اقتباس
انطلق حسان وجنوده لمحاربة الكاهنة والبربر، ووصلت الأخبار إلى الكاهنة، فدعت قبائل البربر لقتال المسلمين، فخرجت من جبال "أوراس" أعداد مهولة من البربر، والتقى الطرفان عند نهر "نيني" بوادي "مكناسة" واقتتلوا قتالاً شديداً، استغل فيه البربر تفوقهم العددي الكبير ضد المسلمين، فوقعت الهزيمة-بقدر الله عز وجل-على المسلمين، وذلك في سنة 78هـ، وانحاز المسلمون إلى القيروان، وسيطرت الكاهنة على معظم إفريقية، ولكنَّها لم تواصل القتال حتى القيروان كما فعل "كسيلة" من قبل..
في تاريخ أمَّتنا الإسلامية نوعان من الرجال الأبطال، قدمَّوا أعظم الخدمات لدين الإسلام وقضوا حياتهم كلَّها من أجل غاية عظمى لم يعرفوا سواها، ألا وهي مرضاة الله-عز وجل-بالجهاد في سبيله:
النوع الأول: رجالٌ عرفناهم، وانتشرت أخبارهم، أو حتى عرفنا أسماءهم.
النوع الثاني: من الرجال من لم نعرف عنهم شيئاً، ولا يعلم أبناء المسلمين والأجيال المتعاقبة عنهم أيَّ شيء، ولا حتى أسماءهم، هذا على الرغم من أن بعض هؤلاء الأبطال قد قدموا لدين الإسلام أضعاف أضعاف ما قدم غيرهم من المشاهير، الذين نالوا عاجل بشراهم في الدنيا؛ بارتفاع ذكرهم، والآخرون ادخر الله-عزَّ وجل-لهم-وللأولين أيضاً-عظيم الثواب في الآخرة.
وبطلنا الذي نريد أن نتحدث عنه، واحدٌ من هؤلاء الذين كان لهم الفضل الكبير بعد الله-عز وجل-في تأسيس دولة الإسلام في بقعة عزيزة وغالية من الأمة وهي بلاد المغرب العربي.
بطل مضى وبطل قام:
تعاقب على قيادة حركة الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي أبطالٌ على أعلى مستوى من الإيمان والورع وحسن القيادة، والفكر الاستراتيجي الفذ، بدءاً من الصَّحابي الجليل عمرو بن العاص-رضي الله عنه-مروراً بعبدالله بن أبي السرح، فمعاوية بن حديج، فعقبة بن نافع، فأبي المهاجر بن دينار، فزهير بن قيس البلوي، كلُّ هؤلاء الأبطال كان لهم أيادٍ ناصعةٍ في نشر الإسلام بالشمال الإفريقي؛ لذلك فلا عجب أن اسْتُشهِد معظمهم في ساحات الجهاد المقدَّس، وأخرجتْ لنا أمة الإسلام ثمَة أبطالٍ يتعاقبون، وكلَّما مضى بطل قام بطل آخر، وهذا ما حدث بالفعل على الجبهة المغربية.
عندما استشهد عقبة بن نافع، وأبو المهاجر في معركة (تهوذة) ضد البربر بقيادة المرتد "كسيلة"؛ تولى الراية بعدهما "زهير بن قيس"، وكانت الأوضاع قد تردت بشدة في الشمال الإفريقي، وسقطت القيروان بيد كسيلة، وانحاز المسلمون إلى (برقة)، واستطاع زهير أن يجمع فلول المسلمين ويوحِّد رايتهم، ويقاتل كسيلةَ، وينتصر عليه، ويقتله-انتقاماً من أفعاله وردته عن الإسلام-، ولكنَّ زهيراً استُشْهِد في قتاله ضد الروم، ويتولى بعده بطلنا العظيم.
الشيخ الأمين:
انشغل المسلمون بأحداثٍ داخليةٍ خطيرةٍ عصفتْ باستقرار المسلمين، وأثَّرتْ على حركة الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي، فلمَّا استقرتِ الأوضاع، واستقر في الخلافة عبد الملك بن مروان، جعل أولى مهامِّه: ندب الناس للجهاد بالشمال الإفريقي، والبحث عن قيادة جديدةٍ للجبهة المغربية، وكان الرجل المختار هو: حسان بن النُّعمان الأزدي، الملقَّب بالشيخ الأمين؛ لمكانته المرموقة بين المسلمين، وهو من كبار التابعين، وله أحاديثُ في الصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه.
يرجع أصل حسان بن النعمان إلى الغساسنة (ملوك الشام) الذين كانوا موالين للروم قبل الفتح الإسلامي، لذلك فقد نشأ حسَّان في بيتٍ عريقٍ في القيادة والحكم؛ مما رشَّحه-دائماً-للمهام الجسيمة، وجعله-دائماً-مطاعاً مهاباً من النَّاس، وهي صفات ٌأساسيةٌ فيمن يتولى أيَّ قيادة.
استراتيجية الجهاد الجديدة:
عندما ندب (عبد الملك بن مروان) القائد حسَّان بن النعمان لقيادة الجهاد بالمغرب، اتبع سياسةً جديدةً في آلية عمل الفتح الإسلامي بالمغرب العربي؛ حيث أخذ في تقييم الوضع بصورةٍ عامةٍ في المغرب العربي، ووضع المسلمين بصورة خاصةٍ، ومدى انتشار الإسلام بين قبائل البربر، وأسباب ردة الكثير منهم، وعندما اجتمعت كافة المعلومات عند حسان؛ قرر اتِّباع سياسة جديدة في تثبيت وضع الإسلام والمسلمين بالمغرب، وهي قائمة على عدة نقاط، ومنها:
ضرب القيادات الرومية والبربرية حتى لا يجتمع إليهم الأعداء.
القضاء على نقاط القوة عند الروم؛ وذلك بالاستيلاء على أهم مدنهم وحصونهم.
استمالة قبائل البربر للإسلام، وبإسناد بعض المهام والقيادة لمسلمي البربر.
القيام بإصلاحات إدارية؛ لإعطاء الشَّكل الواضح لدولة الإسلام بالمغرب؛ لأن الشكل الحالي به الكثير من العشوائية والثغرات الواضحة.
معركة قرطاجة:
بعد ما أكمل حسَّان خطته، وأتمَّ استعداده، وحشد جنده وقوَّى جيشه، وصبَّ عبد الملك بن مروان أموالَ مصر لصالح الجهاد بالمغرب؛ تحرك حسَّان بجيشه الذي بلغ تعداده: (أربعين ألفاً)، حتى وصل إلى طرابلس المغرب، ومنها إلى القيروان، ولم يلق في الطريق مقاومةً تذكر، وجعل على قيادة أجنحة الجيش عدة أبطال؛ منهم: هلال بن ثروان اللواثي (وهو أولُّ بربريٍ مسلم تسند إليه قيادة)، وما كاد ينجز حسَّان استحضارات جيشه من كل الوجوه؛ حتى سأل عن أقوى وأحصن مدينة بالمغرب؛ فقيل له مدينة "قرطاجة" وهي إحدى عجائب الدنيا، ودرة روما والمدائن، وكانت شديدة التحصن، وبها جموع ضخمة من القوات الرومية، ولم يكن المسلمون قد حاربوها من قبل أو دخلوها.
نزل حسَّان بجيوشه على المدينة، وضربوا عليها حصاراً شديداً، واغتر الرُّوم بكثرتهم وحصانة مدينتهم؛ فخرجوا واشتبكوا مع المسلمين في معركةٍ كبيرةٍ وخذلهم شيطانهم الذي زين لهم القتال، فلمَّا ذاقوا حر سيوف المسلمين؛ ولَّوا مدبرين؛ فريق للأندلس، وفريق لصقلِّية، وتفرقوا شَذَرَ مَذَر، ودخل المسلمون المدينة؛ فوجدها حسَّان عظيمةَ المناعة، عاليةَ الأسوار؛ فقرر هدم الأسوار؛ حتى لا تصبح نقطة تجمُّعٍ للروم مرةً أخرى.
أظهرت معركة "قرطاجة" للقائد المحنَّك حسَّان بن النعمان: أن الروم لا زالوا على شيءٍ من القوة والكثرة في بقاع كثيرةٍ حولَ "قرطاجة" ولا تزال هناك نقاط حصينة صالحة لتجمع الروم مرةً أخرى؛ فقرر حسان في خطوة تكتيكيةٍ شديدةِ الذَّكاء، مواصلة القتال على البقاع الثانوية لتجمع الروم؛ فهجم على مدينة "صفورة"، و"بنزرت" وأوقع بالروم هزيمة شنيعة، ولم يترك حسان موضعاً يصلح لتجمع الروم إلا وهجم عليه وفتحه، وبالجملة؛ شتت قوات الروم، وفرق فلولهم، وهدم نقاطهم الحصينة، وقرر حسان العودة بجيشه إلى القيروان؛ ليصلح شأنه، ويداوي جراح جنوده، ويستجم قليلاً لمعاودة الجهاد، ولكن ضد البربر هذه المرة.
الكاهنة زعيمة البربر:
بعدما استراح حسان وجنوده من قتال الروم بـ "قرطاجة"، سأل عمَّن يقود قبائل البربر الوثنية بعد مقتل "كسيلة" فقيل له: امرأة اسمها "الكاهنة" بجبل أوراس، وسميت بهذا الاسم؛ لأنها كانت تتكهن ويأتيها الجن ببعض الأخبار، وكان لها ثلاثة أولاد ورثوا الرياسة في قبيلة "جراوة" البربرية، وكانت مهابة ومطاعة من البربر جميعاً، فاستبشر المسلمون بذلك، فعندما يكون القائد امرأة وأيضاً كاهنة، فلن يفلح أمرهم أبداً، ولكنْ حدث ما لم يكن في الحسبان.
انطلق حسان وجنوده لمحاربة الكاهنة والبربر، ووصلت الأخبار إلى الكاهنة، فدعت قبائل البربر لقتال المسلمين، فخرجت من جبال "أوراس" أعداد مهولة من البربر، والتقى الطرفان عند نهر "نيني" بوادي "مكناسة" واقتتلوا قتالاً شديداً، استغل فيه البربر تفوقهم العددي الكبير ضد المسلمين، فوقعت الهزيمة-بقدر-الله-عز وجل-على المسلمين، وذلك في سنة 78هـ، وانحاز المسلمون إلى القيروان، وسيطرت الكاهنة على معظم إفريقية، ولكنَّها لم تواصل القتال حتى القيروان كما فعل "كسيلة" من قبل.
استخلف حسان على القيروان (أبا صالح)، وعسكر هو وفرقة من جنوده عند منطقة متقدمة بين القيروان وإفريقية؛ ليكون ردءاً للمسلمين، وظل معسكراً فترةً طويلةً وصلت لخمس سنوات، وذلك انتظاراً للإمدادات القادمة من الشام؛ بناءً على أوامر الخليفة عبد الملك بن مروان.
عودة الرومان:
لم تكن هزيمة المسلمين في معركة نهر "نيني" لتخفى على الرومان المتربصين بالمسلمين في الشمال الإفريقي، خاصةً بعد سقوط درة تاجهم الإفريقي "قرطاجة"، وكان الإمبراطور الجديد للرومان "ليونتيوس" قد أهمه وأحزنه هذا السقوط، وبدأ منذ ولايته سنة 74 هـ في الإعداد لاستعادة "قرطاجة" مرةً أخرى، وبالفعل وصلت أخبار الهزيمة لروما، فأرسل "ليو" أسطولاً كبيراً إلى "قرطاجة" يقوده أمهر القادة الرومان وهو "يوحنا"، وهجم الأسطول على المدينة واستولى عليها، وفعلوا فظائع شنيعةً بالمسلمين هناك، حتى إنَّ "يوحنا" هذا الكلب الصليبي كان يقتل المسلمين بيده.
وبهذا السقوط، ومن قبلها الهزيمة عند جبال "أوراس"؛ تم انتقاص إفريقيا كلها على المسلمين، وخرجت من يدهم جملةً، ولم يبق في طاعتهم شبرٌ واحدٌ من الأرض مما يلي قابس غرباً، وتفاهم الروم والبربر فيما بينهما على أماكن النفوذ، فسيطر الروم على السهول الساحلية، وسيطر البربر على السهول الداخلية.
الكاهنة الحمقاء:
مكث حسَّان وجنوده معسكراً في المنطقة المسماة بقصور "حسَّان"-غرب تونس الآن-، منتظراً إمدادات أمير المؤمنين طيلة خمس سنوات. انشغل فيها المسلمون في العراق بالثورات والفتن الداخلية، خاصةً فتنة ابن الأشعث، التي استمرت عدة سنوات، واستهلكت كثيراً من قوى المسلمين التي هي حري أن تكون لخدمة الإسلام، وحركة الفتح الإسلامي.
لما رأت الكاهنة إبطاء المسلمين عنها، قالت للبربر: "إنَّ المسلمين إنمَّا يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضة، ونحن إنمَّا نريد منها المزارع والمراعي، فلا أرى لكم إلا خراب إفريقية كلَّها حتى ييأس منها المسلمون، فلا يكون لهم رجوعٌ إلى آخر الدهر". وبالطبع كان هذا رأي أحمق وخاطئ، يكشف مدى جهل الكاهنة وأمثالها من أعداء الإسلام بحقيقة الجهاد الإسلامي، وأهدافه، وغاياته، وأن الهدف الحقيقي هو إعلاء كلمة الله، ونشر الإسلام والتوحيد بين العالمين، وأن رسالة المجاهد لا تعرف دنيا ولا متاع، وكيف ذلك وقد باع نفسه-ابتداءً-لله-عز وجل-ورضي بالغربة والبعد عن الوطن والأهل والعيش، في ظل خيمةٍ مستصحباً سيفه، فهو قرينه ورفيقه، ونعم القرين!
انطلق البربر كالإعصار المدمر في كل أنحاء إفريقية، يقطعون الأشجار، ويهدمون الحصون، ويحرثون المزارع، فخربوا إفريقية تخريباً تامَّاً، ولم يكن في ربوع الأرض مثلها في الخيرات والعمران، حتى قيل إن إفريقية ظلاً واحداً-من طرابلس إلى طنجة-من اتصال العمران، فأدت هذه الخطوة الحمقاء من الكاهنة الخرقاء؛ بثورة كثير من أهل البلاد عليها، وهرب الكثير منهم إلى الأندلس، وجزائر البحر المتوسط، واستغاث كثير من قبائل البربر البرانس-بربر الحضر-بالمسلمين لرد عادية الكاهنة وأتباعها من البربر البتر (بربر الصحراء).
الضربة المزدوجة:
بعدما قضى عبد الملك بن مروان على الثورات الداخلية بالعراق، وجه كل اهتمامه للمغرب العربي، فوجه أموالاً وإمدادات كثيرة للقائد حسَّان بن النعمان، فوافته هذه الإمدادات في نفس وقت قدوم الكثير من أهل المغرب؛ يستغيثون من أفعال الكاهنة، فرحل حسان وجنوده في أواخر سنة(81هـ) لقتال الكاهنة وأتباعها البربر، الذين فقدوا معظم التعاطف والتأييد السابقين من أهل إفريقية، ولما سمعت الكاهنة بقدوم المسلمين؛ تحركت من قاعدتها بجبال الأوراس، مغرورةً بقوتها وكثرة من معها، وسابق انتصارها على المسلمين، ولكن خاب ظنُّها، وضل سعيها، وذاقت وبال أمرها، وانتصر المسلمون انتصاراً عظيماً، وقتلت الكاهنة في المعركة، وانتهى شرها للأبد، وبعدها أخلد البربر إلى الطاعة والسكون، ودخلوا في دين الله أفواجاً.
عاد حسان بجيشة للقيروان، ولكن ليس للسكون والراحة؛ بل للاستعداد لمعركة أخرى مع الروم؛ من أجل استعادة "قرطاجة"، وكان القائد "يوحنا" قد أصلح أسوار المدينة المنهدمة، وقوى تحصينها، واستعد لمنازلة المسلمين، فبدأ حسان هجومه على المدينة بتطهير جبال "زغوان" من بعض القلاع والحصون التي يسيطر عليها الروم والبربر، ثم حرك الأسطول الإسلامي للانقضاض على الأسطول البيزنطي، وأصبح "يوحنا" ورجاله محاصرين داخل المدينة، واشتبك مع المسلمين عدة مرات؛ ولكنه فشل في كسر الحصار، وتعرض لهزائم شنيعة؛ جعلته يجمع جنوده ويفر تحت جنح الظلام داخل سفن إلى القسطنطينية، واستعاد المسلمون "قرطاجة" وخرج الروم منها إلى الأبد.
بناء الدولة الإسلامية:
بعدما زال خطر الروم والبربر، واستقرت الأمور-تقريباً-بالشمال الإفريقي؛ شرع حسان بن النعمان في تأسيس دولة إسلامية على أسس متينة وراسخة، وهو-كما قلنا في بداية الحديث-من بيت ملك ورياسة، ولديه علوم القيادة وتأسيس الدول، فبدأ بتدوين الدواوين التي يكتب فيها اسم المسلمين وتعدادهم، ووظائفهم، وما يعطي كل واحد منهم من بيت المال، ونظَّم الخراج، ووضع الجزية على نصارى إفريقية، وأنشأ داراً لصناعة السفن والأسلحة اللازمة لمواصلة الجهاد.
قام حسان بعمل في منتهى الذكاء، وهو بناء مدينة جديدة في الطريق بين القيروان وقرطاجة؛ لتكون محرساً برِّياً، ومعسكراً للجند الإسلامي، وقت هجوم الأعداء من البحر، وكانت المدينة الجديدة-هي تونس الآن-، وحفر بها قناة تتصل بالبحر الأبيض، وأصبحت تونس بعد ذلك درة المغرب العربي.
عمل حسان على تجنيد البربر بأعدادٍ كبيرةٍ في الجيش الإسلامي؛ ليستفيد من طاقتهم وحماستهم في خدمة الإسلام، وليشعر البربر بدورهم، وأهمية وجودهم في قيام دولة الإسلام بالمغرب العربي، حتى أصبح في جيشه (اثنا عشر ألفاً) من البربر يدافعون عن الإسلام.
اهتم حسان ببناء المساجد في كل بقعة مفتوحة بالمغرب العربي، وأقام فيها القرَّاء والفقهاء؛ لتعليم البربر-حديثي العهد بالإسلام-القرآن والسُّنة، ونشر اللغة العربية بينهم، ثم قام حسان بضرب دنانير ونقود جديدة؛ بدلاً من دنانير الروم، التي كان يتعامل معها البربر؛ ليقطع أي أثر أو علاقة للروم بهذه البلاد، وقام بتقسيم الأراضي بين قبائل البربر؛ فعين لكل قبيلة خطتها، وألزم كل قبيلة زراعة أرضها، ورد زكاة الزرع لبيت المال.
وبالجملة، أنشأ حسان دولةً على الطراز الحديث، القائم على الاهتمام بالبنية التحتية والرأسية على حد السَّواء، لذلك فهو يعتبر-بحقٍّ-مؤسس دولة الإسلام بالمغرب.
نهاية المجاهد الطبيعية:
ماذا يتوقع النَّاس من رجل قضى حياته كلها مجاهداً في سبيل الله، وليس له هدفٌ سوى إعلاء كلمة الله، ونشر دين الإسلام، والقضاء على عروش الوثنية في كل مكان؟ فكيف سيموت؟
وكيف ستكون نهايته؟ هل سيموت سميناً بطنياً هنيئاً، خالي البال، مرتاحاً على فراشه؟!كلا؛ -والله-إنَّ هؤلاء الأبطال لا يموتون إلا شهداء، ولو طال بهم العمر، وتقلبت بهم المناصب.
فرغم أنَّ حسان بن النعمان قد خاض معارك كثيرة ضد الأعداء، ثم استقرت الأمور، وصار حاكماً مستقراً على بلاد المغرب، وأصبح بعيداً-إلى حدٍّ ما-عن مواطن الشهادة، إلا أنَّ حب الشهادة كان مغروساً في قلبه، شأنه-في ذلك-شأن كل مجاهد صادق في سبيل الله.
لقد مكث حسان أميراً على إفريقية قرابة اثنتي عشرة سنة، قائداً، ومجاهداً عبقرياً، وسياسياً ماهراً، حتى تم عزله في ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر، وذلك سنة(85) هجرية، وكان قد شارف على الثمانين؛ فماذا فعل هذا المجاهد العجوز؟ هل استكان في بيته انتظاراً لموتٍ هادئ ينهي به حياته الحافلة بالجهاد والدعوة؟ كلا؛ بل ظل يتحين الفرصة لمعاودة الغزو والجهاد؛ فلما دعا داعي الجهاد، خرج مجاهداً بأرض الروم، وهناك نال أعزَّ ما يطلب، وما سعى له طوال عمره، نال الشهادة، ومضى إلى ربه-عز وجل-راضياً مرضياً عنه بإذن الله-عز وجل.
أهم الدروس والعبر:
1-الاهتمام ببناء الكوادر والكفاءات؛ تضمن للأمة مواصلة الانتصارات، والحفاظ علي الإنجازات، وهذا ظاهر من تعاقب العديد من أبطال الإسلام على بلاد المغرب بدءاً من عمرو بن العاص حتى حسان بن النعمان.
2-الجهاد الإسلامي منظومة متكاملة من الثوابت، والغايات، والوسائل، تحكمها الانضباط والطاعة الراشدة، وليس خبط عشواء، أو سلب ونهب، وغارات مخربة كما يدعي أعداء الأمة، وهذا ظاهر من سياسة القائد حسان بن النعمان الجديدة في المغرب.
3-ترتيب الأولويات، وفقه إدارة المعارك، حسب الاستراتيجيات الموضوعة-سلفاً-تحقق-بإذن الله-النصر على كل الأعداء، مأخوذ من بدء حسان بالهجوم على الرومان.
4-الاستعجال وعدم الترتيب لمواجهة العدو؛ يؤدي لما لا يحمد عقباه، مثلما حدث في هزيمة المسلمين أمام البربر.
5-المرأة لم-ولن-تصلح لقيادة أمة مهما كان حالها، وحمق كاهنة البربر-رغم انتصارها على المسلمين-دليل على عدم صلاحية المرأة لقيادة الشعوب أبداً.
6-الصبر والثبات والثقة بنصر الله؛ من أهم عدد القائد في مواجهة النوازل والصعاب، ويؤخذ ذلك من ثبات حسان بن النعمان خمس سنوات أمام الأعداء.
7-فساد ذات البين، والاختلاف والتفرق؛ من أهم أسباب تسلط الأعداء، وتأخر النصر، كما حدث من خروج إفريقية من يد المسلمين-لعدة سنوات-بسبب اضطرابات وثورات العراق.
8-الجهاد في سبيل الله؛ من أسمى غاياته: بناء المجتمعات الإسلامية التي تقيم دين الله في الأرض، وتحقق الاستخلاف، وهذا ظاهر من ترتيبات القائد حسان في بناء الدولة الإسلامية في المغرب، والاهتمام بنشر الإسلام بين البربر، وتقوية دفاعات الدولة الإسلامية الوليدة.
9-المجاهد المخلص في سبيل الله له غاية وحيدة يظل يبحث عنها طوال عمره؛ وهي الشهادة في سبيل الله، ومن سعى لها بصدق بلغه الله-عز وجل-إياها؛ ولو مات على فراشه.
---------
المصادر:
1-تاريخ الرسل والملوك.
2-الكامل في التاريخ.
3-البداية والنهاية.
4-فتوح مصر والمغرب.
5-فتوح البلدان.
6-قادة فتح المغرب العربي.
7-التاريخ الإسلامي.
8-الشرف والتسامي.
التعليقات