عناصر الخطبة
1/ في التاريخ دروس وعبر 2/ أرض القدس مسرح للصراع بين المسلمين وأعدائهم 3/ أحقاد اليهود والنصارى على المسلمين في القدس 4/ إطلالة يسيرة على تاريخ المسلمين في القدس 5/ كيف ظهر جيل صلاح الدين؟ 6/ مظاهر الحقد النصراني واليهودي 7/ سماحة الإسلام وعدله 8/ كيف ننصر الأقصى؟اهداف الخطبة
اقتباس
وحينما تحل الكُرب بالمسلمين؛ فإن المخرج لهم هو العودة إلى الله، فبها النجاة في الدارين, ها نحن اليوم نتعاطف مع إخواننا، ونسأل الله أن يغيّر حالنا، فهل غيرنا نحن من حالنا, الصلاة عماد الدين، ما هي حالنا معها؟ صلاة الفجر وإجابة النداء لها، أين نحن من ذلك؟ ومن خان حي الصلاة يخون حي على الكفاح, تهيئة النفوس، ماذا عملنا في سبيل ذلك؟ كم من منادٍ اليوم بالجهاد ولو فُتحت أبوابه لكان أول المتخلفين...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه...
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
عباد الله: التاريخ مدرسة لمن أحسن قراءته وتأمل عبره وأفاد من أحداثه, فأحداث السنين، وأنباء السابقين، وتجارب الأمم، وتقلبات الدول تقرءوها وتطالعها لتُفيد منها في حاضرك، فالأحداث تتكرر والتاريخ يسجل.
عاثت أممٌ في الأرض ثم أدبرت, وسارت في الأرض جحافل من الكفر والظلم ثم اندثرت, سادت أمم ثم بادت وقامت للظلم صروح ثم تهدمت, وفي القرآن ساق الله لنا أنباء أممٍ طغت في البلاد وأممٍ نحتت الجبال, ولما خولف أمر الله حلّت بهم المثلات.
وفي تاريخ المسلمين في صراعاتهم مع أعدائهم وقائع وأحداث تجلى فيها من العبر والعظات ما ينبغي أن تتأمله الأجيال المسلمة اليوم.
ويشاء الله أن تكون أرض أولى القبلتين مسرحاً لجملة من الصراعات بين المسلمين وأعدائهم من اليهود والنصارى.
فالنصارى يرون فيها مولد عيسى وموطنَ كنيستهم الكبرى, واليهودُ يرونَ فيها هيكَلهمُ المزعوم الذي يعتقدون في بنائه ملك العالم كله, والحق أنها للمسلمين, ومسرى نبيهم, وقد عاش فيها العرب المسلمون منذ قرون, ودينهم قد نسخ كل ملّة قبله فهم أحق بالأرض من غيرهم.
وكان من أشهر ما مرّ على هذه الأرض ما كان في عام اثنين وتسعين وأربعمائة, حين ضعف المسلمون, وتفرقت شيعهم, وتسلط عليهم عدوهم, حين حكمهم العبيديون الذين نشروا البدعة وحاربوا السنة, فاشرأبت أعناق النصارى لإسقاط بيت المقدس, فأعدوا حملةً صليبية لهذا الغرض, ومضوا في مليونِ مقاتل, فجاسوا خلال الديار وتهيأ لهم ما أرادوا، وسقطت بيت المقدس في أيديهم.
ولكن ذلك السقوط لم يكن للأرض فحسب, بل لجل من في تلك البلدة من المسلمين, فقد جرت الطرقات بدماء المسلمين على أيدي النصارى الحاقدين, حتى قتلوا في المسجد الأقصى وحده ما يقرب من سبعين ألفاً من العلماء والزهاد والرجال والنساء والأطفال.
وقد ذكر مؤرخو القوم أن الخيول بدأت تخوض في الدماء, وأن المرء بات يشق طريقه بصعوبة بين الجثث, وكُوِّمت فكانت كالجبال, وذكر مؤرخوهم من النصارى ممن شهد الواقعة أنهم قتلوا الأطفال قذفًا من فوق الأسوار وسط استجداء أمهاتهم ثم ألحقوهن بهم وفعلوا في تلك الواقعة ما لم يسمع به أحد من الناس, ثم وُضِعت الصلبان على بيت المقدس، وأدخلت فيه الخنازير، ونُودي مِن على مآذنَ لطالما أذن بالتوحيد من عليها: أن الله ثالث ثلاثة- جل الله وتبارك- وظن اليائسون ألا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.
ووصلت الأنباء إلى المسلمين في كل مكان فأحزنهم الأمر وبكوا من هول المصيبة، وندب الخليفة الفقهاءَ ليحرضوا على الجهاد لكن ذلك لم يُجد شيئًا؛ لأن الذُل والضعف في تلك الحقبة قد ران عليهم, فظل النصارى قابعين في الأقصى يعيثون فيه فساداً.
ولكن الإسلام وإن اعترته فترات ضعف فإنه لا يموت, ولقد كانت تلك الفاجعة التي نالت أهل فلسطين حينها بمثابة الرجفة التي نبهتهم من غفلتهم, فما زالت صيحات اليتامى ونداءات الشيوخ تئن في آذانهم, فكان لذلك الأثر في إصلاح النفوس, وعودة العباد لربهم, فهيأ الله لهم قادةً صالحين أقاموا علم الجهاد لنصرة إخوانهم واسترداد الأقصى, وبدأ هؤلاء بإعداد العدة وتهيئة النفوس وإصلاح الجيل وظلت رحلة البناء مستمرة حتى تحقق النصر في معركة حطين, وحُرر الأقصى بعد واحدٍ وتسعين سنة.
لم يكن ذلك التحرير بالأماني بل بعزائم الرجال الذين كان منهم نور الدين الذي كان همّ تحرير الأقصى يساوره من يوم أن تولى الإمارة، وكان كثيراً ما يدعو الله أن ييسر له ذلك, ولكي يرتبط الناس بالأقصى وتفاؤلاً بالنصر، فلقد بنى منبراً وأحسن بنائه وحلف بالله أنه سيخطب به في المسجد الأقصى، فاستحث الهمم لذلك, وكان ذلك الرجل يحمل هم الإسلام بحقٍ, حدث عنه ابن شداد فقال: "بلغني من شدة اهتمام نور الدينِ -رحمه الله- بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قُرئ عليه جُزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يتَبسَّم لتتم السلسلة -على ما عُرف من عادة أهل الحديث-، فغضب من ذلك وقال: "إني لأستحي من الله تعالى أن يراني متبسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج".
وجاء من بعده صلاح الدين الذي حمل همّ الجهاد على عاتقه فظل يفتح البلدان ويتنقل في الأمصار إلى أن جاءته رسالة من بيت المقدس كتبها شاب مأسور يقول فيها:
يا أيها الملك الذي *** لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى *** من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا *** على شرفي أنجس
فبلغت هذه الرسالة إلى من يقدرها حق قدرها, فعزم من حينها على التوجه لبيت المقدس, فقام صلاح الدين يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويشحذ هِمَمَ المسلمين، ويصدر أوامره بأن لا يلهو في الجيش أحد، ولا يفكرَ أحدٌ إلا باسترداد بيت المقدس، وأقسم أن لا يغتسل من جنابة حتى يُحرر الأقصى, وظل يتقدم ووجهُه لبيت المقدس حتى تقابل الجيشان، وتواجه الفريقان، ويسر الله له الفتح وأَسْفر وجه الإيمان، واغْبَرَّ وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصُّلبان.
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادوا بالآذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وارتفعت الدعوات وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسيون, وأُحضر منبر نور الدين الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيبُ المنبرَ في أول جمعة بعد تعطلٍ للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحداً وتسعين عاماً، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:45]، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) [الروم:4].
وكثر الأسرى في تلك الوقعة حتى ذُكِر أن بعض الفلاحين رُئي وهو يقود نيفاً وثلاثين أسيراً يربطهم في طُنب خيمته، وباع بعضهم أسيراً بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيراً بكلب يحرس له غنمه.
ولأن أهل الفتح هذه المرة كانوا من المسلمين فلم تحدث مجازر للنساء والأطفال كما فعل النصارى وكما يفعل اليهود اليوم بل صالحهم المسلمون ولم يقتلوا إلا من قاتل وسلِم من عداهم، حتى ذكر القاضي ابن شداد: أنه كان راكبًا في خدمة صلاح الدين في بعض الأيام، فجاءه قائد من قادة جيشه ومعه امرأة نصرانية ترتعد من الخوف، وتبكي بكاءً متواصلاً، وتضرب على صدرها بشدة، فقال القائد لصلاح الدين: "إن هذه خرجت من عند الفرنج، وسألت الحضور بين يديك، وقد أتينا بها".
فأمر الترجمانَ أن يسألها عن قضيتها، فقالت: "إن اللصوص المسلمين – كذا قالت- دخلوا البارحة إلى خيمتي، وسرقوا ابنتي، وبت البارحة أستغيث إلى بكرة النهار، فرقّ لها، ودمعت عينه، وأمر من ذهب إلى سوق العسكر أن يسأل عن الصغيرة مَن اشتراها ويُدفعُ له ثمنها ويحضرها.. فما مضت ساعة حتى وصلَ الفارس والصغيرةُ على كتفه، فما كان إلا أن وقع نظر أمها عليها، فخرت إلى الأرض تُمَرِّرُ وَجْهَهَا في التراب، والناس يبكون على ما نالها، وترفع طرفها إلى السماء ولا نعلم ما تقول، فسُلِّمَت ابنتها إليها، وحُمِلَتْ حتى أعيدت إلى عسكر النصارى.
وظلت الأرض بيد المسلمين حتى ابتعدوا عن الدين فضاعت أرضهم وتسلط عليهم عدوهم, فوقعت الأرض بيد النصارى إبّان الحروب الصليبية, ولما دخل قائدهم إلى دمشق قال: "دلوني على قبر صلاح الدين، فدلوه عليه فأخذ يركله بقدمه، ويقول: قم يا صلاح الدين ها قد عدنا، وها قد انتصرنا، ووقف جنرال آخر على قبر صلاح الدين -رحمه الله تعالى-، وضرب الضريح بسيفه قائلاً: "أنا من أحفاد الصليبيين، فأين أحفادك يا صلاح الدين؟!".
تلكم أيها الكرام إطلالة يسيرة على تاريخ المسلمين في القدس, جدير بنا أن تكون منا على بالٍ, فالإفادة من التاريخ لفهم الحاضر, والإعداد للمستقبل, هو شأن أولي الألباب, والله المستعان وعليه التكلان, وأقول ما سمعتم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أيها المسلمون: وبعد تلك الإلماحات لذلك النصر للمسلمين فإنه يتجلى في ذلك الحدث عدة أمور:
1- أن دين الإسلام هو دين الرحمة, دين أتى بحقوق الإنسان ولو كان كافراً, ففي حين أن صلاح الدين لم يعتدِ على الضعفة، فإن تلك الأرض كانت قد شهدت من جور النصارى، وهي اليوم تشكو جور اليهود وما أحرى المسلمين إلى أن يُبرِزوا هذا المَعْلَمَ من حروبهم ليعي الناس قاطبة أن الإسلام هو الذي يحفظ حقوق الإنسان، وأن الحقد النصراني واليهودي ليس وليد الساعة بل هذا ما كان عليه أسلافهم.
2- أن الأمة حين تريد العودة لعزها فلابد أن تنبذ الذل والهوان وأن تصدق مع ربها, جميل أن تملأ برامج التواصل بعبارات تفيض غيرة ومشاعر جياشة, وحرصاً على النصرة, ولكن الإشكال حينما نعود بعد ذلك إلى ما نحن فيه من قصور وغفلة, فالمسلمون لن ينتصروا بمجرد شتم اليهود وسبهم في المنابر الإعلامية، لكنهم ينتصرون حينما يقولون مثلما قال الرشيد لرأس الروم: "الجواب ما ترى لا ما تسمع".
3- والمؤمن لا يعرف اليأس ولا يفقد الرجاء إذ هو واثق بربه، ثم هو واثق بحق نفسه وواثق بوعد الله، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة فإن الميت الهامد لا يُضرب ولا يؤذى وإنما يُضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم وقد قيل: إن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة لكن الكارثة هو الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع.
4- ومهما حاول الكفار إطفاء نور الله وقتل المسلمين فإن الدين باق ومنصور فلقد قُتل في بيت المقدس عشراتِ الآلاف، وعاد المسلمون بعد ذلك, بل قُتل في بغداد كما قال المؤرخون قرابة المليون, وبعد سبع سنوات انتصر المسلمون على التتار, وصدق الله إذ يقول (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8].
5- وليس شيءٌ أضرّ على المسلمين بعد فساد الدين مثلُ الفرقة والاختلاف، فهي الفرصة السانحة للأعداء ليأتوا على المسلمين, ولنا في واقعنا اليوم عبرة ظاهرة.
6- وحينما تحل الكُرب بالمسلمين؛ فإن المخرج لهم هو العودة إلى الله، فبها النجاة في الدارين, ها نحن اليوم نتعاطف مع إخواننا، ونسأل الله أن يغيّر حالنا، فهل غيرنا نحن من حالنا, الصلاة عماد الدين، ما هي حالنا معها؟ صلاة الفجر وإجابة النداء لها، أين نحن من ذلك؟ ومن خان حي الصلاة يخون حي على الكفاح, تهيئة النفوس، ماذا عملنا في سبيل ذلك؟ كم من منادٍ اليوم بالجهاد ولو فُتحت أبوابه لكان أول المتخلفين (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء: 77].
كم من منادٍ اليوم بدحر الأعداء والأعداء يغزون بيته عن طريق القنوات, وعن طريق محاكاته لهم والتشبه بهم في الهيئة والفِعال.
- وأخيراً: ينبغي أن نستشعر على الدوام حسن الظن بالله، ونرسخ في الأذهان البراءة من كل كافر، وموالاة المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم.
وكم تحتاج الأمة إلى العودة لتاريخها لترى كيف عزّت ومتى ذلّت, ولتعلم أن الظلم لا يدوم، وأن التاريخ لا يخلّد إلا أخبار العظماء، وأن الأجيال تظل تذم مَن توانى عن نصرة المسلمين، وقديماً قيل: التاريخ ليس بأعمى، فماذا عساه سيقول عنا بعد رحيلنا؟!
التعليقات