اقتباس
ولا ينبغي للمؤمن أن يوقع نفسه بالعنت والحرج مع دواعي ومبررات الأخذ بالرخصة، بحجة أن الأخذ بالعزيمة أقرب للتقوى، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رضا الله تعالى ومحبته للآخذ بالرخصة، فعَنِ..
الرخصة في اللغة: اليسر والسهولة، وشرعاً: الحكم الشرعي المتغير إلى سهولة لعذر مع قيام الدليل المحرم، وقيل: هي ما بُني على أعذار العباد. [انظر: التعريفات ص147؛ والحدود الأنيقة للأنصاري ص70؛ والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص361.]
وفي مقابلها العزيمة: وهي في اللغة الإرادة المؤكَّدة، وشرعاً: الحكم الشرعي الذي لم يتغير إلى سهولة، وهي أصل المشروعات. [انظر: التعريفات ص194؛ والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص513ـ514.]
فالرخصة في الشرع مظهر من مظاهر اليسر والسماحة والتخفيف ونفي الحرج عن المكلفين، وهذا ما أشار إليه تعالى بعد ذكر رخصة التيمم بقوله: ( ما يريد ليجعل عليكم في الدين من حرج) [المائدة: 6]، وقال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج: 78]، وقال عز من قائل: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) [البقرة: 185]، ولذلك أمر الله عباده المؤمنين أن يبذلوا في طاعته وتقواه ما يستطيعونه من الجهد والوسع، فقال: ( فاتقوا الله ما استطعتم) [التغابن: 16]، فإذا ما طرأت المشقة، وحالت دون تطبيق الأمر على وجهه، جاءت الرخصة لتخفف عن المكلف.
وقد وضع الفقهاء جملة من القواعد الفقهية المستَمَدَّة من النصوص الشرعية، منها: " المشقة تجلب التيسير"، " إذا ضاق الأمر اتسع "، " الضرورات تبيح المحظورات"...
ولا ينبغي للمؤمن أن يوقع نفسه بالعنت والحرج مع دواعي ومبررات الأخذ بالرخصة، بحجة أن الأخذ بالعزيمة أقرب للتقوى، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رضا الله تعالى ومحبته للآخذ بالرخصة، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ " [ذكره الهيثمي مجمع الزوائد 3/382 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح والبزار و الطبراني في الأوسط وإسناده حسن].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه". [ أخرجه الطبراني في الكبير 11/323؛ وابن حبان في صحيحه 2/69 وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ وذكره الهيثمي في المجمع 3/382 وقال: رواه الطبراني في الكبير والبزار، ورجال البزار ثقات وكذلك رجال الطبراني].
كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن يسر الدين وسماحته، فقال: " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ". [أخرجه البخاري في الإيمان برقم 39؛ والنسائي في الإيمان وشرائعه برقم 5034.].
وإذا أمعنا النظر في المصادر الفرعية للتشريع الإسلامي كالاستحسان، والمصالح المرسلة، ومراعاة الخلاف، والجوابر الشرعية، والحيل الشرعية، نجد أنها جميعها تتقاطع مع الرخصة، وغايتها جلب اليسر للمكلف، ودفع العسر عنه.
والرخص المشروعة على أنواع:
فمنها ما يكون من قبيل الإسقاط: كإسقاط الجهاد عن ذوي الأعذار، وصلاة الجمعة عن المعذور، والحج عن غير المستطيع، والحد مع وجود الشبهة...
ومنها ما يكون من قبيل التنقيص: كقصر الرباعية في السفر، وترك القيام في الصلاة للمريض والعاجز عنه.
ومنها ما يكون من قبيل الإبدال: كإبدال الغسل والوضوء بالتيمم.
ومنها ما يكون من قبيل التقديم: كتقديم العصر إلى وقت الظهر، والعشاء إلى وقت المغرب، وتقديم الزكاة عن الحول.
ومنها ما يكون من قبيل التأخير: كتأخير الظهر إلى العصر، وتأخير المغرب إلى العشاء.
ومنها ما يكون من قبيل التخفيف مع قيام المانع: كالعفو عن بعض النجاسات لقلتها، أو لعسر التحرز عنها، أو عسر إزالتها، وكصحة صلاة المستجمر مع بقية أثر النجس الذي لا
يزول تماماً إلا بالماء.
ولكن لا ينبغي للمسلم أن يكون حريصاً على تتبع الرخص في المذاهب الاجتهادية، والسعي وراءها بدون سبب دافع، مما يعتبر ميل مع أهواء النفوس، وهروب من التكاليف الشرعية، وتخلص من المسؤولية، وهدم لعزائم الأوامر والنواهي الشرعية.
وقد اعتبر العلماء تتبع الرخص فسقاً لا يحل، وحكى بعضهم الإجماع على ذلك. [انظر: الموافقات للشاطبي 4/145؛ البحر المحيط للزركشي4/602 ].
التعليقات