اقتباس
لقد بعث الله عز وجل رسوله صلى اله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهداية وإرشادا ونورا للحائرين، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن حكمة الله عز وجل أنه لم يستبق رسوله الكريم خالدا في الأرض إلى قيام الساعة، فقد اختاره لجواره، وأوكل مهمة البلاغ والدعوة من بعده لأمته، من حملة ميراث النبوة، من العلماء والدعاة والمجاهدين والمصلحين، يقومون بالمهمة الجليلة والوظيفة العظيمة، وهي دعوة الناس إلى دين الحق والصراط المستقيم،...
لقد بعث الله عز وجل رسوله صلى اله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهداية وإرشادا ونورا للحائرين، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن حكمة الله عز وجل أنه لم يستبق رسوله الكريم خالدا في الأرض إلى قيام الساعة، فقد اختاره لجواره، وأوكل مهمة البلاغ والدعوة من بعده لأمته، من حملة ميراث النبوة، من العلماء والدعاة والمجاهدين والمصلحين، يقومون بالمهمة الجليلة والوظيفة العظيمة، وهي دعوة الناس إلى دين الحق والصراط المستقيم، فسار على الدرب الصحابة ومن بعدهم ومن اقتفى أثرهم عبر العصور، ممن اصطفاهم المولى وانتخبهم لهذه المهمة النبوية، وهم أهل السنة والجماعة، فدعوا من ضل إلى الهدى، بالحجة والبرهان.
وجمهور الدعوة ليسوا بطبيعة الحال، الصالحين والملتزمين، ولكن من حاد عن الطريق، وضل عن سواء السبيل، وهم شرائح عديدة، منهم أهل الشهوات والتلوث بالمحرمات، وهؤلاء دعوتهم أيسر من دعوة الصنف الآخر، وهم أهل الشبهات والبدع، فهؤلاء يحتاجون لجهد مضاعف، جهد هدم البدعة، وجهد بناء الإيمان الصحيح والفهم السليم ،فالبدع مفسدة للقلوب، مزاحمة للسُّنة في إصلاح النفوس، فهي أشبه ما تكون بالطعام الخبيث، فهي تلبس لباس الدِّين، فيظن المنتسب لها أنها حق وأنه مأجور عليها، وبذلك فإنه يعقد عليها الكره والحب والولاء والبراء والثواب والعقاب، فتزاحم السنن، تقود أصحابها إلى الاعتقادات الباطلة، والأعمال الفاسدة، والخروج عن الشريعة، لذلك فإن دعوة أهل البدع إلى الحق وظيفة العلماء، لا يجوز التساهل فيها، أو التقصير في أدائها، إذ بها تتم حماية الدين وتنقيته من شائبة الباطل، وعلى من تصدى لدعوة أهل البدع أن يعرف ما هي الأصول والضوابط التي ينبغي التزامها؟ أثناء أداء تلك المهمة العظيمة والمحفوفة بكثير من المزالق والمخاطر.
مقدمة عامة عن جمهور الدعوة
جمهور الدعوة المقصود هنا، هم أهل البدعة، لذلك وجب معرفة طبيعة هذا الجمهور، وأقسامه، وأهم ملامحه المميزة، والحكم العام لهم في الشرع، حتى تكون دعوتهم على بصيرة وبينة.
أولا: تعريف البدعة، للبدعة عدة تعريفات، أرجحها وأشملها تعريف الإمام الشاطبي في كتابه النفيس: هي طريقة في الدِّين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه؛ وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات، وهي ليست على درجة واحدة من الشر، بل هي متفاوتة.
ثانيا: أقسام البدعة، للبدعة تقسيمات عديدة، فبعض أهل العلم قسمها حسب مجالها إلى بدع علمية أو اعتقاديه، وبدع عملية أوعبادية، وبعضها قسمها حسب نوعها إلى بدع أقوال، وبدع أفعال، وبعضهم قسمها حسب مآلها إلى بدع مكفرة، وبدع غير مكفرة.
ثالثا: تعريف المبتدع: المبتدع هو شخص يبحث عن الخير ويريده، شخص يقصد القربى والزلفى إلى الله عز وجل، وربما كان في قلبه من الإيمان والخوف والرجاء ما ليس عند غيره، ولكنه ضل على طريق القربى، فوقع في مزالق البدع والخرافات، يقول الله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، [الحديد: 27]. فالمبتدع مريد للحق لكنه ضل طريقه إليه.
رابعا: الأحكام العامة في التعامل مع المبتدع، فالمبتدع جزء من الكيان الإسلامي وجسد الأمة، وحقوق الأخوة الإيمانية التي قررها الإسلام تظل محفوظة له، ويتمتع بكافة الحقوق الشرعية التي فرضها الإسلام.إلا إن البدعة بمثابة المرض العضال، والمبتدع بمثابة الشخص المريض الذي يحتاج إلى العلاج، وواجب المجتمع أن يباشر الأسباب والوسائل الكافية لمواجهة هذا المرض، والحد من انتشاره، وتفادى أخطاره وأضراره بشتى الوسائل، مع إمكانية تقييد بعض حرياته أو إسقاط بعض حقوقه لمصلحة أكبر؛ وهو ما يعرف بالحجر الصحي، وهذه السُّنة الاجتماعية لا يغفلها الإسلام في المبتدع، باعتباره شخصا مريضا في دينه، الذي هو أعز ما يملكه الفرد والمجتمع، لذلك فالأحكام العامة في التعامل مع المبتدعين تدور على محورين:
1 ـ معالجة المبتدع، بتكثيف جرعات العلاج عن طريق دعوته وهدايته وإرشاده ونصحه، وبيان مخالفته للدِّين بالحجة والبرهان والدليل، وهذا ما سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك الشاب الذي أتى يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا، وما فعله ابن عباس رضي الله عنهما مع الخوارج عندما ذهب إليهم وناظرهم وأبطل شبههم، فعاد أكثرهم إلى الصواب.
2 ـ حفظ المجتمع من أضرار البدعة والمبتدع، ومنع انتشارها وتمددها بكافة الوسائل المتاحة، والوقوف بصرامة إزاء تحول هذه البدعة إلى مذهب يتلقفه الناس ويتخذونه منهجا؛ لذلك حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من البدع وضروبها، وأنها ليست من أمر الإسلام في شيء، وأنها ضلالات وظلمات بعضها فوق بعض، وبين عاقبة الابتداع ومصائر المبتدعين.
الضوابط والأصول العامة في دعوة المبتدعين
الأصل العام في التعامل مع المبتدعين هو الزجر بالهجر، فالموقف الأصلي العام للسلف من المبتدعة هو هجرهم، وترك مجالستهم ومناظرتهم؛ لأن الأمور الباعثة لهم على الهجر من المصالح الدائمة الغالب وجودها مثل الخوف من انتشار البدعة، أو التأثر بها، فمعاشرة صاحب البدعة ومخالطته، تولد في صاحب البدعة طمأنينة إلى ما هو عليه، وربما أشعره بقبول المجتمع لبدعته وتزكيته إياها؛ وهذا قد يُغرر بالعامة، إذ أن العامة غالبا في حال جهلهم لا يفرقون بين السنة والبدعة، وربما استحسنوا ما استحسنه المبتدع فوقعوا فيما وقع فيه، فالطباع سرّاقة، خاصة والبدعة ظاهرها التدين والقربى، فلا بد إذاً من الحجر على المبتدع استصلاحاً للديانة، وأحوال الجماعة، وهو ألزم من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان. كما سبق وذكرنا.
أما إن تخلفت هذه المصالح المرجوة من الهجر، أو كانت المصلحة في غيره، فإن الحكم هنا دائر مع منفعته، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه كما قال ابن تيمية رحمه الله وهو الهجر، وقال ابن عبد البر رحمه الله في فوائد حديث كعب بن مالك في الذين خلفوا: "وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع، وهجرته، وقطع الكلام عنه "، وقال البَغْوي رحمه الله معلقا على نفس الحديث: " فيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد ". وقد مضى الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا النهج.
أما عن أهم الضوابط والأصول في دعوة المبتدعين فهي كما يلي:
الأول: العدل والإنصاف
فيجب على الدعاة ألا تحملهم كراهية البدعة وأهلها على الغلو مع المبتدعين والمتلبسين بها، بل لا بد من العدل والإنصاف، فإن العدل فضيلة مطلقة، وقيمة كلية، لا تتجزأ ولا تتلون، لا تقييد في فضله، فهو ممدوح في كل زمان، وكل مكان، من كل أحد، مع كل أحد، بخلاف كثير من الأخلاق فإنه يلحقها الاستثناء والتقييد، ولهذا اتفقت على فضله الشرائع والفطر والعقول،وبالعدل تحصيل العبودية لله وحده، وبه تُعطى الحقوق، وتُرد المظالم، وبه تأتلف القلوب، وبه يُقبل القول، أو يعذر قائله، وبه تحصل الطمأنينة والاستقرار النفسي، والظلم هو أساس الفساد والخلاف وذهاب الريح وفساد الأمر ،فالعدل منهج شرعي في كل شيء، وأساس ذلك قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، [المائدة: 8]، شيخ الإسلام ابن تيمية يعطينا درسا في هذا العدل في معرض كلامه عن الإمام أبي بكر الباقلاني الأشعري فيقول: " كان فيه من الفضائل العظيمة، والمحاسن الكثيرة، والرد على الزنادقة والملحدين، وأهل البدع حتى إنه لم يكن من المنتسبين إلى ابن كُلاَّب والأشعري أجلَّ منه، ولا أحسن كتباً وتصنيفاً "
أما الإنصاف فيتمثل في معرفة أن البدع ليست بدرجة واحدة، بل تتفاوت بقدر ما ارتبط بها من مفسدة، فمنها ما هو معصية، ومنها ما هو كفر أو شرك، وقد تكون بعض البدع ذريعة إلى الشرك، والتسوية بين الجميع حيف وجور واضح، فلا بد أن ينزل كل إنسان منزلته، ويدعى بما يناسب حاله، كما قال الشاطبي: " كل بدعة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها، فيكون منها صغار وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد عقاباً من بعض؛ فالأشد عقاباً أكبر مما دونه، وإما باعتبار فوات المطلوب في المفسدة، وعلى نفس المعنى جاء كلام ابن تيمية فقال: " إن الطوائف المنتسبة إلى مبتدعين في أصول الدين على درجات: فمنهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة ".ومن الإنصاف أيضا اغتفار زلة العلماء والدعاة الذين ثبت أن منهجهم هو منهج أهل السنة، ثم وقع منهم هفوة أو زلة أو بدعة متأولة، ينبغي نصحهم والتحذير من الخطأ الذي وقعوا فيه، لكن لا ينبغي إسقاطهم بالكلية، وإخراجهم من المنهج لزلة أو هفوة، فإن العصمة ليست لأحد سوى الأنبياء،وقال الذهبي رحمه الله: "ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه وإتباعه، يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك "، فالتشهير والتبديع والتفسيق الذي يقع من بعض الدعاة بحق كبار العلماء والدعاة بسبب الهفوات، ليس من الإنصاف والحق في شيء.
ثانيا: العلم الدقيق والفهم الوثيق
والمقصود من العلم في هذا المقام، هو معرفة القواعد والمقاصد الشرعية التي تضبط تصرفات المكلفين، وتقدير المصالح والمفاسد أثناء دعوتهم، وتنزيل الأحكام على الوقائع، ومراعاة عوارض الأهلية، وتحقيقات المناط، فقد ظن بعض الدعاة أن هجر المبتدع حكم شرعي مؤبد، لازم كملازمة المسببات لأسبابها، لا يجوز التنازل عنه أو الحيدة عنه لغيره، مثل الحدود الشرعية، والواقع أن هجر المبتدع كغيره من عقوبات المبتدعة وأهل المنكرات من المصالح المرسَلة التي تقدر بقدرها، ويعمل بها حسب الحال، وذلك الضابط في غاية الأهمية، حتى لا يتحول الهجر إلى سوط يجلد به الدعاة من لا يستحق الجلد، فأنه لا يجوز اتخاذ موقف سلبي من مسلم بسبب أمور وقع فيها إلا بعد أن يغلب على الظن أنها بدعة، أو معصية، من خلال معرفة كون ذلك العمل أو الأعمال بدعة فعلاً أو معصية، فينبغي للداعية أن يعرف مفهوم البدعة وماذا يشمل؟ فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والتصور لن يتأتى إلا بالعلم والفهم.
العلم أيضا سيحصن الداعية من التأثر بشبهات المبتدعين، وأساليبهم في الإقناع، لأنه بدون العلم والفهم والخبرة بدروب البدع ومآخذها ومداخلها ومخارجها وأصولها، فربما يقع صريعا بأوضار هذه البدع، وتلبس بها من حيث لا يدري، وقد وقع بعض أساطين العلم والأكابر، في هذا المزالق من حيث لا يدرون، من كثرة المخالطة، والاسترسال في الجدال والنقاش، مثل الإمام الجوزي، والإمام ابن عقيل، والإمام الغزالي رحمهم الله جميعا، فقد وقعوا في بدع التأويل وشبه الفلاسفة، وظهر ذلك من بعض أقوالهم وآرائهم.
ثالثا: الإخلاص والمتابعة
لا بد أن تكون دعوة أهل البدع محلقة بجناحي الإخلاص والمتابعة. وذلك أن الحكم ببدعة ما، واتخاذ موقف من أهلها، بالهجر أو غيره ودعوتهم، كلها مسائل شرعية نحن متعبدون بها، فيشترط لها ما يشترط لسائر العبادات، ومعنى الأخذ بالإخلاص أنه ينبغي ألا يكون الموقف عقاباً، أو تألفاً إزاء أحد من المبتدعة تشهياً ولا تشفياً، فاستعمال الإخلاص ينقي العمل من عوارض الحبوط، الإخلاص والمتابعة يقودان الداعية إلى رحمة المبتدعين والشفقة بهم، وإرادة الهداية والخير لهم، بعيدا عن النوازع الدنيوية والأغراض الأرضية، ويمثل هذا الخلق العالي أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه لما رأى سبعين رأساً من رؤوس الخوارج وقد جُزَّت ونُصِبَتْ على درج دمشق، قال: " سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم؟ كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، ثم بكى، وقال: إنما بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام " رواه أحمد في مسنده.
الإخلاص سيحمي دعوة أهل البدع من العبث وتضييع الأوقات عبثاً، ومن الحرص على إظهار القدرة على قوة الحجة، والتفوق في العلوم، كما كان يحصل كثيراً في مجالس الخلفاء، ولكن لا بد أن تكون في مقام تمييز حق من باطل، وصدع بالسنة وبطريقة السلف ،والله تعالى أكرم من أن يضيع من هذه حاله في دينه ونفسه، بل يحميه من البدعة ومن أن يقر ذلك في قلبه، أو أن يكون سبباً مفضياً به إلى الزيغ والبدعة.
التعليقات