عناصر الخطبة
1/أداء الأمانة من صفات المؤمنين 2/التحذير من خيانة الأمانة 3/من أنواع الأمانة وكيفية أدائها 4/توجيهات للحجاج

اقتباس

ويدخل في هذا القسم عدل الأمراء والموظفين مع رعيتهم، ومع إخوانهم ومواطنيهم، وذلك بأن يحفظوا لهم حقوقهم، وألا يقدموا معاملة بعضهم على بعض، وأن يساووا بين الناس فيما وكل إليهم من أعمال، ومن لم يفعل ذلك فقد خان أمانته، واستحقَّ عقاب ربه...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض بالحقِّ، وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير، يعلم ما في السماوات والأرض، ويعلم ما تُسرون وما تعلنون، وهو عليم بذات الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله عالم الغيب والشهادة، وعليه فليتوكل المؤمنون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، أمرنا -تعالى- باتباعه، ونهانا عن مخالفته، فقال -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7]، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

 

أيها المسلمون: اعلموا أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"(أخرجه أحمد)، فأداء الأمانة فرضٌ معلَّق في رقبة كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وخائن الأمانة ملعون في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النساء: 58].

 

وقال في مدح المؤمنين المحافظين على أداء ما ائتمنهم الله عليه: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[المؤمنون: 8 - 11]، وقد حذر -تعالى- المؤمنين المسلمين من انتهاك الأمانات وخيانتها؛ فقال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: 27].

 

وبين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أن خيانة الأمانة من صفات المنافقين، كما في حديث ‌أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ ‌أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ ‌خَانَ"(متفق عليه).

 

والأمانة -أيها المسلمون- أنواع: أولها: أمانة العبد مع ربه، وهي أن يرعى الإنسان ويحافظ على ما عهد إليه -تعالى- حفظَه، من الائتمار بأمره في أداء الصلوات والزكاة والصيام، وغير ذلك مما أمرنا به ربنا -تعالى-، وجعلنا رقباء على أنفسنا، وأمناء عليها في أدائها وتنفيذها، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات والفواحش.

 

فالمعاصي كلها خيانة لله -تعالى-، والواجب استعمال القوى والملَكات التي أودعها الله فينا فيما ينفعنا، وينفع بلادنا وإخواننا المسلمين، بدلًا من إخمادها أو استعمالها فيما لا طائل تحته ولا نفع منه، وقد ورد أن المرء يُسأل عن عمره: فيم أضاعه؟ وعن أمواله: فيم أنفقها؟ وعن أوقاته: فيم قضاها؟.

 

ثانيها: أمانة الإنسان مع الناس، وذلك بأن ينصح لإخوانه المسلمين، وأن يردَّ إليهم ودائعهم، وألا يغشهم في معاملاتهم معه، وأن يحفظ أسرارهم، وأن يكرم أقرباءه، وأن يراعي كلٌّ من الزوجين صاحبه، فلا يفشي له سرًّا، ولا يؤذيه بقول أو فعل.

 

ويدخل في هذا القسم عدل الأمراء والموظفين مع رعيتهم، ومع إخوانهم ومواطنيهم، وذلك بأن يحفظوا لهم حقوقهم، وألا يقدموا معاملة بعضهم على بعض، وأن يساووا بين الناس فيما وكل إليهم من أعمال، ومن لم يفعل ذلك فقد خان أمانته، واستحقَّ عقاب ربه.

 

ثالثها: أمانة الإنسان مع نفسه، وذلك بأن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا، وألا يُقدِمَ بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة أو الدنيا، وأن يحافظ على صلاح نفسه، بالنظافة في الملبس والمأكل والمشرب، وأن يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، كما في الحديث: "إن لجسدِك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقًّا"(متفق عليه).

 

فاتقوا الله -عباد الله-، ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم، وأنتم تعلمون، واعلموا أن الله لا يحب كل خوان أثيم، واعلموا أن كل إنسان مسؤول عن أمانته، قال -تعالى-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72].

 

فاستغفروا ربكم وتوبوا إليه؛ إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله العليم الحكيم رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى كافة الخلق بشيرًا ونذيرًا، فجاهد بلسانه ويده حتى استتب له الأمر، واستقام الخلقُ على عبادة الله وحده لا شريك له، صلى الله عليه وعلى صحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "البخيلُ الذي من ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ"(رواه أحمد)، صلى الله عليه وعلى صحابته وآله، صلاة دائمة ما دام الليل والنهار.

 

 

أما بعد: فأنتم تعلمون أننا في موسم حج، وأن المواصلات قد تيسرت، وأن الأمن قد استتب بحمد الله وفضله، فمن لم يحج فريضة الإسلام فليبادر من قبل فوات الأوان، وليستعد ولينقِّ ضميره ونفسه من الأخلاط الفاسدة الرديئة، ولينقِّ قلبه من الحقد والفسق، وليؤدِّ أمانته بإخلاص.

 

وليعلم كل من ينوي الحج أنه لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، ومعنى ذلك: أن غضَّ المرء عينيه عن حرمات الناس، ولسانَه عن أعراضهم، واجب في كل مكان، وهو للحاج آكد وألزم، وذلك لأنه يؤدي إلى فساد حجه وخسارة مسعاه، فليحافظ على إصلاح نفسه وتطهيرها، وليترك اللجاج والمحاجَّة؛ فإنه لم يحج إلا قاصدًا ربَّه، راجيًا لثوابه، مؤديًا فريضته، ومن ذهب لغير ذلك فهجرته إلى ما هاجر إليه.

 

فيَا عجبًا لمن يقطع المفاوز ليرى الْبَيْت، فيشاهد آثَار الْأَنْبِيَاء، كَيفَ لَا يقطع نَفسه عَن هَوَاهُ؛ ليصل إِلَى قلبه فَيرى آثَار ما جنى؟! وأنشدوا لأبي عبد الله مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الشِّيرَازِيِّ:

إليك قصدي لا لِلْبَيْتِ وَالأَثَرِ *** وَلا طَوَافِي بِأَرْكَانٍ وَلا حَجَرِ

صفا دَمْعِي الصَّفَا لِي حِينَ أَعْبُرُهُ *** وَزْمَزِمِي ‌دمعةٌ تَجْرِي مِنَ الْبَصَرِ

وَفِيكَ سَعْيِي وَتَعْمِيرِي وَمُزْدَلِفِي *** والهديُ جسمي الذي يغنى عن الجزر

عرفانُه عَرَفَاتِي إِذْ مِنًى مِنَنِي *** وَمَوْقِفِي وَقْفَةٌ فِي الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ

وَجَمْرُ قَلْبِي جِمَارٌ نَبْذُهُ شَرَرُ *** وَالْحُرْمُ تَحْرِيمِيَ الدُّنْيَا عَنِ الْفِكَرِ

وَمَسْجِدُ الْخَيْفِ خَوْفِي مِنْ تَبَاعُدِكُمْ *** وَمَشْعَرِي وَمَقَامِي دُونَكُمْ خَطَرِي

زَادِي رَجَائِي لَهُ وَالشَّوْقُ رَاحِلَتِي *** وَالْمَاءُ مِنْ عبراتي والهوى سقري

 

عباد الله: حافظوا على ما استودعكم الله عليه من أمانات، وراعوا حقوق إخوانكم المسلمين، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"(أبو داود والترمذي وصححه الألباني)، وقال الشاعر:

 

وإذا ائتُمنت على الأمانةِ فارعَها *** إن الكريم على الأمانة راعِ

 

وقال أبو الأسود الدؤلي:

 

إِذَا أَنْتَ ‌حُمِّلْتَ ‌الأَمَانَةَ ‌فَارْعَهَا *** وَكُنْ قُفْلا كِي لا يَرُومَكَ فَاتِحُ

 

وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197]، وادعوا الله مخلصين أن يصلح ولاة أمور المسلمين، وأن يولِّيَ علينا خيارنا، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، وانصرهم على من حاربهم، اللهم أبرم لهــذه الأمة أمر رشدٍ، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، اللهم وحِّد كلمـة المسلمين وقادتهم على الحق والهدى يا رب العلمين، اللهم أذهب عنا الربا والزنا والزلال والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين.

 

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النحل: 90 - 91]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه وأفضاله يكرمكم ويزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life