عناصر الخطبة
1/داء الفراغ وبعض أضراره ومفاسده 2/حرص الإسلام على حسن استغلال أوقات الفراغ 3/بعض الوسائل المفيدة لملء الفراغ 4/بعض مشاكل الشباب في الإجازة الصيفية وكيفية علاج ذلك 5/أهمية الأمن وضرورة الحفاظ عليهاقتباس
الفراغ وسيلة من وسائل إبليس يوسوس بها للإنسان، فيثير فيه كوامن الغريزة، ويُلهبها فتحرقه، إذ أن وفرة الوقت دون عمل أيًا كان يوقع صاحبه في أسر الوساوس الشيطانية، والهواجس النفسية الخطيرة. الفراغ داء قتّال للفكر والعقل والطاقات الجسمية، فـ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
عباد الله: لقد دارَ الزمان دورتَه، وأقبل الصيف بحر نهاره الطويل، وليله القصير، وانتهت الامتحانات وبدأت الإجازة الصيفية ومع هذه البداية تتعالى الصيحات محذرة من أضرار الفراغ على النشء، وما قد يسببه لهم من جنوح وانحراف، وقتُ الفراغ باتساعه الخطير الذي أفرزته الحضارة المعاصرة غدا خطرًا وعبئاً كبيرًا على حركة المجتمع، وهو في العصر الحاضر يتجاوز فراغ الوقت إلى فراغ النفس، وفراغ القلب، وفراغ القيم والمبادئ، وفراغ الأهداف الجادة.
لقد نشأت مشكلة الفراغ عن انعدام الهدف من الحياة، فليست مشكلة الفراغ أصيلة نابعة من فطرة الإنسان، وإنما هي مشكلة طارئة نابعة من جنس الحضارة المعاصرة.
الفراغ يجعل الإنسان يشعر بأنه لا فائدة له، وأنه عضو مشلول في المجتمع لا ينتج ولا يفيد، فالإنسان الفارغ لا يترقب شيئًا تهفو إليه نفسه كنتيجة لعمله، فهو بلا هدف في الحياة، وأيُّ حياة هذه التي لا هدف لها.
الفراغ وسيلة من وسائل إبليس يوسوس بها للإنسان، فيثير فيه كوامن الغريزة، ويُلهبها فتحرقه، إذ أن وفرة الوقت دون عمل أيًا كان يوقع صاحبه في أسر الوساوس الشيطانية، والهواجس النفسية الخطيرة.
الفراغ داء قتّال للفكر والعقل والطاقات الجسمية، فالنفس لا بد لها من حركة وعمل، فإذا كانت فارغة من ذلك تبلَّد الفكر، وثقل العقل، وضعفت حركة النفس، ويصبح الفراغ -عباد الله- مشكلة حقيقية ظاهرة في الإجازة الصيفية، حيث يجد الشباب مساحة من الوقت كثيرة واسعة، ولا يجد ما يملؤها به من جادّ العمل وجيِّده، وقد يكون هذا الفراغ قاتلاً، بل يرى كثير من الباحثين أن وقت الفراغ عامل رئيس في الانحرافات المختلفة، ففشو المخدرات مثلاً واستفحالها في كثير من المجتمعات المسلمة ناتج عن غياب السيطرة الرشيدة على مشكلة وقت الفراغ.
من السهل أن ينقاد شاب يعيش في فراغ ليقع فريسة لتأثير الآخرين، ومن قرأ سير أولئك الذين وقعوا فريسة أصحاب المذاهب المنحلة، والأفكار الفاسدة، كانوا من الشباب الذين يعانون من الفراغ، وشهد علماء الاجتماع أن نسبة الجرائم والمشكلات الخُلُقية تتناسب طردًا مع زيادة الفراغ في أي زمان ومكان، ولذا ينتشر بين الشباب ظاهرة إشغال وقت الفراغ، بعيدًا عن المراقبة والإشراف والتوجيه، بالتجول في الشوارع والأسواق، دون مسوّغ نافع، فيمارسون هدر الوقت وتتبع العورات، وكذا الجلوس في المقاهي وعلى جوانب الطرقات، مع إفساح المجال للعنصر الفاسد أن يؤدي دوره، ويصولَ ويجولَ، يشجِّعهم على المفاسد، يجرُّهم إلى العادات الضارة، إنها قد تكون ساعات قاتلة، بل هي قاتلة.
وقد يقضي الشاب جلَّ وقته مع الفضائيات، فتنقطع علاقاته العاطفية والاجتماعية، وسيعاني من الصراع مع ذاته أولاً، ثم مع أهله ومجتمعه، وسيشعر بالنقص والكبت والحرمان، ثم يصبح مصدر إزعاج بخروجه على المألوف، وانعدام التزامه وجهله بحقوقه وحقوق الآخرين، ومن ثم الهروب إلى الممنوع.
وبهذا نعلم أن من حق الآباء والمربين إذن: أن يحذروا آفات الفراغ، وأن يحصنوا النفوس من شرورها.
ومن المؤسف حقًا: أن الناس ينتبهون نوعاً ما إلى إهدار المال، ويعرفون مدى خسارته، بينما لا يدركون معاني إهدار الوقت، وما أصدق كلمة الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما قال لعامله: "إن هذه الأيدي لا بد أن تُشغل بطاعة الله قبل أن تشغلك بمعصيته".
الفراغ -عباد الله- لا يبقى فراغًا أبدًا، فلا بد أن يُملأ بخير أو شر، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، فطوبى لمن ملأه بالخير والصلاح.
إن السيطرة الرشيدة على وقت الفراغ وتصريفه في قنواته المناسبة يضمن للأمة ارتقاءها بطاقات أبنائها، ويكسبها مناعة ولقاحًا في وجه السموم والأوبئة الفكرية، ويتيح للأمة القدرة على سد منافذ الانحراف السلوكي.
ولهذا حرص الإسلام على شغل أوقات الفراغ بعد الواجبات بالعمل النافع المثمر، بحيث لا يجد الإنسان الفراغ الذي يشكو منه، ويحتاج في ملئه إلى تبديد الطاقة أو الانحراف، بل إن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ، ذلك أن الوقت والعمر في حياة المسلم ملك لله، والتربية الإسلامية تعوّد الناشئ ليرى كل ساعات الحياة ولحظاتها أمانة في عنقه، يشغلها بالخير.
دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوة صريحة إلى أن نستفيد من ساعات فراغنا قبل أن تمضي، فقال: "اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك" [أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-].
تأمل هذا العمق التربوي من معلم البشرية نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في توجيه بليغ يجعل الفراغ موسمًا للاستثمار، وتجارة رابحة يدخر فيها المسلم من الصحة ليوم السقم، ومن الشباب للهرم، ومن الغنى للفقر.
إنها دعوة للإفادة من ساعات الفراغ قبل أن تمضي فلا تعود، اغتنمها قبل حلول مرض مقعِد، أو كبر مفنِّد، أو بلاء مشغل، ولقد صدَّق فعلُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولَه في الحث على الاستفادة من الوقت، فلم يكن في حياته ثمة فراغ، بل كيف يُتصور الفراغ في حياته صلى الله عليه وسلم وهو يتلقى عن ربه قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ) [الشرح: 7 - 8].
هذا خطاب لكل مسلم، أي: لا تبق -أيها المسلم- فارغًا أبدًا، فإذا فرغت من عمل فابدأ في عمل آخر، إذا فرغت من عمل دينك فاشتغل بعمل دنياك، وإذا فرغت من عمل دنياك فاشتغل بعمل دينك، وإذا فرغت من حاجة بدنك فخذ غذاءً لقلبك أو متعة لروحك، وإذا فرغت من شأن نفسك فاقبل على شأن أسرتك، ثم على شأن مجتمعك وأمتك، وهكذا لا فراغ أبدًا إلا استجمام، وتأهب للعمل، تقول عائشة -رضي الله عنها- عن الرسول الأسوة -صلى الله عليه وسلم-: "ولا رُئِيَ قط فارغًا في بيته".
ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إني أكره أن أرى الرجل فارغًا لا في عمل دنيا ولا آخرة".
ورأى شريح القاضي جيرانًا له يجولون، فقال: "ما لكم؟ فقالوا: فرغنا اليوم، فقال شريح: وبهذا أمر الفارغ؟"
أيها المسلمون: كلنا يعلم أن الفراغ قضية واقعة لا نستطيع إنكارها، إلا أننا نستطيع بالتخطيط السليم التخلص من الملل، وتوجيه الرغبات الكامنة، وإحياء الملكات المخبوءة، والتنمية الشخصية للملكات والإمكانات، وتعزيز العادات الطيبة، وتعليمهم تحمل المسؤولية ضمن برامج هادفة، ووسائل متنوعة، تجمع بين التوجيه والإرشاد، والترويح والاستجمام.
وإذا نهض بهذا الواجب أهل التربية والاجتماع والإصلاح شكلوا واحة تجتذب الشباب إليها عبر ما يطرحونه من برامج وأنشطة تلبي رغبات وطموح أبنائها، حتى لا يكونوا عرضة للآثار السلبية للصيف وفراغه، وإهدار طاقات الأمة الفاعلة، يقول علي -رضي الله عنه-: "من أمضى يومًا في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد بناه، أو حمد حصله، أو خير سمعه، أو علم اقتبسه فقد عق يومه".
وهكذا -عباد الله- لا توجد هذه المشكلة في حياة المسلم، لا يمكن أن يوجد فراغ في قلب عامر بذكر الله، ولا في روح متعبِّدة لله.
أيها المسلمون: إن خطورة الفراغ وثقل الإجازة يلقي بالمسؤولية والتبعة على مؤسساتنا التعليمية والاجتماعية والخدمية، وعلى الآباء والمربين، في توظيف أوقات الفراغ، ولوضع برامج تنسجم وتطلعات الأمة في استثمار طاقات الأبناء، وتستوعبهم في محاضنها.
من الوسائل المفيدة لملء الفراغ: القراءة الهادفة، حضور المحاضرات والندوات، أداء حقوق الوالدين، ومزيد برهم، صلة الرحم، الاشتراك في الأنشطة الاجتماعية المفيدة، تعلم حرفةٍ مهنية، الإحسان إلى الضعفاء والمساكين والملهوفين والأيتام، الاجتهاد في طلب العلم، سعي للإصلاح بين الناس، زيارة الحرمين، أداء العمرة، كذا الدروس العلمية والدورات في المساجد نعمة يجب الاستفادة منها واستثمارها، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدم بعض مجالات النشاط التطوعي، فيقول: "تبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة" [أخرجه الترمذي من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-].
أيها المسلمون: مشكلة أخرى من مشاكل الإجازة الصيفية: السهر طوال الليل: كان الليل في زمن مضى ميدانَ سَبْق، ومطيةَ مجد، ومضمار صدق وجد، لا ترى فيه إلا مصلياً أو باكياً، أو تالياً أو داعياً.
وكان السلف -رحمهم الله تعالى- يرونه أعظم مطية إلى الجنة العلية.
أما اليوم، فقد أصبح الليل لدى كثير من الناس لحظات طيش، وضلال عيش، وصار السهر اليوم في الأعم الأغلب منبعًا للعار، ومجمعًا للأخطار، وطريقًا للمهالك والمضار، ومسرحًا للمواد المتلفة، والبرامج المحرمة، بعد أن شحنه الشيطان بأوكار حزبه، وأفكار جنده.
سهرٌ على الجيَف، وسمرٌ على المعاطب والتلف، سهرٌ دخيل وغريب، وسمر مخيف مريب، مرتع لكل فاسق وموبوء، ومجلبة لكل شر وسوء، موارد مقتٍ وغضب، وسخط وعتب، تمرض القلوب، وتولد الجرأة على الذنوب، وما ذاك إلا نتاج إرضاع أجيال الأمة من لبان الحياة الغربية، وإطعامهم من ثمار شجرتها المذمومة، تلك الحياة التي من أعظم صفاتها وسماتها البعد عن الله -تعالى-، والتمرد على القيم الروحية، والانقياد للحياة الشهوانية البهيمية، وهو السم الذي سقتها إياه العلمانية بكفر أفكارها، وفجور آرائها.
فواجب على أمة الإسلام بجميع فئاتها وطبقاتها، وخاصة ولاة أمرها حماية أجيالها من عنفوان بركان هائج لا يأتي على شيء إلا دمره وأفسده.
أيها المسلمون: عند إجازة الطلاب يصبح السهر مشكلة ومعضلة، وآفة مستشرية مضللة، يلغي أكثر السمّار فيها الوجود، ويهجرون الرقود، مروجًا في مروج العطلة، وولوجًا في رهوج المعصية، وما علموا أن أيام الصيف ما هي إلا طيف وضيف، أيامٌ ثم تنتهي، وليالٍ ثم تنقضي، فطوبى لعبد أخذ من حر لهيبها، ولفح سمومها، ويحموم ظلها، وحميم مائها، عظة رادعة، وذكرى وازعة، تكفه عن قضاء ليله في معصية الخالق، وقتل ساعاته عند هدامة الفضائل، ومفسدة الأجيال والأسر والعوائل.
وطوبى لعبد زمَّ نفسه عن غيها، وقضى وقته فيما فيه نفعها، بين حلقات قرآنية، أو دروس علمية، أو دورات مهنية، وتنمية قدرات فكرية وعقلية، أو فسحة مباحة تقية نقية.
والسهر -يا عباد الله- سببٌ رئيس لكثير من الجرائم الأخلاقية، والمشاكل الاجتماعية، والحوادث المرورية، والزعازع الأمنية.
أيها المسلمون: لقد استمرأ كثير من الناس السهر المحرم الذي أدى بأكثرهم إلى تضييع صلاة الفجر، حتى خروجها عن وقتها، وصار الذين يشهدونها في جماعة المسلمين في المساجد أفراداً معدودين محدودين، وأصبح هذا السهر أمراً عادياً وطبعياً لا تنكره أكثر القلوب، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الرغائب لأتوهما ولو حبوًا" [متفق عليه].
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق" [أخرجه مسلم].
فاتق الله -يا عبد الله- وإياك والسمر المذموم، والسهر المشؤوم، ولا تكن من الغافلين: (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَـانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ) [الأنعام: 68].
واحذر أن تطوي الليالي عمرك طيًا طيًا، وأنت في لهوك لا تزداد إلا غيًا.
واعلم أن اللحظات والخطرات، واللفظات والخطوات كلها مكشوفة لا يخفى على الله منها شيء، واصغ السمع، لقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله -تعالى- فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة" [أخرجه أبو داود].
أيها المسلمون: ساعات الأسحار ساعات توبة واستغفار، وتضرع وانكسار، يقول عليه الصلاة والسلام: "ينـزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟" [متفق عليه].
أفيليق بمسلم أن يقضي هذه الأوقات الجليلة، مع المزامير والطنابير، وما يهيج لواعِج الغرام، ويحرك سواكن الوجد والهيام ؟!
أيها الأولياء والآباء: إنكم مأمورون بكف صبيانكم عن الخروج إذا أقبل جنح الليل بقوله صلى الله عليه وسلم: "احبسوا صبيانكم حتى تذهب فوعة العشاء، فإنها ساعة تخترق فيها الشياطين" [أخرجه الحاكم].
وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم" [متفق عليه].
أيها المسلمون: وإذا كان لشياطين الجن انتشارًا وانبعاثًا في تلك الساعة اقتضى كفَّ الصبيان وحبسهم، فإن لشياطين الإنس في هذا الزمان انتشارًا وخطفة وانبعاثًا طوال ساعات الليل، يحاولون جر الشباب والأولاد وفلذات الأكباد إلى أوضار الانحراف والفساد، عبر مغريات وملهيات لا يحصرها حاصر، مما يوجب اليقظة والحيطة، فكونوا على حذر، فقد نجى أخو الحذر، وكفوا أولادكم عن الضياع، فإنهم أغمار أغرار لا حنكة لهم ولا تجربة، وكونوا حراسًا أمناء، وأولياء أوفياء، وفطناء حكماء، وإياكم والإهمال، فإن نتائجه ضر، وثماره مر، وعاقبته خسر، ومغبته نكر: (إِنَّ هَـذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً) [المزمل: 19].
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الله -جل وتعالى- جعل مكة حرماً آمناً، لا ينفَّر صيدُه، ولا يختلى خلاه، ولا يعضَدُ شوكُه، وحين تبلغُ الأحداث بلدَ الله الحرام وبيتَه الأمين الذي جعله الله مثابةً للنّاس وأمنًا، فالأمرُ أشدّ وأنكى.
إنَّ ما حدث في مكّةَ من حوادثَ مؤلمةٍ، أمرٌ لا يتردّد الإنسانُ لحظةً في تحريمِه، وليسَ له ما يبرّره شرعًا ولا عقلا، قال الله -تعالى-: (أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا) [فاطر: 8].
إنَّ من يجيز مجرّدَ إرادةِ الإفساد في الحرَم تُعَدُّ معصيَة، فكيف بالإفسادِ نفسه؟!
قال الله -تعالى-: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].
أيها المسلمون: إنَّ هذه الأحداثَ في مهبَط الوحي، ومنبعِ الرسالة مؤلِمةٌ مزعجة، ومنذرة بخطرٍ عظيم محدقٍ بالأمّة، لا يعلم عاقبتَها إلا الله، ولا يستفيد منها إلا أعداءُ الدين وأعداء الأمّة.
فالأمن مطلبٌ شرعيّ، كما قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ * الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ) [قريش: 3 - 4].
والمحافظةُ على الأمن مسؤوليّة الجميع حكّامًا ومحكومين، رجالا ونساءً، كبارًا وصغارًا.
فبالأمن تعمّر المساجدُ، وتقام الصلوات، وتحفَظ الأعراض والأموال، وتؤمَّن السبُل، ويُنشَر الخير، وتُقام الحدود، وتنتشِر الدّعوة، وتُطبَّق الشريعة، وإذا اختلَّ الأمن كانت الفوضى.
لقد حفِظ الدين الحقوقَ لأهلها، وحفظ للمسلمين أموالهم وأعراضَهم وأبدانهم، وحرّم انتهاكَها، وفي خطبة الوداع يؤصِّل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا المفهومَ العظيم بقوله: "إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا" فأعادها مراراً، ثم رفَع رأسَه، فقال: "اللهمَّ هل بلّغت؟ اللهمَّ هل بلَّغت؟".
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فو الذي نفسي بيده، إنّها لوصيّته إلى أمّته: "فليبلّغ الشاهدُ الغائب، لا ترجِعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقابَ بعض" [أخرجه البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم: "كلّ المسلم على المسلِم حرام؛ دمه ومالُه وعرضه" [أخرجه مسلم].
فنسأل الله -تعالى- الأمن والأمان في بلادنا وفي جميع بلاد المسلمين.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا ...
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء ...
التعليقات