي أدرك مَقصودَه؛ لأنه نوى وجَزَم, وشَرَع في العمل, فمِنْ رحمة الله به وبأمثالِه أنْ أعطاهم أجْرَهم كاملاً, ولو لم يُكمِلوا العمل.
ومما يدل على عِظَمِ النية الصالحة, وأثرِها في تحصيل أجرِ العملِ كاملاً, ما جاء عن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-؛ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِى عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ: فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً"(رواه البخاري ومسلم).
قال ابن رجب -رحمه الله-: "المراد بالهَمِّ هنا: هو العَزْمُ المُصَمَّم الذي يوجد معه الحِرْصُ على العمل, لا مُجرَّدُ الخَطْرَةِ التي تَخْطُر, ثم تنفسِخُ من غير عزمٍ ولا تصميم".
والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا, وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: "وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؛ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ"(رواه البخاري). وفي رواية لمسلم: "إِلاَّ شَرِكُوكُمْ فِي الأَجْرِ"، قال ابن حجر -رحمه الله-: "فيه أنَّ المرءَ يبلغ بِنِيَّته أجرَ العاملِ؛ إذا مَنَعَه العُذرُ عن العمل".
ويشهد له أيضاً: قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا؛ فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ. وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالاً؛ فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ؛ فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ. وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا؛ فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ عِلْمًا, وَلاَ مَالاً؛ فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ؛ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ"(رواه ابن ماجه).
قال ابن رجب -رحمه الله-: "ومتى اقْتَرَنَ بالنِّية قَولٌ أو سَعْيٌ؛ تأكَّدَ الجزاءُ, والْتَحَقَ صاحِبُه بالعامِل. وقد حُمِلَ قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ" على استوائهما في أصلِ أجرِ العمل, دون مضاعفته, فالمضاعفةُ يختصُّ بها مَنْ عَمِلَ العملَ دون مَنْ نَواه ولم يَعملْه".
وصلوا وسلموا....
التعليقات