الأسباب العشرون لاستدرار الرزق (1)

محمد ويلالي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات:

 

تحدَّثنا في المناسبة الماضية عن الجزء الأول مِن شرح اسم الله الرزَّاق، ضمن العدد الثامن عشر من سلسلة شرح أسماء الله الحسنى.

 

فانطلَق حديثُنا من قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]، وقولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله هو المسَعِّر، القابِضُ، الباسِط، الرازِق))؛ صحيح سنن أبي داود.

 

 

 

وعرفنا أنَّ الله تعالى تكفَّل بأرزاق المخلوقات كلِّها، وقدر ما تستقيم به حياتها، ويقوم به أَوَدُها، لا فرق في ذلك بين الإنسان والحيوان والنَّبات، ولا فرق بين المؤمن والكافر؛ ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]، وهو رِزق الأبدان، وهو رِزق عام، ويخصُّ سبحانه المسلمَ الصَّالح برِزْق الإيمان، وزكاةِ النفس، وهدايةِ القلب.

 

 

 

ولا ضَير أنْ يبحث المسلم عن طُرق الغنى، التي تَجعل منه إنسانًا مكتفيًا، مستغنيًا، ولكنَّه مأمور بأن يتَّخذ لذلك الطُّرق المشروعة، التي لا غِشَّ فيها ولا تحايل؛ لأنَّه يوم القيامة مسؤول - قبل أن تزول قدماه - عن ماله مِن أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟

 

 

 

وقصدنا اليوم - إن شاء الله تعالى - أن نضَع اليدَ على جملةٍ من الأسباب المشروعة، التي تَبدو معنويَّة في ظاهرها، لكنَّها تستضمر أرزاقًا مادِّية تورث صاحبها الغِنى، فلا يَشكو فقرًا، ولا يسأل أحدًا قلَّة أو ضيقًا، وهي أسباب عشرون، نقتصر منها - اليوم - على خمسة:

 

1 - تقوى الله تعالى: وهو سبب عامٌّ تَندرج تحته الأسباب الأخرى، فمَن جعل رضا الله بين عينيه، والتقرُّب إليه أسمى مَطامحه - ضاعَف الله رِزقَه مِن حيث لا يَحتسب، وفي القرآن آية كَريمة، جعلها عبدُالله بن مسعود رضي الله عنه أسرعَ آية فرجًا، وهي قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].

 

 

 

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]؛ أي: ينجيه من كلِّ كَرْب في الدنيا والآخرة، ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: مِن حيثُ لا يرجو ولا يَأْمُل".

 

وقال ابن كثير رحمه الله: "﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: مِن جِهة لا تَخطر بباله".

 

 

 

♦ صاحب وَرشة مَكث ثمانيةَ أشهر بلا عمل، حتى اضطر إلى أن يَدفع أجرةَ العمال من رأسماله، ويأتيه طلب مُغر يمتدُّ لعدة أشهر، ولكن في صناعة ملابس النِّساء الداخليَّة الخاصة بالسباحة، بما يعتبر إعانة على نَشْر العُرْي والفساد على الشواطئ، فتذكَّر أنه محاسَب عليها يومَ القيامة، فرفض العرضَ مع شديد حاجته للمال، وبعد مدَّة، جاءه مَن يطلب بضاعةً حلالًا تشغل عمَّاله سنةً كاملة، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].

 

 

 

♦ وشاب متزوج وله أبناء، اضطر للعمل في متجر لِملابس النساء الداخليَّة، فوجد مِن بعض النساء ضررًا شديدًا في أخلاقه، وفِتنة في دينه، فترَك هذا العمل محتسِبًا، وسافر إلى مدينة أخرى يَبحث عن عمل يطمئنُّ إليه، وبعد تقلُّبه في تجارب عديدة، عاد إلى مدينته، ليعثر على عمَل محترم في شركة، فكانت أخلاقه العالية، وصِدقُه في العمل - سببًا ليُختار بعد سنة ضمن العمَّال الذي حجوا على حساب الشركة؛ ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96].

 

 

 

♦ وصاحب مَطبعة، يعرض عليه طباعة مجلَّة شهريًّا بشكل مُستمر، غير أنَّ موضوع المجلَّة ساقِط، وأهدافها دَنيَّة، فلم يرِدْ أن يعين على الإثم والعدوان، فأبى طباعتَها، فبعث الله إليه مَن يطلب طباعةَ خمسين ألف نسخة مِن القرآن الكريم، وبربحٍ محترم؛ ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 19].

 

والأمثلة على ذلك لا تُحصى، قال سفيان الثَّوري رحمه الله: "اتَّقِ الله؛ فما رأيتُ تقيًّا محتاجًا".

 

 

 

2 - كثرة الاستغفار: قال تعالى على لِسان نوح عليه السلام: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12].

 

 

 

قال القرطبي رحمه الله: "في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار".

 

وقال ابن كثير رحمه الله: "أي: إذا تُبتم إلى الله، واستَغفرتموه، وأطَعْتموه، كَثُر الرِّزق عليكم، وأسقاكم مِن بركات السماء، وأنبَتَ لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرعَ، وأدرَّ لكم الضَّرع".

 

 

 

وشكا رجلٌ إلى الحسن البصري رحمه الله قلَّةَ المطر، فقال له: "استَغفِرِ اللهَ"، وشكا آخر الفقرَ، فقال له: "استغفِرِ اللهَ"، وشكا آخر قلَّة الولد، فقال له: "استَغفِر اللهَ"، وشكا إليه رجلٌ جفافَ بستانه، فقال له: "استغفر الله"، فتعجَّبوا من ذلك، فقال: "ما قلتُ مِن عندي شيئًا، إنَّ الله تعالى يقول في سورة نوح: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12].

 

 

 

وقال بكرٌ المزنيُّ رحمه الله: "لو كان رجلٌ يَطوف على الأبواب كما يطوف المسكين، يقول: استَغفِروا لي، لكان نَوْلُه أن يفعل"؛ أي: لَكان رِزقه أعظم مِن قوله: أَعطوني.

 

ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم الذي كان يَستغفر اللهَ في اليوم مائة مرَّة؛ قال: ((طُوبى لِمن وَجَد في صحيفته استغفارًا كثيرًا))؛ صحيح سنن ابن ماجه، أي: رزق في الدنيا، ورزق في الآخرة.

 

 

 

غير أنَّه الاستغفار الذي لا يَقتصر على اللِّسان، ولا يقصد إلى مجرد العدد، الاستغفار الذي يَحضر معه القلبُ، والبكاء على ما فرط من الذنوب والمعاصي، مع العزم على التَّوبة، والندم وعدم الرجوع، وإلَّا فالاستغفار في اليوم مائة ألف مرَّة، مع الإقامة على المعصية، لا يَنفع صاحبه في شيء، ولن يرى مِن وراء ذلك رزقًا كثيرًا ولا قليلًا.

 

 

 

رجل تراكَمتْ عليه ديون، أطارت النَّومَ من عينه، وأحزَنتْه بياض يومه، وأرَّقتْه سوادَ ليله، وطولب بإحضارها في أجَل أربع وعشرين ساعة، فقام ليلَه بالصَّلاة، والذِّكر، والاستغفار، والبكاء إلى ربِّه، فما أصبح حتى يسَّر الله أمرَه، وفرَّج همَّه، وقضى دَينَه.

 

 

 

3 - صِلة الرَّحِم: فأثَرها في استِجلاب الرِّزق كبيرٌ؛ قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحبَّ أن يُبسَط له في رِزقه، ويُنسأ له في أثَره، فليصَلْ رَحِمه))؛ متَّفق عليه.

 

وقال صلى الله عليه وسلم: ((تعلَّموا مِن أنسابكم ما تَصِلون به أرحامَكم؛ فإنَّ صِلَة الرَّحِم محبَّةٌ في الأهل، مثراةٌ في المال [كثرة في المال]، مَنسأةٌ في الأثَر))؛ صحيح سنن الترمذي، قال الترمذي: "ومعنى قوله: ((منسأةٌ في الأثر))، يعني: زيادةً في العمر"، وبيَّن أهلُ العلم أنَّ المقصود زيادة بركة العمر، أو الزيادة في الذِّكر الصالح بعد الموت.

 

 

 

ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أعجَل الطاعة ثوابًا لَصِلةُ الرَّحِم، حتى إنَّ أهل البيت ليكونون فجرةً، فتنمو أموالهم، ويَكثر عددهم إذا تواصَلوا))؛ صحيح الجامع.

صبرًا على ضيقَةِ الأيامِ إنَّ لها

فَتْحًا وما الصَّبر إلَّا عند ذي الأدَبِ

سيفتَحُ اللهُ أبوابَ العطاءِ بما

فيه لنفسِك راحاتٌ مِن التعَبِ

 

 

 

4 - الإنفاق في سَبيل الله: لأنَّ النَّفس أمَّارة بالشُّحِّ والكَزازَة، والإنفاقُ يعتقها مِن هذا البخل؛ لأنَّ الذي أعطى هو الذي أمَر بالإنفاق، ورتَّب عليه الجزاءَ بالمضاعفة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عزَّ وجلَّ: أنفِقْ، أُنفِق عليك))، وقال: ((يَد الله مَلأى، لا تَغيضُها نفقةٌ، سحَّاءُ الليلَ والنَّهارَ))؛ متفق عليه.

 

 

 

ودخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم على بلالٍ وعنده صُبْرةٌ مِن تمرٍ، فقال: ((ما هذا يا بلال؟))، قال: شيءٌ ادَّخرتُه لغدٍ، فقال: ((أمَا تَخشى أن ترى له غدًا بُخارًا في نار جهنم يوم القيامة؟! أنفِق بلالُ، ولا تَخْشَ مِن ذي العرش إقلالًا))؛ صحيح الجامع.

 

وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما نَقَصت صدقةٌ مِن مالٍ، وما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ لله إلَّا رفعَه الله))؛ مسلم، وزيادته بالبركة فيه، وبدفع المضرَّات عنه، فيحفظ الله المالَ ويبارِك فيه، فضلًا عن التعويض الجزيل يومَ القيامة، حين يضاعف الله الحسنةَ أضعافًا كثيرة، قال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].

 

 

 

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ ملَكًا ببابٍ من أبواب السماء يقول: مَن يُقرِض اليومَ يُجزى غدًا؟ وملَكًا ببابٍ آخَر يقول: اللهمَّ أعطِ منفِقًا خلَفًا، وعجِّل لممسكٍ تلَفًا))؛ أحمد، وإسناده صحيح.

 

 

 

5 - الزَّواج المبني على التعفُّف والإحصان وابتغاءِ الولَد: يبارِك اللهُ فيه، ويَرزق صاحبَه مِن حيث لا يَحتسب؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونُهم))، ومنهم: ((النَّاكِح الذي يُريد العفافَ))؛ صحيح سنن الترمذي.

 

 

 

وقال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: "عجِبتُ لرجل لا يَطلب الغِنى بالباءة، والله تعالى يقولُ في كتابه: ﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 32]".

 

 

 

وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: "الْتَمِسوا الغِنى في النِّكاح".

لا تَعجلنَّ فليس الرِّزقُ في العجَلِ

الرِّزقُ في اللَّوح مَكتوبٌ مع الأجَلِ

ولو صبَرْنا لكان الرِّزقُ يطلبنا

لكنَّه خُلِق الإنسانُ مِن عَجَلِ

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life