عناصر الخطبة
1/ دور الأخلاق في نهضة المجتمعات 2/ شهادة التاريخ على ارتباط ارتقاء الأمم بالأخلاق 3/ فضيلة الصدق كنموذج لمَعْقِد الروابط الاجتماعية بالأخلاق 4/ وسائل غزو الأعداء لإفساد أخلاق المسلمين 5/ ظلم الخادمات كنموذج لمقايسة ظواهر مجتمعية بالأخلاق 6/ معاملة ذوي الاحتياجات الخاصة كقضية أخلاقية مجتمعية.اهداف الخطبة
اقتباس
نواصل رحلتنا مع منظومة الأخلاق الكريمة، نبحث من خلالها عن ذواتنا؛ هربا من حالة الشرود والذهول التي تكالبت القوى كلها على إيقاعنا فيها من خلال صرفنا عن الأخلاق الكريمة الرفيعة، وقطعنا عن الأصول، بزرع ثقافة السفول والأفُول والذبول. وهذه القوى -قوى الشر- وافقت هوى في نفوسنا يدعونا إلى كل داهية، ويزين لنا كل بلية: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [يوسف:53].
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمـــُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: نواصل رحلتنا مع منظومة الأخلاق الكريمة، نبحث من خلالها عن ذواتنا؛ هربا من حالة الشرود والذهول التي تكالبت القوى كلها على إيقاعنا فيها من خلال صرفنا عن الأخلاق الكريمة الرفيعة، وقطعنا عن الأصول، بزرع ثقافة السفول والأفُول والذبول.
وهذه القوى -قوى الشر- وافقت هوى في نفوسنا يدعونا إلى كل داهية، ويزين لنا كل بلية: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [يوسف:53].
ومن رحمة الله التوفيق لمكارم الأخلاق؛ لأنها بوابة السعادة الأبدية، وعنوان الرشد الملازم.
ولا بد لكل متعاط مع هذا الموضوع -موضوع الأخلاق- أن يبين ابتداء أن الأخلاق ضرورة للمجتمعات الإسلامية لا يمكن أبدا أن تقوم بدونها، ولو فرضنا -احتمالا- أنه قام مجتمع من المجتمعات على أساس تبادل المنافع المادية فقط من غير أن يكون وراء ذلك غرض أسمى فإنه لا بد لسلامة هذا المجتمع من خُلُقَيْ: الثقة، والأمانة؛ على أقل تقدير!.
إنه لا يمكن أبدا تصور قيام مجتمع وبناء حضارة دون اعتماد على الأخلاق الكريمة؛ كيف تكون الثقة بالعلوم والمعارف والأخبار وضمان الحقوق لولا فضيلة الصدق؟ كيف يكون التعايش بين الناس في أمن واستقرار، وكيف تضمن الحقوق لولا فضيلة الأمانة؟ كيف يمكن أن يكون للمجتمع كيان معتبر وهيبة ومجد لولا فضيلة الشجاعة في رد عدوان المعتدين وظلم الظالمين؟ كيف يمكن للإنسان أن يكون مؤهلا لارتقاء مراتب الكمال الإنساني إذا كانت أنانيته مسيطرة عليه، صارفة له عن كل عطاء وتضحية وإيثار؟.
وإذا ما أردنا أن نتخذ من التاريخ اتكاءة نتكئ عليها لتأكيد ضرورة حاجة المجتمعات إلى الأخلاق الكريمة كشف لنا هذا التاريخ من خلال أحداثه أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة ومتناسب معه، وأن انهيار القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لانهيار أخلاقها ومتناسب معه؛ وليس أمر الأندلس عنا ببعيد، لا زمانا ولا مكانا.
وإذا أردنا أن نوضح بالأمثلة حقيقة كون الأخلاق تمثل المعاقد التي تعقد فيها الروابط الاجتماعية تواردت علينا أمثلة كثيرة.
فلنأخذ مثلا فضيلة الصدق: إن الصدق -بوصفه خلقا ثابتا في الفرد المسلم- مَعْقِدٌ من معاقد الروابط الاجتماعية تنعقد عليه ثقة المجتمع بما يحدث به ويخبر عنه في مجال التاريخ والأخبار وفي كل المجالات، ومتى انهارت في الفرد فضيلة الصدق انقطعت ما بينه وبين مجتمعه من روابط عظمى، وغدا الناس لا يصدقونه فيما يقول، ولا يثقون به فيما يحدّث... فلا يكلون إليه أمراً، ولا يعقدون بينهم وبينه عهدا، ولا يواسونه إذا اشتكى الشدة؛ لأنهم يرجحون في كل ذلك كذبه بعد أن أمست رذيلة الكذب هي الخلق الذي خبروه فيه. وحتى إن صدق يوما فلا يلتفت إليه لأن صفة الكذب لازمته.
يحكى أن رجلا معروفا بالمزاح قام من الليل ظامئاً فلم يجد ماءً يشربه، فصعد إلى سطح داره ونادى أهل القرية قائلا: حريق أيها القوم! حريق! أسعفوني بماء! فتسارع أهل القرية لنجدته ومعهم الأواني المملوءة، فلما وصلوا إليه قالوا: أين النار؟ فقال لهم ضاحكا: نار الظمأ قد أحرقت بطني ولم أجد ماء أشربه في داري، فمنهم من ضحك لمزاحه ومنهم من لامه، ثم انصرفوا عنه.
ثم كرر هذا العمل مرة أخرى، فأسرع بعض القوم لنجدته وتخلف آخرون. وانصرف جميع القوم عنه في المرة الثالثة لائمين له غاضبين منه.
وبعد مدة شبت النار فعلا في داره، فنادى القوم لنجدته، إلا أنه لم يستجب لندائه أحد، ووقعت به كارثة الحريق؛ وذلك لأنه قطع بينه وبين مجتمعه رابطة الثقة إذ كسر معقد الصدق عنده.
أيها الأماجد: لقد أدرك أعداء المسلمين هذه الحقائق عن مكارم الأخلاق، فعملوا على إفساد أخلاق المسلمين بكل ما أوتوا من مكر ودهاء، وبكل ما أوتوا من وسائلَ ماديةٍ وشيطانيةِ إغواءٍ؛ ليفتتوا وحدة المسلمين التي كانت مثل الجبل الراسخ الصلب قوة، ومثل الجنة الوارفة المثمرة خضرة وبهاء، وثمرا وماء.
ولقد كان غزوهم للأخلاق الإسلامية من عدة جبهات، ومن المهم -أيها الأحباب- أن يعرف المسلم من أين يؤتى؛ حتى يحتاط ويغلق الثغرات.
لقد أدرك أعداء الإسلام أن النبع الأساسي الذي يزود الإنسان المسلم بالأخلاق العظمى إنما هو الإيمان بالله وباليوم الآخر، فصمموا على أن يكسروا مجاري هذا النبع العظيم ويسدوا عيونه ويقطعوا شريانه.
وعرفوا أن تفهم مصادر الشريعة الإسلامية تفهما سليما هو الذي يمد نبع الإيمان بما يتطلبه من معارف، فمكروا بالعلوم الإنسانية وبالدراسات المتعلقة بها مكرا بالغاً، وذلك ما بين حجب لها تارة، وتلاعب بمفاهيمها أخرى، وتشويه لها، أو جحود ومضايقة روادها ومبلغيها. كل ذلك في حرب مستمرة لا تعرف كللا ولا مللا.
وعرفوا قيمة الإفساد العملي التطبيقي فوجهوا جنودهم لغمس أبناء المسلمين في بيئات مشحونة بالانحلال الخلقي، بغية إصابتهم بالرذائل الخلقية عن طريق العدوى.
وعرفوا قيمة إفساد المفاهيم والأفكار، وهذا أخطر شيء، فجندوا جيوش المضلِّلين الفكريين الذين يحملون إلى أبناء المسلمين الأفكار والمفاهيم والفلسفات الباطلة.
وعن طريق هذا الغزو الفكري الخطير تمكنوا من إدخال السم في الدسم، والوخزات السامة بالهدوء والابتسامة، والانحدار في ثوب الانبهار والإبهار، والانحلال بالتزييف والاحتلال، وزاوجوا ما بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد؛ فوقع كثير من المسلمين أفرادا ومجتمعات تحت تأثير هذه الخدع.
ولله در القائل:
كم حسّنَتْ لَذَّة للمرء قاتلة *** مِن حيث لم يدْرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ
و اخشَ الدسائس من جوعٍ ومن شِبَعٍ *** فرُبَّ مخمصةٍ شرٌ من التُّخَمِ
جاء في خطاب صمويل مارينوس رئيس التنصير في البحرين منذ أوائل القرن العشرين الميلادي الذي خطبه في مؤتمر القدس التنصيري عام خمسة وثلاثين وتسعمائة وألف ما يلي: يقول مخاطبا المنصرين: "إنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية".
وجاء في نشرة المستشرق الماسوني الفرنسي لسنة ثلاث وعشرين وتسعمائة وألف ما يلي: "وبغية التفريق بين الفرد وأسرته عليكم أن تنتزعوا الأخلاق من أسسها؛ لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب من الأمور المحرمة، لأنها تفضل الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة".
وجاء في بروتوكولات حكماء صهيون: "إن الطبقات المتعلمة ستختال زهواً أمام أنفسها بعلمها، وستأخذ جزافاً في مزاولة المعرفة التي حصلتها من العلم الذي قدمه إليها وكلاؤنا رغبة في تربية عقولهم حسب الاتجاه الذي توخيناه".
ألا ترون أنهم نجحوا أيها الأحباب في مخططاتهم؟ نعم! نجحوا بتفوق؛ لأنهم اشتغلوا وقعدنا، واستيقظوا ونمنا، وتنبهوا وغفلنا.
لقد حذرنا ربنا من هذا المكر في كتابه فقال: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) [البقرة:217].
شغلونا بالمقاهي والملاهي، والنوادي في الحواضر والبوادي، والمسلسلات والأفلام، والقمار والأوهام، والمباريات والمنازلات والمطاحنات.
وزرعوا بين كل دولة من الدول الإسلامية أحقادا وخصومات، يدعم ذلك كله جيش عرمرم يتمثل في إعلامٍ قويٍّ هائل مبهر.
ولكن؛ لا يزال المعول بعد الله -عز وجل- على الطليعة من المسلمين المتحررين من كل قيد وشهوة، الحريصين على اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذين يصلحون ما أفسد الناس، ويحيون صلة المسلمين بكتاب ربهم، وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، أولئك غَرْسُ الرحمن، فطوبى لمن كان منهم وسار في ركابهم.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يكشف الكرب ويغيث، ويروح بالفرج قلب اللهيث، يحلم عمن يعصي ويفسد ويعيث، وعيده بطيء ووعده حثيث، انتدب الحق بنفسه لجاحد كلامه... بمن يستغيث؟ فقال: (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ) [القلم:44].
والصلاة والسلام على النبي الإمام، شفيع الأنام يوم الزحام، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأعلام، ومن سار على نهجهم واقتفى آثار الأقدام إلى يوم القيام.
معاشر الكرام: تقرر عندنا أن الأخلاق الكريمة تبني المجتمعات، وأنه إذا ما أردت أن تعرف قدر أي مجتمع فعليك أن تنظر إلى أخلاق أبنائه ليكتمل عندك التصور، وتتضح لك الرؤية.
وبناء على هذه القاعدة الثابتة الراسخة نريد أن نعرض بعض الظواهر المجتمعية على الأخلاق الكريمة لنتناولها بمبضع الإصلاح، ولنقطع عليها الطريق حتى لا يقع الاجتياح.
لننظر مثلا إلى قضية التعامل مع الخادمات في البيوت، مما لا شك فيه -أيها الأحباب- أنكم ترون وتسمعون وتقرؤون ما يقع في الكثير من بيوتات المسلمين من اعتداءات بشعة على الخادمات؛ لدرجة أنه لا تكاد تمر أيام إلا ونسمع ونرى أجساد طفلات محترقة مشوهة معذبة.
ويتساءل المرء لأول وهلة: هل هذا في زمن الفراعنة والجبابرة؟! فيفاجأ بأن هذا صدر ممن ينتمون إلى الإسلام مع الأسف! نعم أيها الأحباب الكرام، أمور مؤلمة، ومناظر محزنة لا يمكن السكوت عنها أبداً.
أيها الكرام: من ظن أن زمن الطغاة والجبابرة قد ولى فظنه خاطئ، ونظره قاصر، فمع الأسف، من الناس في مجتمعنا من يحملون من القسوة والشدة ما لا يخطر على بال، ويا ليتهم صرفوا هذه القسوة والشدة في مسارها! ولكنهم صرفوها فيمن لا حول لهم ولا قوة، ولا ذنب لهم إلا أن الفقر رماهم بين أيديهم والحاجة أذلتهم.
عجبا لك أيها العبد! كيف تطاوعك نفسك أن تتجرأ على خادمة تنتهك إنسانيتها وحرمتها وتعذبها وتذلها وتظلمها وتحرق جسدها وترهقها وتحرمها؟ لماذا كل هذا؟ ومن أجل ماذا؟! ألأنك تعطيها بعض الفتات؟ قبح الله مالاً تنتج عنه هذه الممارسات!.
أتظن أنك من طينة راقية وهي مخلوقة من شيء آخر غير الذي خلقت منه؟! كيف تنسى أصلك وما تحمله بين جنبيك لتتطاول على خلق الله سبا وشتما وضربا؟ والأغرب إن كان ذلك يصدر من امرأة ممن الأصل فيها اللين واللطف والرقة؛ فإذا هي وحش كاسر!.
ترى أحيانا طفلة صغيرة في البرد الشديد تحمل ما لا يطاق، لا لباس يكفيها لمواجهة البرد، فإذا دخلت البيت بدأت في الأشغال الشاقة المتواصلة، والويل لها ثم الويل لها إن أخطأت أو قصرت... إنها مأساة -أيها الأحباب- بكل المقاييس!.
نعم، هناك مآخذ غير مرضية تصدر من بعض الخادمات، ولكن لا تعالج بهذه الأمور، إن لم يكن وفاق ففراق، ولنعرض هذه القضية الأخلاقية على ديننا وشرعنا.
فإن أول ما يدعو إليه شرعنا في التعامل مع هذه القضية: "الرحمة"؛ فإنه لولا ضعفها وضعف أهلها لما هان عليها وعليهم أن يتركوها بين يديك، والراحمون يرحمهم الرحمن.
ثانيا: حسن الخلق والمعاملة، فإن حسن الخلق مع الضعيف دليل على قوة الإيمان، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا وتعاملا مع الخدم كما في الصحيحين؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدم النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين قال: "خدمته حضرا وسفرا، فما قال لشيء فعلتُه لِمَ فعلته، ولا لشيء لم أفعله لِمَ لَمْ تفعله".
ثالثا: العفو عن أخطائها والتجاوز عن زلاتها، فقد صح عند أبي داود أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: كم أعفو عن الخادم؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل يوم سبعين مرة".
رابعا: الإحسان إليها والتصدق عليها، فقد جاء في حديث أبي ذر المتفق عليه قاعدة عظيمة يرسمها نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إخوانكم خولكم"، يعني: خدمكم، "إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان إخوه تحت يده فليُطْعِمْهُ مما يأكل، ولْيُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم".
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين؛ فإنه ولي علاجه"، أي هو الذي تولى صنعه وعمله.
خامسا: تجنب ظلم الخادمة بصوره المختلفة، فمن صور ظلمها: احتقارها، أو لعنها، أو شتمها بأقبح الألفاظ وأقذع العبارات.
ومن صور ظلمها: تكليفها بالعمل الشاق الذي لا تطيقه، وقد روى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "للمملوك طعامه، وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق".
ومن صور ظلمها: المماطلة بأجرها أو منعها أو نقصها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " قال الله -عز وجل-: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة -يعني ربنا خصمهم-: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"، فليحذر المسلم من أن يكون الله -تعالى- خصمه في الموقف العظيم.
ومن صور ظلمها: التسلط عليها بالضرب، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: كنت أضرب غلاما لي بالسوط، فسمعت، فلم أفهم الصوت من الغضب.
قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو يقول: "اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام"، فقلت: "لا أضرب مملوكاً بعده أبداً".
وفي رواية: "فسقط السوط من يدي هيبة له". وفي رواية: "فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله تعالى"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ"، أَوْ قَالَ: "لَمَسَّتْكَ النَّارُ".
وعلى المسلم أن يعتني بمن تحت يده من خدم وغيرهم في الجانب الديني، وذلك -مثلا- بتعليم الخادمة أمور دينها، وتمكينها من أداء العبادات، ونصحها وتذكيرها بالله.
من القضايا كذلك التي تدعو إليها الأخلاق الكريمة وتقتضيها الفطرة السليمة قضية التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، نذكر هذا الموضوع لأن المغرب يحتفل باليوم الوطني للأشخاص المعاقين، والمناسبة شرط كما يقال، وإن كنت أرى أن هذا الوصف "المعاقين" ليس في محله؛ لأن المعاق حقيقة هو المقطوع عن الله المحجوب عنه.
أما هؤلاء فهم أناس ابتلاهم الله ببعض العجز الظاهر ليرفع أقدارهم هناك في الآخرة إن هم صبروا واحتسبوا، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
قال الخطيب الشربيني -رحمه الله- في تفسيره المسمى: "السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض كلام ربنا الحكيم الخبير"، قال: "(يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)، أي: بغير نهاية بكيل أو وزن؛ لأن كل شيء داخل تحت الحساب فهو متناهٍ، فما لا نهاية له كان خارجا عن الحساب".
قال علي -رضي الله عنه-: "كل مطيع يكال له كيلاً، ويوزن له وزناً، إلا الصابرين، فإنه يحثى لهم حثياً".
فالتعامل معهم برحمة واحترام وتقدير دليل على رقي الأمة، ونقاء حسها، وروعة فكرها.
لقد عاتب الله تعالى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- حين اشتغل بدعوة قريش عندما جاءه ابن أم مكتوم وكان أعمى، اشتغل عنه -صلى الله عليه وسلم- أو انشغل عنه بكبراء قريش طمعا في إسلامهم حتى يكونوا سببا في دعوة قومهم إلى الإسلام، فنزل قول الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * ...) [عبس:1-3].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وَمِنْ هَا هُنَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى رَسُوله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ لَا يَخُصّ بِالْإِنْذَارِ أَحَدًا؛ بَلْ يُسَاوِي فِيهِ بَيْن الشَّرِيف وَالضَّعِيف، وَالْفَقِير وَالْغَنِيّ، وَالسَّادَة وَالْعَبِيد، وَالرِّجَال وَالنِّسَاء، وَالصِّغَار وَالْكِبَار، ثُمَّ اللَّه تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم، وَلَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة، وَالْحُجَّة الدَّامِغَة" اهـ.
إن لهذه الفئة الغالية حقوقا كثيرة يجب على المسلمين القيام بها، بدءا من المسؤولين باختلاف درجاتهم، والهيئات والجمعيات، وصولا إلى الأفراد؛ فإعانتهم وتوقيرهم واجب إسلامي، وواجب إنساني، ولا يسيء إليهم إلا إنسان مدخول في إنسانيته، مختل في تربيته ونشأته، يقول ربنا: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور:61، الفتح:17]، ويقول ربنا: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46].
ونختم بقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو حديث عظيم يبين رقي الإسلام وعظمته في هذا الباب، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، وتميط الأذى عن الطريق، وتُسمع الأصمَّ، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجاته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك" رواه ابن حبان.
اللهم أصلح أحوالنا ...
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (1)
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (3)
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (4)
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (5)
التعليقات