اقتباس
الأعيادُ والاحتِفالاتُ البِدْعيَّةُ
موقع الدرر السنية
الأعيادُ: جمعُ عيدٍ، وهو اسمٌ لِما يعودُ مِن الاجتماعِ العامِّ على وَجهٍ مُعتادٍ عائدٍ؛ إمَّا بعَودِ السَّنةِ، أو الأُسبوعِ، أو الشَّهرِ، أو غيرِ ذلك.
والحَفاوةُ والاحتفالُ بيومٍ مِن الأيامِ، أو مكانٍ مِن الأماكِنِ، لم يَرِدِ الشَّرعُ باتخاذِه عيدًا، سواءٌ كان ذلك بتخصيصِه بعبادةٍ مِن العباداتِ، أو اجتماعٍ مِن الاجتماعاتِ، أو عادةٍ مِن العاداتِ: غيرُ جائزٍ، فإن قارنه الموافَقةُ لأعداءِ اللهِ مِن الكُفَّارِ والمُشرِكين وأهلِ الكتابِ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى؛ كان الأمرُ أعظَمَ حُرمةً، وأشَدَّ خَطَرًا؛ وذلك لِما فيه من المشابهةِ الظَّاهِرةِ بهم، الذي هو طريقٌ للمُشابهةِ في الباطِنِ.
عن ثابِتِ بنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رجُلًا نذَرَ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن ينحَرَ إبِلًا ببوانةَ، فأتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنِّي نذرتُ أن أنحَرَ إبِلًا ببوانةَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هل كان فيها وَثَنٌ مِن أوثانِ الجاهِليَّةِ يُعبَدُ؟)) قالوا: لا، قال: ((هل كان فيها عيدٌ من أعيادِهم؟)) قالوا: لا، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أوفِ بنَذْرِك؛ فإنَّه لا وفاءَ لِنَذرٍ في مَعصيةِ اللهِ، ولا فيما لا يملِكُ ابنُ آدَمَ))
ولذا يَحرُمُ القيامُ باحتفالٍ أو اجتماعٍ لم يأتِ في الشَّرعِ ما يدُلُّ على إباحتِه؛ كعيدِ رأسِ السَّنةِ، أو الاحتِفالِ بالهِجرةِ، أو المولِدِ النَّبويِّ، أو الإسراءِ، أو ليلةِ النِّصفِ مِن شعبانَ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (العيدُ: اسمُ جِنسٍ يدخُلُ فيه كُلُّ يومٍ أو مكانٍ لهم فيه اجتِماعٌ، وكُلُّ عمَلٍ يُحِدثونَه في هذه الأمكِنةِ والأزمنةِ؛ فليس النَّهيُ عن خصوصِ أعيادِهم، بل كُلُّ ما يُعَظِّمونه من الأوقاتِ والأمكِنةِ التي لا أصلَ لها في دينِ الإسلامِ، وما يُحدِثونَه فيها من الأعمالِ: يَدخُلُ في ذلك)
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (أعيادُ الكُفَّارِ كثيرةٌ مُختَلِفةٌ، وليس على المسلِمِ أن يبحَثَ عنها، ولا يَعرِفَها، بل يكفيه أن يَعرِفَ في أيِّ فِعلٍ مِن الأفعالِ أو يومٍ أو مكانٍ أنَّ سَبَبَ هذا الفِعلِ أو تعظيمَ هذا المكانِ والزَّمانِ: مِن جهتِهم، ولو لم يَعرِفْ أنَّ سَبَبَه من جِهَتِهم، فيكفيه أن يعلَمَ أنَّه لا أصلَ له في دينِ الإسلامِ؛ فإنَّه إذا لم يكُنْ له أصلٌ فإمَّا أن يكونَ قد أحدثه بعضُ النَّاسِ مِن تِلقاءِ نَفْسِه، أو يكونَ مأخوذًا عنهم، فأقَلُّ أحوالِه: أن يكونَ مِنَ البِدَعِ)
وفي فتاوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ: (لا تجوزُ إقامةُ الأعيادِ البِدْعيَّةِ ولا الاحتِفالُ بها، ولا مُشارَكةُ أهلِها وتهنِئَتُهم بمناسبتِها؛ لأنَّ هذا من التعاونِ على الإثمِ والعُدوانِ، وقد ذكَرَ اللهُ أنَّ مِن صِفاتِ عِبادِ الرَّحمنِ أنَّهم لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي: لا يَحضُرونَ أعيادَ الكُفَّارِ، كما جاء في تفسيرِ هذه الآيةِ الكريمةِ، سواءٌ سُمِّيَت أعيادًا أو أيَّامًا أو مُناسباتٍ؛ فالأسماءُ لا تغَيِّرُ الحقائقَ، وليس للمسلمينَ إلَّا عيدانِ كريمانِ: عيدُ الفِطرِ، وعيدُ الأضحى؛ فالواجِبُ تَرْكُ هذه البِدَعِ والأعيادِ الجاهليَّةِ)
فالأعيادُ إمَّا مكانيَّةٌ، أو زمانيَّةٌ، أو اجتماعيَّةٌ.
والأعيادُ المكانيَّةُ لها من جِهةِ حُكمِ الشَّرعِ ثلاثةُ أنواعٍ:
النَّوعُ الأوَّلُ: ما لا خُصوصَ له في الشَّريعةِ:
وهذا كعُمومِ الأمكِنَةِ ممَّا لا خُصوصِيَّةَ له، ولا شُرِعَت فيه عبادةٌ مُعَيَّنةٌ، فلا يجوزُ تخصيصُه ولا قَصْدُه بعِبادةٍ.
قال ابنُ تيميَّةَ في الأعيادِ المكانيَّةِ: (أحَدُها: مكانٌ لا فَضْلَ له في الشَّريعةِ أصلًا، ولا فيه ما يُوجِبُ تفضيلُه، بل هو كسائِرِ الأمكِنةِ أو دونَها، فقَصْدُ ذلك المكانِ، أو قَصْدُ الاجتماعِ فيه لصَلاةٍ أو دُعاءٍ، أو ذِكرٍ، أو غيرِ ذلك- ضلالٌ بَيِّنٌ، ثمَّ إن كان به بعضُ آثارِ الكُفَّارِ مِن اليَهودِ أو النَّصارى أو غيرِهم، صار أقبَحَ وأقبَحَ، ودخل في هذا البابِ وفي البابِ قَبْلَه في مُشابهةِ الكُفَّارِ، وهذه أنواعٌ لا يمكِنُ ضَبْطُها، بخلافِ الزَّمانِ؛ فإنَّه محصورٌ، وهذا الضَّربُ أقبَحُ مِن الذي قَبْلَه؛ فإنَّ هذا يُشبِهُ عِبادةَ الأوثانِ، أو هو ذريعةٌ إليها، أو نوعٌ مِن عبادةِ الأوثانِ؛ إذ عُبَّادُ الأوثانِ كانوا يَقصِدونَ بُقعةً بعَيْنِها لتِمثالٍ هناك أو غيرِ تمثالٍ، يعتَقِدونَ أنَّ ذلك يُقَرِّبُهم إلى اللهِ تعالى، وكانت الطَّواغيتُ الكِبَارُ التي تُشَدُّ إليها الرِّحالُ ثلاثةً: اللَّاتَ، والعُزَّى، ومَناةَ الثَّالِثةَ الأُخرى)
النَّوعُ الثَّاني: ما له خُصوصٌ لا يَقتَضي قَصْدَه للعبادةِ فيه:
كقَبْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسائِرِ القُبورِ، فلا يجوزُ قَصْدُه بعبادةٍ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (النَّوعُ الثَّاني من الأمكِنةِ: ما له خصيصةٌ لكِنْ لا يقتضي اتخاذَه عيدًا، ولا الصَّلاةَ ونحوَها مِن العباداتِ عِندَه، فمِن هذه الأمكِنةِ: قُبورُ الأنبياءِ والصَّالحينَ، وقد جاء عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والسَّلَفِ النَّهيُ عن اتِّخاذِها عيدًا، عمومًا وخُصوصًا)
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (ذَكَر طائِفةٌ مِن المصَنِّفين في المناسِكِ استِحبابَ زيارةِ مَساجِدِ مَكَّةَ وما حولها، وكُنتُ قد كتبتُها في مَنسَكٍ كَتبتُه قبل أن أحُجَّ في أوَّلِ عُمُري لبَعضِ الشُّيوخِ، جمَعْتُه من كلامِ العُلَماءِ، ثمَّ تبيَّنَ لنا أنَّ هذا كُلَّه مِنَ البِدَعِ المُحْدَثةِ التي لا أصْلَ لها في الشَّريعةِ، وأنَّ السَّابِقينَ الأوَّلينَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ لم يَفعَلوا شيئًا من ذلك، وأنَّ أئِمَّةَ العِلمِ والهُدى يَنْهَون عن ذلك، وأنَّ المسجِدَ الحرامَ هو المسجِدُ الذي شُرِعَ لنا قَصْدُه للصَّلاةِ والدُّعاءِ والطَّوافِ، وغَيرِ ذلك من العِباداتِ، ولم يُشرَعْ لنا قَصْدُ مَسجِدٍ بعَينِه بمكَّةَ سِواه، ولا يَصلُحُ أن يُجعَلَ هناك مَسجِدٌ يزاحِمُه في شَيءٍ مِن الأحكامِ، وما يَفعَلُه الرَّجُلُ في مَسجِدٍ مِن تلك المساجدِ؛ مِن دُعاءٍ وصَلاةٍ وغَيرِ ذلك، إذا فَعَلَه في المسجِدِ الحرامِ كان خيرًا له، بل هذا سُنَّةٌ مَشروعةٌ، وأمَّا قَصْدُ مَسجدٍ غَيرِه هناك تحَرِّيًا لفَضْلِه، فبِدعةٌ غيرُ مَشروعةٍ)
النَّوعُ الثَّالِثُ: ما تُشرَعُ العبادةُ فيه لكِنْ لا يُتَّخَذُ عِيدًا:
قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا الأمكِنةُ التي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقصِدُ الصَّلاةَ أو الدُّعاءَ عِندَها، فقَصْدُ الصَّلاةِ فيها أو الدُّعاءِ: سُنَّةٌ؛ اقتداءً برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واتِّباعًا له، كما إذا تحَرَّى الصَّلاةَ أو الدُّعاءَ في وَقتٍ مِن الأوقاتِ؛ فإنَّ قَصْدَ الصَّلاةِ أو الدُّعاءِ في ذلك الوَقتِ: سُنَّةٌ، كسائِرِ عِباداتِه، وسائِرِ الأفعالِ التي فعَلَها على وَجْهِ التقَرُّبِ)
وقال السيوطيُّ: (كُلُّ اجتماعٍ يتكَرَّرُ بتكَرُّرِ الأسابيعِ والشُّهورِ والأعوامِ غَيرُ الاجتِماعاتِ المشروعةِ: هو المبتَدَعُ، ففَرْقٌ بين ما يُفعَلُ مِن غيرِ ميعادٍ وبين ما يُتَّخَذُ سُنَّةً وعادةً؛ فإنَّ ذلك يضاهي المشروعَ، وقد كَرِهَ ابنُ مَسعودٍ وغَيرُه مِن الصَّحابةِ اعتيادَ الاجتماعِ في مكانٍ مخصوصٍ، وهو المنصوصُ عن أحمدَ أنَّه قيل له: تَكرَهُ أن يجتَمِعَ القَومُ يَدْعونَ اللهَ تعالى ويَرفَعونَ أيديَهم؟ فقال: ما أكرَهُه للإخوانِ إذا لم يجتَمِعوا على عَمدٍ، إلَّا أن يَكثُروا. وأصلُ هذا أنَّ العباداتِ المشروعةَ التي تتكَرَّرُ بتكَرُّرِ الأوقاتِ حتى تصيرَ سُنَنًا ومواسِمَ: قد شَرَع اللهُ منها ما فيه كفايةُ المتعَبِّدِ، فإذا أُحدِثَ اجتِماعٌ زائدٌ كان مضاهاةً لِما شَرَعَه اللهُ تعالى، وسُنَّةِ رَسولِه)
والأعيادُ الزَّمانيَّةُ لها من جِهةِ حُكمِ الشَّرعِ ثلاثةُ أنواعٍ:
النَّوعُ الأوَّلُ: أوقاتٌ لم تُعَظِّمْها الشَّريعةُ أصلًا
كأوَّلِ خميسٍ مِن رَجَبٍ مَثَلًا.
النَّوعُ الثَّاني: ما جرى فيه من الحوادِثِ ما لا يقتضي كَونَه مَوسِمًا:
كالاحتِفالِ بذِكرى غَزوةِ بَدرٍ في السَّابِعَ عَشَرَ مِن شَهرِ رمَضانَ، فهذا يَحرُمُ تخصيصُه بشَيءٍ مِن العباداتِ أو الاحتِفالاتِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (الأعيادُ شَريعةٌ مِن الشَّرائعِ؛ فيَجِبُ فيها الاتِّباعُ لا الابتِداعُ، وللنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خُطَبٌ وعهودٌ ووقائِعُ في أيَّامٍ متعَدِّدةٍ؛ مِثلُ: يومِ بَدرٍ، وحُنَينٍ، والخَندَقِ، وفَتحِ مكَّةَ، ووَقتِ هِجرتِه، ودُخولِه المدينةَ، وخُطَبُ له متعَدِّدةٌ يذكُرُ فيها قواعِدَ الدِّينِ، ثمَّ لم يوجِبْ ذلك أن يُتَّخَذَ أمثالُ تلك الأيامِ أعيادًا، وإنَّما يَفعَلُ مِثلَ هذا النَّصارى الذين يتَّخِذون أمثالَ أيَّامِ حوادِثِ عيسى عليه السَّلامُ أعيادًا، أو اليَهودُ، وإنَّما العيدُ شريعةٌ، فما شرَعَه اللهُ اتُّبِع، وإلَّا لم يُحدِثْ في الدِّينِ ما ليس منه)
وكالاحتفالِ بيَومِ مَولِدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال تاجُ الدِّين الفاكهانيُّ المالكيُّ: (لا أعلمُ لهذا المَولِدِ أصلًا في كِتابٍ ولا سُنَّةٍ، ولا يُنقَلُ عَمَلُه عن أحدٍ مِن عُلماءِ الأُمَّةِ، الذين هُم القُدوةُ في الدِّينِ، المتمسِّكونَ بآثارِ المتقدِّمين، بلْ هو بِدعةٌ أحْدَثها البَطَّالون، وشَهوةُ نَفسٍ اغتنى بها الأكَّالون، بدَليلِ أنَّا إذا أدَرْنا عليه الأحكامَ الخَمْسةَ قُلْنا: إمَّا أن يكونَ واجِبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو مكروهًا، أو محَرَّمًا، وهو ليس بواجبٍ إجماعًا، ولا مندوبًا؛ لأنَّ حقيقةَ المندوبِ: ما طلَبَه الشَّرعُ مِن غيرِ ذَمٍّ على تَرْكِه، وهذا لم يأذنْ فيه الشَّرعُ، ولا فعَلَه الصَّحابةُ ولا التَّابِعون، ولا العُلماءُ المتديِّنون -فيما عَلِمتُ-. وهذا جوابي عنه بين يَدَيِ اللهِ إنْ عنه سُئِلتُ، ولا جائزٌ أن يكونَ مُباحًا؛ لأنَّ الابتِداعَ في الدِّين ليس مُباحًا بإجماعِ المسلِمين)
وقال ابنُ الحاجِّ: (فانظُرْ -رَحِمَنا اللهُ وإيَّاك- إلى مخالَفةِ السُّنَّةِ؛ ما أشنَعَها وما أقبَحَها! وكيف تجُرُّ إلى المحرَّماتِ، ألا ترى أنَّهم خالفوا السُّنَّةَ المطَهَّرةَ وفعلوا المولِدَ لم يقتَصِروا على فِعْلِه، بل زادوا عليه ما تقَدَّم ذكرُه من الأباطيلِ المتعَدِّدةِ؟! فالسَّعيدُ السَّعيدُ مَن شَدَّ يدَه على امتِثالِ الكِتابِ والسُّنَّةِ والطَّريقِ المُوصِلةِ إلى ذلك، وهي اتِّباعُ السَّلَفِ الماضين -رِضوانُ اللهِ عليهم أجمعينَ-؛ لأنَّهم أعلَمُ بالسُّنَّةِ مِنَّا؛ إذ هم أعرَفُ بالمقالِ، وأفقَهُ بالحالِ، وكذلك الاقتداءُ بمن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، ولْيُحذَرْ من عوائِدِ أهلِ الوَقتِ، وممَّن يفعَلُ العوائِدَ الرَّديئةَ، وهذه المفاسِدُ مُرَكَّبةٌ على فِعلِ المولِدِ إذا عَمِلَ بالسَّماعِ، فإن خلا منه وعَمِلَ طعامًا فقط ونوى به المولِدَ ودعا إليه الإخوانَ، وسَلِمَ من كُلِّ ما تقَدَّم ذِكْرُه؛ فهو بدعةٌ بنَفْسِ نيَّتِه فقط؛ إذ إنَّ ذلك زيادةٌ في الدِّينِ، وليس مِن عَمَلِ السَّلَفِ الماضين. واتِّباعُ السَّلَفِ أَولى بل أوجَبُ مِن أن يزيدَ نيَّةً مخالِفةً لِما كانوا عليه؛ لأنَّهم أشَدُّ النَّاسِ اتِّباعًا لسُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتعظيمًا له ولسُنَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولهم قَدَمُ السَّبقِ في المبادرةِ إلى ذلك، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ منهم أنَّه نوى المولِدَ، ونحن لهم تَبَعٌ، فيَسَعُنا ما وَسِعَهم)
وقال أيضًا: (وبعضُهم أي: المشتغلِين بعمَلِ المَولِد يتورَّعُ عن هذا أي: سَماعِ الغِناءِ وتوابعِه، ويَعمَلُ المولِدَ بقِراءةِ البخاريِّ وغيرِه؛ عِوضًا عن ذلك، هذا وإنْ كانتْ قراءةُ الحديثِ في نفْسِها من أكبرِ القُرَبِ والعباداتِ، وفيها البركةُ العظيمةُ، والخيرُ الكثيرُ، لكنْ إذا فُعِل ذلك بشَرْطِه اللَّائِقِ به على الوَجهِ الشَّرعيِّ، لا بنِيَّةِ المَولِد، ألَا ترَى أنَّ الصلاةَ مِن أعظمِ القُرَبِ إلى اللهِ تعالى، ومع ذلك فلو فعَلَها إنسانٌ في غيرِ الوقتِ المشروعِ لها، لكان مذمومًا مُخالِفًا؟! فإذا كانتِ الصلاةُ بهذه المثابةِ فما بالُك بغيرِها؟!)
وقال أبو إسحاقَ الشاطبيُّ: (معلومٌ أنَّ إقامةَ المولدِ على الوصفِ المعهودِ بين النَّاسِ بِدعةٌ مُحدَثةٌ، وكلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ)
قال ابنُ باز: (الاحتِفالُ بالموالِدِ ليس عليه أمرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل هو ممَّا أحدَثَه النَّاسُ في دينِه في القُرونِ المتأخِّرةِ، فيكونُ مردودًا، وكان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يقولُ في خُطبتِه يومَ الجُمُعةِ: ((أمَّا بعدُ؛ فإنَّ خَيرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ )) أخرجه مسلِمٌ في صحيحِه، وأخرجه النَّسائيُّ بإسنادٍ جَيِّدٍ، وزاد ((وكُلَّ ضلالةٍ في النَّارِ))، ويُغني عن الاحتفالِ بمَولِدِه تدريسُ الأخبارِ المتعَلِّقةِ بالمَولِدِ ضِمنَ الدُّروسِ التي تتعَلَّقُ بسيرتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتاريخِ حياتِه في الجاهِليَّةِ والإسلامِ في المدارِسِ والمساجدِ وغيرِ ذلك، من غيرِ حاجةٍ إلى إحداثِ احتِفالٍ لم يَشْرَعْه اللهُ ولا رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يَقُمْ عليه دليلٌ شَرعيٌّ)
وقال ابنُ عُثَيمين: (الأعيادُ ثلاثةٌ:
الفِطْرُ: ومُناسَبتُه اختِتامُ صيامِ رَمَضانَ.
الأضحى: ومُناسَبتُه اخِتتامُ عَشرِ ذي الحِجَّةِ.
الجُمُعةُ: وهو عيدُ الأُسبوعِ، ومُناسَبتُه اختِتامُ الأُسبوعِ.
ولا يُحتَفَلُ بما سواها؛ فلا يُحتَفَلُ بذكرى غزوةِ بَدرٍ، ولا غَيرِها من الغَزَواتِ العظيمةِ، سواءٌ كانت هذه الانتِصاراتُ في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم، أو بَعْدَه)
النَّوعُ الثَّالِثُ: ما هو مُعَظَّمٌ في الشَّريعةِ
كيَومِ عاشوراءَ، ويومِ عَرَفةَ، ويَومَيِ العيدَينِ؛ فهذا لا يُتجاوَزُ فيه ما شَرَعه اللهُ ورَسولُه.
وقد يَصحَبُ بعضَ تلك الأعيادِ المكانيَّةِ والزَّمانيَّةِ أمورٌ بِدْعيَّةٌ تجعَلُها أعظَمَ حُرمةً؛ كمن يَقصِدُ القُبورَ يومَ العيدِ، والاجتماعَ عليها، والاحتِفالَ عندها، أو يَقصِدُ المسجِدَ الأقصى من أجْلِ التبَرُّكِ به، أو الطَّوافِ بجَبَلِ عرَفاتٍ، ونحوِ ذلك من البِدَعِ التي ليس عليها دليلٌ مِن الكِتابِ أو السُّنَّةِ.
وأمَّا الاجتِماعاتُ فلها من جِهةِ حُكمِ الشَّرعِ ثلاثةُ أنواعٍ:
النَّوعُ الأوَّلُ: ما لم يُشرَعْ أصلًا؛ كالاجتِماعِ للاحِتفالِ بالمَولِدِ النَّبويِّ.
النَّوعُ الثَّاني: ما شُرِعَ الاجتِماعُ له؛ كصَلاةِ الجماعةِ، وصلاةِ العيدينِ، ونَحوِها.
النَّوعُ الثَّالِثُ: ما يَحرُمُ الاجتماعُ له؛ كالاجتِماعِ في المقابِرِ والأضرحةِ للصَّلاةِ المفروضةِ فيها، ودُعاءِ أهْلِها، والطَّوافِ حَولَها.
فالحُكمُ العامُّ لاتِّخاذِ الأعيادِ والاحتِفالاتِ البِدْعيَّةِ هو التَّحريمُ.
وأمَّا كونُها وسيلةً مِن وسائِلِ الشِّرْكِ فذلك من جِهَتينِ:
الجِهةُ الأُولى: لِما في ذلك من المشابَهةِ للكُفَّارِ في الظَّاهِرِ، التي تؤدِّي للمُشابهةِ في الباطِنِ؛ لأنَّ المشابَهةَ بالكُفَّارِ تدُلُّ على استِحسانٍ مِن الفاعِلِ لفِعْلِهم، والذي هو جزءٌ مِن كُفْرِهم وشَعائِرِهم الوَثَنيَّةِ.
الِجهةُ الثَّانيةُ: ما يَشتَمِلُ عليه اتِّخاذُ الأعيادِ والاحتفالاتِ البِدْعيَّةِ مِن مخالفةِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والحُكمِ بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ؛ ففيه نوعٌ مِن شِركِ الطَّاعةِ، كما قال اللهُ تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21]
وعلى هذا فهو إمَّا وسيلةٌ مِن وسائِلِ الشِّرْكِ الأكبَرِ أو الأصغَرِ؛ فإن اشتَمَل على عبادةِ غيرِ اللهِ فهو شِركٌ أكبَرُ، وإن اشتمَلَ على ما دونَه فهو شِركٌ أصغَرُ، والشِّرْكُ الأكبَرُ ينافي التَّوحيدَ، والشِّرْكُ الأصغَرُ يُنافي كمالَ التَّوحيدِ
التعليقات