عناصر الخطبة
1/عِظَم حقوق الجار 2/حد الجوار وأنواعه 3/الإحسان إلى الجار وكفّ الأذى عنه 4/أهم حقوق الجار على جاره 5/أقسام الجيران 6/خطورة الإساءة إلى الجار 7/من الهدي النبوي في معالجة إساءة الجار.اقتباس
لا شك أن الجار له حقوق كثيرة، فمن أهم هذه الحقوق: رد السلام وإجابة الدعوة، وكف الأذى، وإن كانت هذه من الحقوق العامة بين المسلمين، إلاَّ أنها تتأكد في حق الجيران؛ لما لها من آثار طيبة في إشاعة الألفة والمودة.
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد أوجب الإسلام التعاونَ بين الناس وحرَّم الأذى والعدوان، وأقام العلائقَ بين الخلائقِ على الحب والإخاء والتراحم والوفاء، ومن جملة تلك الحقوق العظيمة حقوق الجار التي أمر الله -تعالى- بها، وأمر بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وحذر من إيذائه.
واختلف العلماء في حد الجوار على أقوال عدة، وكل ما جاء تحديده عنه -صلى الله عليه وسلم- بأربعين داراً من كل جانبٍ ضعيف لا يصح، والظاهر أن الصواب تحديده بالعرف، أي: ما تعارف عليه الناس أنه جار فهو جار.
وبعض الناس يظن أن الجار هو فقط من جاوره في السكن، وهذا نوع من أعظم أنواع الجوار، وهناك أنواع أخرى للجوار؛ كالجار في العمل، والسوق، والمزرعة، ومقعد الدراسة، وغير ذلك من صور الجوار.
عباد الله: جاء الأمر بالإحسان إلى الجار في قوله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)[النساء: 36].
ولِعِظَمِ حق الجار على جاره ظن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الجار سيرث جاره؛ لكثرة وصايا جبريل -عليه السلام- بالجار، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ"(رواه البخاري ومسلم).
وكفُّ الأذى عن الجار من علامات الإيمان؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ؛ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ"(رواه البخاري).
وإيذاء الجار ينفي عن المرء كمال الإيمان، ويُنقِص من إيمانه بقدر إيذائه لجاره، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ". قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَه" أي: غوائلَه وشرَّه وظُلمَه.(رواه البخاري). وعند مسلم: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ"؛ أي: لا يدخل الجنة حتى يُحاسب، ويُقتصَّ منه لجاره.
والإحسان إلى الجار من مقاييس الخيرية عند الله -تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ"(صحيح -رواه الترمذي).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم؛ في تعظيم حرمة الجار-: "لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشَرَةِ نِسْوَةٍ خَيْرٌ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، وَلَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ"(صحيح -رواه أحمد في "المسند"). فالذي ضاعف هذا الجُرم هو حرمة الجار.
والإحسان إلى الجار مما يُدخل الجنة؛ عند قلة الطاعات، والإساءة إلى الجار ممن أسباب حرق الحسنات وجلب السيئات، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا؛ غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: "هِيَ فِي النَّارِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: "هِيَ فِي الْجَنَّةِ"(صحيح -رواه أحمد في "المسند").
وكما أن الإحسان إلى الجار من علامات الإيمان؛ فإن الإساءة إليه من علامات انعدام الإيمان أو نقصه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ؛ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ"(صحيح -رواه البيهقي، والطبراني في "الكبير").
أيها الإخوة الكرام: لا شك أن الجار له حقوق كثيرة، فمن أهم هذه الحقوق: رد السلام وإجابة الدعوة، وكف الأذى، وإن كانت هذه من الحقوق العامة بين المسلمين، إلاَّ أنها تتأكد في حق الجيران؛ لما لها من آثار طيبة في إشاعة الألفة والمودة.
ومن الأهمية بمكان؛ تحمُّل أذى الجار؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاَثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلاَثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ"؛ وذكر في الثلاثة الذين يحبهم: "رَجُلٌ لَهُ جَارٌ يُؤْذِيهِ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ وَيَحْتَسِبُهُ حَتَّى يَكْفِيَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِمَوْتٍ أَوْ حَيَاةٍ"(صحيح -رواه أحمد في "المسند").
ومن حقوق الجار: تفقُّده وقضاء حوائجه؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ"(حسن -رواه البخاري في "الأدب المفرد" والطبراني في "الكبير"). وكان الصالحون يتفقدون جيرانهم، ويسعون في قضاء حوائجهم، فقد كانت الهدية تأتي الرجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيبعث بها إلى جاره، ثم تدور على أكثر من عشرة دور حتى ترجع إلى الأول.
ومن حقوق الجار: ستره وصيانة عرضه: فبحكم الجوار قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره، فينبغي أن يوطّن نفسه على ستر جاره، فإن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة.
وكان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران، قال بعضهم:
ما ضر جاري إذْ أُجاوِره *** ألاَّ يكون لبيته سترُ
أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي الخِدرُ
ومن مجال الإحسان إلى الجار: التودد إليه بالهدية، والقول اللطيف؛ ولهذا أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر -رضي الله عنه- بقوله: "يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً؛ فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ"(رواه مسلم).
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- - قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: "إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا"(رواه البخاري). قال ابن حجر -رحمه الله-: "والحكمة في ذلك: أن الجار الأقرب يرى ما يدخل بيتَ جارِه من هدية وغيرها، فيتشوَّف لها، بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة".
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
عباد الله: ومن جملة حقوق الجار: أن يَبْدَأه بالسلام، ويعوده في المرض، ويُعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنأه في الفرح، ويُظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته، ولا يطلع من السطح إلى عورته، ولا يُضايقه في موقف المركبة، ولا يضيق طريقه إلى الدار، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف له من عوراته، ويسعفه إذا نابته نائبة، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يسمع عليه كلاماً، ويغضُّ بصره عن حرمته، ولا يديم النظر إلى خادمته، ويتلطف لولده في كلمته، ويُرشده إلى ما يحتاجه من أمر دينه ودنياه. قال عمر -رضي الله عنه-: "من حق الجار: أن تبسط إليه معروفك، وتكف عنه أذاك".
وقد اعتنى الإسلام بحق الجار وإن لم يكن صالحاً، ومن حقوقه: إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وقد اهتم السلف الصالح بحقوق الجار الذمي؛ فعن مجاهد قال: كنتُ عند عبدِ الله بن عمرٍو -وغلامه يسلخ شاة- فقال: يا غلام! إذا فرغتَ فابدأ بجارنا اليهودي. فقال رجل من القوم: آليهودي أصلحك الله؟! قال: إني سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوصي بالجار، حتى خشينا أو رؤينا أنه سيورثه"(صحيح: رواه البخاري في "الأدب المفرد"). وكان الحسن البصري -رحمه الله- لا يرى بأساً أن تُطعم جارك اليهودي والنصراني من أضحيتك.
والجيران ثلاثة: الجار المشرك: له حق واحد، وهو حق الجوار. والجار المسلم: له حقان، حق الجوار، وحق الإسلام. والجار المسلم ذو الرحم: له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم.
ومن علامات الساعة: الإساءة إلى الجار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ، وَالتَّفَاحُشُ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَسُوءُ الْمُجَاوَرَةِ"(صحيح -رواه أحمد في "المسند"). وقد وقع ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فنرى الفساد والتقاطع، وسوء الجوار ظاهراً بين الناس، وحل التباغض والتنافر محل المحبة والصلة والمودة، حتى أن الجار لا يعرف جاره، وقد يُبتلى بالمصائب فلا يعزيه، أو يموت دون أن يشيعه.
أيها المسلمون: تعددت مظاهر الإساءة للجار في زماننا، ومن ذلك: التلصص عليه، وتتبع عوراته، وسوء الظن به، وإيذاؤه بالكلام البذيء والسباب والشتم، وإزعاجه بالموسيقى الصاخبة وقت الراحة والهدوء، وتعطيل مصالح الجيران؛ كغلق الطريق المشاع بين جميع السكان والجيران بالسيارة وغيرها، وإلقاء الفضلات والمهملات أمام منزله، وغير ذلك.
ومن الهدي النبوي في معالجة إساءة الجار: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: "اذْهَبْ فَاصْبِرْ". فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، فَقَالَ: "اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ". فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ، وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لاَ تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ.(رواه أبو داود، والحديث حسن صحيح).
فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- المجتمع كله يُشارك في علاج المشكلة؛ لأن قضايا الجيران والجوار قضايا اجتماعية، فمن الأهمية بمكان تعاون الجميع للإصلاح بين الجيران.
ومن سعادة المرء الجار الصالح: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ: الْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ"(صحيح -رواه البخاري في "الأدب المفرد"؛ وابن حبان في "صحيحه").
قال علي -رضي الله عنه-: "الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق".
اطلبْ لنفسك جيراناً تُجاورُهُمْ *** لا تَصلُحُ الدَّارُ حتى يَصْلُحَ الجارُ
التعليقات