عناصر الخطبة
1/حقيقة الثلوج وتكوينها. 2/حكمة الله تعالى في المطر والثلج. 3/حال المناطق التي أصيبت بالثلوج. 4/أحكام فقهية متعلقة بالثلوج. 5/واجبنا نحو المسلمين في مناطق الثلوج وخصوصا المشردين منهم.

اقتباس

كَمَا اكْتَشَفَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِنَ الْبُقَعِ الْمُتَمَسِّكَةِ بِالثِّيَابِ مَا لَا تَسْتَطِيعُ الْمَسَاحِيقُ إِزَالَتَهَا، لَكِنْ إِذَا وُضِعَ عَلَيْهَا قِطْعَةُ ثَلْجٍ أَوْ بَرَدٍ فَإِنَّهَا تَعْمَلُ عَلَى انْكِمَاشِ جُزَيْئَاتِ تِلْكَ الْأَوْسَاخِ؛ فَيَسْهُلُ زَوَالُهَا.

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]؛ أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْمُلْكَ مُلْكُ اللَّهِ، يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ، فَيُنْزِلُ الْمَطَرَ عَلَى مَنْ شَاءَ وَيَمْنَعُهُ عَمَّنْ شَاءَ، وَلَهُ -تَعَالَى- فِي كُلِّ أَمْرٍ حِكْمَةٌ: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشُّورَى: 28].

 

وَمَا الْمَطَرُ وَمَا يُصَاحِبُهُ مِنْ بَرْقٍ وَرَعْدٍ وَثَلْجٍ إِلَّا آيَةً مِنْ آيَاتِهِ، وَحِكْمَةً مِنْ حِكَمِهِ؛ لِيَجْعَلَنَا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)[الرُّومِ: 24].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الثَّلْجَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، يَقُولُ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ- مُوَضِّحًا كَيْفَ يَتَكَوَّنُ الثَّلْجُ وَالْمَطَرُ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)[النُّورِ: 43].

وَيَتَكَوَّنُ الثَّلْجُ وَالْبَرَدُ؛ بِأَمْرِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ حَيْثُ يَأْمُرُ الرِّيَاحَ الْبَارِدَةَ فَتَحْمِلُ السُّحُبَ إِلَى ارْتِفَاعَاتٍ شَاهِقَةٍ تَصِلُ إِلَى (18) كِيلُو مِتْرًا، حَيْثُ تَنْخَفِضُ دَرَجَاتُ الْحَرَارَةِ، ثُمَّ إِذَا زَادَتْ سُرْعَةُ التَّيَّارَاتِ الْهَوَائِيَّةِ وَوَصَلَتْ إِلَى (45) كِيلُو مِتْرًا فِي السَّاعَةِ وَانْخَفَضَتْ دَرَجَةُ الْحَرَارَةِ عَنِ الصِّفْرِ الْمِئَوِيِّ تَكَوَّنَتْ حَبَّاتُ بَرَدٍ صَغِيرَةٌ، وَكُلَّمَا تَزَايَدَتْ سُرْعَةُ التَّيَّارَاتِ الْهَوَائِيَّةِ كُلَّمَا ازْدَادَ حَجْمُ الْبَرَدِ حَتَّى يَصِيرَ ثَلْجًا عِنْدَ سُرْعَةِ (160) كِيلُومِتْرًا فِي السَّاعَةِ تَقْرِيبًا.

 

ثُمَّ يَأْمُرُ تَعَالَى تِلْكَ الْغُيُومَ فَتَتَجَمَّعُ وَتَتَرَاكَمُ فَوْقَ بَعْضِهَا مُشَكِّلَةً أَبْرَاجًا عَالِيَةً تَصِلُ لِعِدَّةِ كِيلُو مِتْرَاتٍ حَتَّى تَصِيرَ كَالْجِبَالِ فِي الْغِلَافِ الْجَوِّيِّ وَتَتَلَاصَقَ بَلَّوْرَاتُ الْبَرَدِ الصَّغِيرَةُ مُكَوِّنَةً بَلَّوْرَاتٍ كَبِيرَةَ الْحَجْمِ، تَصِلُ إِلَى (15) سَنْتِيمِتْرًا، وَلَا تَزَالُ حَبَّاتُ الْبَرَدِ تَتَلَاصَقُ وَتَتَكَتَّلُ حَتَّى يَزْدَادَ وَزْنُهَا فَتَتَسَاقَطَ وَتَصْطَدِمَ بِالْأَرْضِ بِسُرْعَةٍ تَصِلُ إِلَى (180) كِيلُو مِتْرًا فِي السَّاعَةِ، وَغَالِبًا مَا يَذُوبُ الْبَرَدُ أَوْ يَتَفَتَّتُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِلَّهِ -تَعَالَى- فِي الْمَطَرِ وَالثُّلُوجِ الَّتِي تُصَاحِبُهُ حِكَمًا بَلِيغَةً، فَمِنْهَا:

بَيَانُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ: فَقَدْ تَحَدَّى الْكُفَّارُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلِينَ: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)[الشُّعَرَاءِ: 187]، وَكِسَفًا أَيْ: قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً، فَهَا هِيَ الثُّلُوجُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ قِطَعًا قِطَعًا.

 

وَمِنْهَا: إِظْهَارُ طَلَاقَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي تَسْيِيرِ السَّحَابِ بِوَاسِطَةِ الرِّيَاحِ، ثُمَّ أَمْرِهِ بِرَفْعِ الْغَمَامِ فِي الْفَضَاءِ، ثُمَّ بِتَجْمِيدِ الْمِيَاهِ فِي هَذَا السَّحَابِ فِي صُورَةِ ثَلْجٍ وَبَرَدٍ، ثُمَّ بِتَجْمِيعِ هَذَا السَّحَابِ حَتَّى يَصِيرَ جِبَالًا فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنْزَالِهِ قِطَعًا وَبَلُّورَاتٍ عَلَى الْأَرْضِ... أُمُورٌ لَا يَسْتَطِيعُ صُنْعَهَا إِلَّا الْقَوِيُّ الْقَدِيرُ -سُبْحَانَهُ-.

 

وَمِنْهَا: هَزِيمَةُ أَعْدَاءِ الدِّينِ: فَبِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ هَزَمَ اللَّهُ -تَعَالَى- الْمَغُولَ، يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "هَذَا الْعَامُ أَكْثَرَ اللَّهُ فِيهِ الثَّلْجَ وَالْمَطَرَ وَالْبَرْدَ... وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي صَرَفَ اللَّهُ بِهِ الْعَدُوَّ؛ فَإِنَّهُ كَثُرَ عَلَيْهِمُ الثَّلْجُ وَالْمَطَرُ وَالْبَرْدُ حَتَّى هَلَكَ مِنْ خَيْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهَلَكَ أَيْضًا مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ".

 

وَمِنْهَا: التَّذْكِيرُ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ: يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَالزَّمْهَرِيرُ هُوَ شِدَّةُ الْبَرْدِ الَّذِي عَادَةً مَا يُصَاحِبُ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ.

 

وَمِنْهَا التَّطْهِيرُ وَالتَّطَهُّرُ: فَالثَّلْجُ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ التَّطْهِيرِ مِنَ الْآثَامِ، وَالتَّطَهُّرِ لِلصَّلَاةِ، فَأَمَّا الْأُولَى فَقَدْ كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: "اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ عِنْدَ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَةٍ: "وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

كَمَا اكْتَشَفَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِنَ الْبُقَعِ الْمُتَمَسِّكَةِ بِالثِّيَابِ مَا لَا تَسْتَطِيعُ الْمَسَاحِيقُ إِزَالَتَهَا، لَكِنْ إِذَا وُضِعَ عَلَيْهَا قِطْعَةُ ثَلْجٍ أَوْ بَرَدٍ فَإِنَّهَا تَعْمَلُ عَلَى انْكِمَاشِ جُزَيْئَاتِ تِلْكَ الْأَوْسَاخِ؛ فَيَسْهُلُ زَوَالُهَا.

 

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَدْ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ فِي التَّيَمُّمِ: "لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْجَمَدِ وَالثَّلْجِ أَجْزَأَهُ".

 

لَا تَكْرَهِ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ نُزُولِهِ *** إِنَّ الْحَوَادِثَ لَمْ تَزَلْ مُتَبَايِنَةْ

كَمْ نِعْمَةٍ لَا يُسْتَهَانُ بِشُكْرِهَا *** لِلَّهِ فِي طَيِّ الْمَكَارِهِ كَامِنَةْ

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَرْدِ وَثُلُوجِ الشِّتَاءِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا:

التَّرْخِيصُ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ: فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ، يَقُولُ: "أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَمِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ: الْبَرْدُ الْقَارِسُ، وَالْمَطَرُ الشَّدِيدُ، وَالثَّلْجُ مِثْلُ ذَلِكَ.

 

وَمِنْهَا: مَشْرُوعِيَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ: وَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لَكِنْ تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْبَرْدِ وَالْمَطَرِ، وَالثَّلْجُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، فَعَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَمِنْهَا: التَّرْخِيصُ لِمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْبُرُودَةِ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ، وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ إِنِ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، لِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَائِلًا: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟"، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النِّسَاءِ: 29] فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

 

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، وَدِينُنَا دِينُ الرَّحْمَةِ لِأَنَّ مُنْزِلَهُ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ بِخَلْقِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الدِّفْءَ نِعْمَةٌ لَا يُدْرِكُ قِيمَتَهَا إِلَّا مَنْ حُرِمَهَا، وَلَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْنَا بِهَا قَائِلًا: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ)[النَّحْلِ: 5]، لَكِنَّ بِلَادًا لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ خَاصَمَهَا الدِّفْءُ وَغَادَرَهَا الِاسْتِقْرَارُ؛ فَسَمَاؤُهَا رَعْدٌ وَبَرْقٌ وَعَوَاصِفُ، وَأَرْضُهَا ثُلُوجٌ وَبَرْدٌ وَأَوْحَالٌ، وَبُيُوتُهَا بَرْدٌ وَصَقِيعٌ وَجُوعٌ، قَدْ قَيَّدَتِ الثُّلُوجُ حَرَكَةَ حَيَاتِهِمْ، وَعَطَّلَتْ مَصَالِحَهُمْ، وَقَطَعَتْ طُرُقَهُمْ، وَأَوْقَفَتْ أَعْمَالَهُمْ، وَعَرَّضَتْهُمْ لِلْمَصَاعِبِ وَالْمَخَاطِرِ، فَمَا بَالُكَ بِإِخْوَانٍ لَنَا قَدْ طُرِدُوا وَهُجِّرُوا مِنْ دِيَارِهِمْ عَرَايَا فِي هَذَا الْبَرْدِ الْقَارِسِ، مُشَرَّدِينَ بِلَا مَأْوًى تَحْتَ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ، يَفْتَرِشُونَ الْوَحْلَ وَيَلْتَحِفُونَ الزَّوَابِعَ، وَيَسْكُنُونَ الْخِيَامَ جَوْعَى الْبُطُونِ وَمُرْتَعِدِي الْأَبْدَانِ.. إِنَّهَا -وَاللَّهِ- لَأَشَدُّ مُعَانَاةٍ وَأَعْظَمُ مَأْسَاةٍ!

 

أَتَدْرِي كَيْفَ قَابَلَنِي الشِّتَاءْ *** وَكَيْفَ تَكُونُ فِيهِ الْقُرْفُصَاءْ

وَكَيْفَ الْبَرْدُ يَفْعَلُ بِالثَّنَايَا *** إِذَا اصْطَكَّتْ وَجَاوَبَهَا الْفَضَاءْ

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ فِي أَعْنَاقِنَا وَاجِبًا مُحَتَّمًا تُجَاهَ هَؤُلَاءِ الْمُشَرَّدِينَ فِي الثُّلُوجِ، خَاصَّةً الْأَثْرِيَاءَ مِنَّا، إِنَّهُ وَاجِبٌ أَوْجَبَهُ الدِّينُ وَالْإِخَاءُ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، "وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُعِينَ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَلَيْنَ بِكُلِّ وَجَمِيعِ مَا نَسْتَطِيعُ مِنْ مَالٍ وَغِطَاءٍ وَأَكْسِيَةٍ وَطَعَامٍ وَدَوَاءٍ وَإِيوَاءٍ... وَإِلَّا سُئِلْنَا عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَوَيْلٌ لِجَارٍ رَأَى مِنْ جَارَهِ الْفَاقَةَ وَالْعَوَزَ وَالْحَاجَةَ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ)، وَلَقَدْ "كَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ إِذَا أَمْسَى.. تَصَدَّقَ بِمَا فِي بَيْتِهِ مِنَ الْفَضْلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ جُوعًا فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِهِ، وَمَنْ مَاتَ عُرْيَانًا فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِهِ"(رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ).

 

هَذَا عَلَى مُسْتَوَى الْأَفْرَادِ، وَالْعِبْءُ الْأَكْبَرُ يَقَعُ عَلَى الْمُنَظَّمَاتِ الدَّوْلِيَّةِ وَالْحُكُومَاتِ وَالْهَيْئَاتِ الَّتِي هِيَ أَقْدَرُ -بَعْدَ اللَّهِ- عَلَى رَفْعِ الْمُعَانَاةِ عَنْهُمْ أَوْ تَخْفِيفِهَا.

 

أَتَدْرِي كَيْفَ جَارُكَ يَا ابْنَ أُمِّي *** يُهَدِّدُهُ مِنَ الْفَقْرِ الْعَنَاءُ

يَصُبُّ الزَّمْهَرِيرُ عَلَيْهِ ثَلْجًا *** فَتَجْمُدُ فِي الشَّرَايِينِ الدِّمَاءُ

يَجُوبُ الْأَرْضَ مِنْ حَيٍّ لِحَيٍّ *** وَلَا أَرْضٌ تَقِيهِ وَلَا سَمَاءُ

أَتَلْقَانِي وَبِي عَوَزٌ وَضِيقٌ *** وَلَا تَحْنُو؟ فَمَا هَذَا الْجَفَاءُ

 

اللَّهُمَّ فَحَوَالَيْنَا لَا عَلَيْنَا.. احْفَظْ إِخْوَانَنَا وَنَجِّهِمْ وَخَفِّفْ عَنْهُمْ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ...

 

المرفقات
wsNcPep9JjxiOOC81QfY8giNyhMxQ1lmP0atNxKn.doc
9YC9IPgdL3t8VR5PNja4AUl4JDj8gBBCW7AvjG2F.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life