اقتباس
هذه الظاهرة دفعت بعض النصارى للقيام بحملة انتحار جماعي عرفت في التاريخ الكنسي الإسباني باسم (شهداء قرطبة) من خلال قيام العشرات من القساوسة والرهبان بسب النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاراً جهاراً في قلب قرطبة، وهم يعلمون أن عقوبة هذه الجريمة الإعدام، وبالفعل تم إعدام 48 نصرانياً في هذه الحركة الجنونية آخرهم قائد الحركة القس (إيولوخيو)..
تكلمنا في الجزء الأول من المقال عن حقوق غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية ، وصور صيانة الشريعة الإسلامية الغراء لهذه الحقوق، وعناية الشريعة بتحرير منهج متكامل لتقنين وضعية غير المسلمين داخل هذه المجتمعات بحيث لا يمكن وصفهم بما يروج لهم العلمانيون والكارهون لتطبيق الشريعة الإسلامية بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، أو أنهم يتعرضون لصنوف من الاضطهاد والتضييق والتنكيل بسبب المعتقد أو الدين، وقد استعرضنا الكثير من المواقف النبوية الرائعة في بيان هذه العناية الإسلامية بحقوق غير المسلمين للتأكيد على بطلان وشناعة الأكاذيب العلمانية بهذه الخصوص، فلم يقم الإسلام يوما على اضطهاد مخالفيه، أو مصادرة حقوقهم، أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم، أو المس بأموالهم وأعراضهم ودمائهم، بل إن في الدين الإسلامي من السماحة والسهولة واليسر والرحمة ما يتوافق مع عالميته وخلوده، وهو ما يجعله صلاح كل زمان ومكان لسائر الأمم والشعوب، فعبر تاريخنا الطويل كان يعيش غير المسلمين في أوطاننا آمنين مطمئنين، فلم يجبروا على ترك معتقداتهم، ولم يتعرض أحد لمقدساتهم أو دياناتهم، وهو الشيء الذي جعل الإسلام يبني شريعة التسامح في علاقاته مع (الآخر) على أساس متين، حيث شرع للمسلم أن يكون حسن المعاملة، رقيق الجانب، لين القول، مع المسلمين وغيرهم.
وفي هذا الجزء من المقال سوف نعرض لأهم أقوال المستشرقين المنصفين -على قلتهم- ممن لم يُعْمِهم الحقد والتعصب عن ذكر الحق والجهر به، وهو الأمر الذي دفعنا إلى كتابة هذه السطور، والتي سنورد فيها شهادات بعض الغربيين المنصفين الذين أعجبوا بسماحة الإسلام، بل منهم من قادته هذه السماحة إلى سلك طريق الهداية واعتناق الدين الحق، كما سنعرض لمثال ونموذج تاريخي للأثر الخبيث الذي قام به (الآخر) بحق المجتمعات الإسلامية التي كان ينعم في ظلها بحقوقه كاملة؛ لنكشف حجم التضليل العلماني في القضية المثارة حالياً.
أولاً: آراء المستشرقين في سماحة الإسلام:
بداية وقبل الشروع في ذكر أقوال المستشرقين لابد من التعامل بحذر مع الإنتاج العلمي للمستشرقين، فلب فكرة الاستشراق هو الطعن في الإسلام بالبحث والتنقيب في التراث الإسلامي؛ للبحث عن الشبهات والأباطيل التاريخية التي بثتها الفرق الضالة مثل الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية، وإعادة إنتاجها واللعب عليها من أجل تشويه الإسلام وحضارته. لذلك وجب التعامل معهم بحذر.
توماس أرلوند (1864م -1920م):
وهو مفكر إنجليزي ذكر في كتبه أن الدين الإسلامي انتشر بفعل الحرية الدينية والتسامح، ولم ينتشر كما هو متداول بالقوة وحد السيف؛ يقول في كتابه (الدعوة إلى الإسلام): "إن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق، إن نظرية العقيدة الإسلامية تلتزم التسامح وحرية الحياة الدينية لجميع أتباع الديانات الأخرى، لقد ظل الكفار على وجه الإجمال ينعمون في ظل الحكم الإسلامي بدرجات من التسامح لم نكن نجد لها مثيلاً في أوربا حتى عصور حديثة جداً، وإن التحول إلى الإسلام عن طريق الإكراه محرم طبقاً لتعاليم القرآن، وإن مجرد وجود كثير من الفرق والجماعات المسيحية في الأقطار التي ظلت قرونا في ظل الحكم الإسلامي لدليل ثابت على ذلك التسامح الذي نعم به هؤلاء المسيحيون" .
ويقول أيضا في تمجيد الإسلام وقيامه على العدل والتسامح وعدم التعصب: "وقد نجد عوامل أخرى ساعدت على تناقص الشعب المسيحي في الحقيقة، ولكننا لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي، ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها (فرديناند، وإيزابيلا) دين الإسلام من إسبانيا، أو التي جعل بها (لويس الرابع عشر) المذهب البروتستانتي مذهباً يعاقب عليه متبعوه في فرنسا، أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن إنجلترا مدة ثلاثمائة وخمسين سنة، وكانت الكنائس الشرقية في آسيا قد انعزلت انعزالاً تاماً عن سائر العالم المسيحي الذي لم يكن فيه أحد يقف في جانبهم باعتبارهم طوائف خارجة عن الدين، ولهذا فإن مجرد بقاء هذه الكنائس حتى الآن ليحمل في طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الإسلامية بوجه عام من التسامح نحوهم".
ول ديورانت (1885م -1981م):
ذهب هذا الفيلسوف والمؤرخ والكاتب الأميركي في كتابه الشهير (قصة الحضارة) إلى أن المسيحيين واليهود وغيرهم من أهل الذمة كانوا يعيشون في بلاد المسلمين بأمان كبير وكأنهم يعيشون في ديارهم، فلم يحدث في يوم من الأيام أن أساء إليهم أحد الحكام المسلمين، ولا ألزمهم بتغيير معتقداتهم أو هدم معابدهم، فقال بخصوص ذلك: "ولقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون، يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائرهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء فرضة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير. ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء، والشيوخ، والعجزة، والعمي والفقراء… وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم وقوانينهم، وكان المسيحيون أحرارا في الاحتفال بأعيادهم علنا، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجا آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين، لقد أصبحوا أحرارا آمنين تحت حكم المسلمين الذين لم يكونوا يجدون لنقاشهم ومنازعاتهم معنى يفهمونه.
ولقد ذهب المسلمون في حماية المسيحيين إلى أبعد من هذا؛ إذ عين والي أنطاكية في القرن التاسع الميلادي حرساً خاصاً؛ ليمنع الطوائف المسيحية المختلفة من أن يقتل بعضها بعضاً في الكنائس.
زيغريد هونكه (1913م – 1999م):
وهي مستشرقة ألمانية صرفت جل وقتها للدفاع عن قضايا الإسلام والمسلمين، في كتابها الشهير (شمس العرب تسطع على الغرب) تحدثت بإسهاب عن الإسلام والحضارة الإسلامية محاولة إبراز سماحة هذا الدين الحنيف، تقول: "لا إكراه في الدين. هذا ما أمر به القرآن الكريم، وبناء على ذلك فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة التعصب الديني وأفظعها، سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك لهم المسلمون بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال ومتى؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ وبعد فضائع الإسبان واضطهادات اليهود؟ إن السادة والحكام المسلمين الجدد لم يزجوا بأنفسهم في شؤون تلك الشعوب الداخلية، فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: "إنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف"
ألفريد جيوم (1888م – 1965م):
وهو مستشرق إنجليزي متخصص في علم الكلام الإسلامي، له مجموعة من المؤلفات في مقارنة الأديان وعلم الحديث والسيرة النبوية، لم يخف إعجابه بالإسلام وسماحته، يقول: "لقد استقبل المسلمون في سوريا ومصر والعراق بترحاب؛ لأنهم قضوا على الابتزاز الإمبراطوري، وأنقذوا البيع المسيحية المنشقة من الضغط الكريه الذي كانت تعانيه الحكومة المركزية، وبرهنوا بذلك على معرفة بالمشاعر والأحاسيس المحلية أكثر من معرفة الأغراب".
جابرييلي فرانشسكو (1904م – 1996م):
وهو مستشرق إيطالي قام بترجمة نصوص الفكر الإسلامي إلى الإيطالية، له مجموعة من المؤلفات في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، وبعد دراسته الطويلة للإسلام تأكد له بالملموس أن الدين الإسلامي دين تسامح، ولم يكن أبداً دين تعصب، يقول: "إن الإسلام أضفى على عقائد أهل الكتاب أي المسيحية واليهودية مكانة خاصة يحميها الشرع، وإن تكن ذات مرتبة أدنى في الدولة، ولم يدم التزمت والاضطهاد فترات طويلة إلا في أوقات الشدة وعدم الشعور بالأمان، أما قانون المسيحية فليس فيه أي مكان لأي دين آخر، لذا فقد انتقل بسرعة وبتطور منطقي عندما انتصر على الإسلام إلى التعصب والاضطهاد…، لقد انتشر دين بلاد العرب الذي جلبه الفاتحون معهم في شبه الجزيرة بسرعة، كما حدث في جميع البلاد التي فتحها العرب، وأصبح هو السائد بسرعة بين سكان البلاد الأصليين الذين اعتنقوه، وإن لم يصبح هو الدين الوحيد؛ فإلى جانب إسلام الفاتحين الأجانب كان هناك تسامح مع الدين المسيحي الذي طورته إسبانيا، بحيث أصبح لها أعيادها الدينية والثقافية وطقوسها الخاصة وكتابها وقديسوها، ورغم أن مكانته كانت دون الإسلام فقد كان له وضع قانوني كامل، على أن هذه المسيحية قد استعربت بسرعة، لغوياً وثقافياً، وأصبحت هناك كلمة عربية تدل على سكان البلاد الذين بقوا على دين آبائهم تحت الحكم الإسلامي، لكنهم أصبحوا ناطقين بالعربية أو يتكلمون اللغتين على الأقل ".
ليفي بروفنسال (1894م -1956م):
يعد هذا المستشرق أحد زعماء البحث في الفكر الإسلامي في فرنسا، وهو من أصل يهودي تنقل بين الجزائر وفرنسا وإيطاليا، تركزت أبحاثه على تاريخ وحضارة المغرب والأندلس، كتب المئات من الأبحاث والدراسات، والتي نشرت في مصنفات مستقلة، ونشر بعضها الآخر في أشهر المجلات والحوليات الاستشراقية، أعجب هو الآخر بسماحة المسلمين عند حكمهم للأندلس، والذين لم يكرهوا أحداً على تغيير دينه، بل بالعكس وفروا الجو المناسب للمسيحيين من أجل أداء شعائرهم، يقول: "ما من مكان كانت فيه العلاقات الدائمة ضروريةً بين الإسلام والمسيحية أكثر منها في إسبانيا العربية، فإن معظم سكانها قد احتفظوا، على الأقل في القرن الأول من حكم الإسلام، بالديانة القديمة في دولة الفيزيقوت (القوات الغربيون)، وفيما بعد، حتى عقب اعتناق أعداد غفيرة من الرعايا النصارى أهل الذمة للإسلام، للاستفادة من نظام مالي أفضل، بقيت نسبة ضخمة من الرعايا المسيحيين تشكل في المدن الأندلسية وحدات مزدهرة، لها كنائسها وأديرتها ورئيسها المسؤول وجابيها الخاص وقاضيها الذي يطبق في محكمته، تحت إشراف الإدارة الأموية، القانون القوطي القديم. أما الاضطهادات التي عانتها فقد كان يسببها دوماً مسيحيون متهوسون يرفضون أن يتراجعوا عن القدح في معتقد سادة البلاد. وكان أمراء الأندلس وخلفاؤها يقرون بصورة دائمة تقريباً اختيار أصحاب الرتب الكهنوتية: مطران طليطلة وأسقف قرطبة، حتى إنهم كانوا يستعملون هؤلاء الأحبار في سفارات أو مهمات سياسية سرية في الوقت المناسب".
إدوارد بروي (1887م-1972م):
هو صاحب كتاب "تاريخ الحضارات العام: القرون الوسطى"، وهو جزء من أكبر وأفضل الموسوعات التاريخية الشاملة، والتي تسرد تاريخ الأمم ابتداءً من حضارة الشرق واليونان القديمة وانتهاءً بعهدنا المعاصر، ذكر فيه مما ذكر أن الحضارة الإسلامية استطاعت أن تصل إلى مستوى العالمية بسبب سماحة المسلمين وعدم تعصبهم تجاه المسيحيين، الذين كانوا يكيلون للمسلمين التهم بإسبانيا ويعرضونهم لشتى أنواع العذاب يقول: "ما لابد من التنويه به عالياً أن هؤلاء السلاطين العثمانيين لم يظهروا أي تحرج أو تعصب تجاه المسيحيين، في وقت وزمان كان فيه ديوان التفتيش يبطش بالناس بطشاً وينزل بهم الهلع، وفي عهد كان اليهود والمسلمون يطردون دونما رحمة أو شفقة من إسبانيا، وبالرغم من إسكان عدد كبير من الجاليات الإسلامية في البلقان، واعتناق بعض الجماعات البلقانية الإسلام فلم يأت العثمانيون شيئاً مهماً؛ ليمنعوا السواد الأكبر من سكان البلاد البلقانية من الاحتفاظ بنصرانيتهم ".
ويقول أيضاً في نفس الكتاب: "قلما عرف التاريخ -والحق يقال- فتوحات كان لها في المدى القريب على الأهلين مثل هذا النزر الصغير من الاضطراب؛ فمن لم يكن عربياً من الأهلين لم يشعر بأي اضطهاد قط، فاليهود والنصارى الذين هم أيضاً من أهل الكتاب حق لهم أن يتمتعوا بالتساهل وأن لا يضاموا، وكان لابد من الوقوف هذا الموقف نفسه من الزرادشتية والبوذية والصابئة وغيرها من الملل والنحل الأخرى، والمطلوب من هؤلاء السكان أن يظهروا الولاء للإسلام ويعترفوا بسيادته وسلطانه، وأن يؤدوا له الرسوم المترتبة على أهل الذمة تأديتها، وفي نطاق هذه التحفظات التي لم يكن لتؤثر كثيراً على الحياة العادية، تمتعوا بكافة حرياتهم".
إميل درمنجم (1892م-1971م):
أحد كبار المستشرقين الفرنسيين، عمل مديراً لمكتبة الجزائر، من آثاره كتاب: "حياة محمد" وهو من أحسن ما ألفه مستشرق عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكتاب "محمد والسنة الإسلامية"، بالإضافة إلى مجموعة من الأبحاث والدراسات التي نشرت في المجلات المصنفة والحوليات الاستشراقية، أعجب هذا المستشرق بالإسلام وسماحته التي جعلت منه دينا مقبولاً وعالمياً على حد قوله، فالمسلمون لم يقابلوا الإساءة بالإساءة وإنما قابلوها بالصفح والتسامح؛ يقول في كتابه (حياة محمد): "وتم النصر للإسلام؛ لأنه عنوان رسالة كان الشرق كثير الاحتياج إليها، واحتمل المسلمون ضروب العذاب قبل الهجرة ولم يستطيعوا لها رداً، فلما كانت الهجرة وكان ما أبدوه من المقاومة والنصر، اتخذوا التسامح الواسع دستوراً لهم. أجل لم يبق للمشركين مقام في دار الإسلام، ولكنه أصبح لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيها حق الحماية وحرية العبادة وما إليهما، وصاروا من المجتمع إذا ما أعطوا الجزية... ولم يرو التاريخ أن المسلمين قتلوا شعباً، وما دخول الناس أفواجاً في الإسلام إلا عن رغبة فيه، وهنا نقول ما أعظم الفرق بين دخول المسلمين القدس فاتحين ودخول الصليبيين الذين ضربوا رقاب المسلمين، فسار فرسانهم في نهر من الدماء التي كانت من الغزاة ما بلغت به ركبهم، وعقد النية على قتل المسلمين الذين تفلتوا من المذبحة الأولى ".
وهذا غيض من فيض وإلا فالشهادات كثيرة والشهود أكثر، وإن كان ما ذكرناه لا يمثل إلا النزر اليسير من الحق والاعتراف بالفضل في بحر من الكراهية والحقد والأكاذيب التي تطفح بها كتابات المستشرقين ضد الإسلام ورسوله الكريم.
الأثر التاريخي (للآخر) في الحضارة الإسلامية:
مشكلة كثير من أبناء المسلمين اليوم تتلخص في حالة الدونية والهزيمة النفسية التي يشعرون بها إزاء الهجمات الإعلامية العنيفة التي يشنها خصومها، فتراهم عند كل تهمة يبادرون بالتخندق في مواقف دفاعية عقيمة بالمسارعة بالنفي التام الذي عادة ما يكون مقصوداً بذاته كي يتخلى كثير منهم عن ثوابتهم وإرثهم الديني والفكري والحضاري.
ولعل الجهل بالتاريخ وفصوله وما جرى فيه من مواقف خيانة بشعة من جانب الأقليات غير المسلمة أو (الآخر) كانت من أهم أسباب سقوط الدول الإسلامية في مواطن كثيرة. فكيف لهم إذاً أن يتطاولوا على الإسلام أو يتهموه بما هم غارقون فيه حتى الثمالة.
وهذه طائفة مختصرة ويسيرة من فصل واحد في مجلد ضخم وكبير عنوانه التي قامت بها الأقليات غير المسلمة أو (الآخر) حتى يرتدع كل كذاب مفتري عن تشويه الإسلام، ويعرف الدور الحقيقي والجناة الأصليون في القضية. وأوضح مثال نضربه عن خيانة (الآخر) ما فعله نصارى الأندلس أو الفردوس المفقود.
فعندما فتح المسلمون الأندلس كان أهلها من النصارى وبعضهم من اليهود لم يعاملهم المسلمون معاملة الفاتح المتجبر الذي يستبيح الديار والأعراض، ولم يكرههم على ترك دينهم إنما ترك لهم حرية الاعتقاد، وقامت دولة الإسلام في الأندلس بقوة وتمكن خاصة في عهد الدولة الأموية وعبد الرحمن الداخل ومن جاء بعده، وكان النصارى المعاهدون (الآخر) قد أصبحوا أقلية بسبب إسلام معظم أهل الأندلس بعد الفتح اختيارًا لا إجبارًا، وكان (الآخر) يعيش آمنًا مطمئنًا على داره وعرضه وماله في ظل الحكومة الإسلامية وكانوا يستوطنون القواعد الأندلسية الكبرى مثل قرطبة، وإشبيلية، وطليطلة وبلنسية وسرقسطة، ويتمتع النابهون من أبناء الأقلية النصرانية بعطف الخلفاء وثقتهم وتقديرهم، ويشغل الكثير منهم مناصب هامة في الإدارة وفي القصر (لاحظ أن هذا مخالف لما يجب أن تكون عليه عقيدة الولاء والبراء بين المسلمين، وما ورد من النهي عن اتخاذهم بطانة من دون المسلمين).
وعندما سقطت دولة الخلافة الأموية بالأندلس وقامت دولة الطوائف المشئومة على الإسلام والمسلمين طرأ تغيير ملحوظ على أحوال الأقليات حيث تمتعوا بحرية مطلقة في كل شيء أكبر من الأول بكثير واعتنى ملوك الطوائف بـ (الآخر) بشدة وأولاهم رعاية فائقة وبذلوا جهودًا كبيرًا في تأمين "الآخر" وحمايته وكسب مودته وكان ملوك قرطبة وإشبيلية وسرقسطة يتسابقون في العطف على الأقليات الدينية، وكانت بواعث هذه السياسة الودية واضحة؛ ذلك لأن إسبانيا النصرانية في تلك المرحلة كانت بدأت تتفوق على الأندلس المسلمة وبدأت تشن ما يسمى بـ (حرب الاسترداد) وكان ملوك الطوائف يشعرون في هذه الأقلية بأنها مكمن للخطر والدسائس، وكان بنو عباد ملوك قرطبة أكثر الناس تسامحًا مع "الأقليات" وبلاط بني عباد يغص بالنصارى واليهود، وعلى شاكلته كان باقي الملوك فهذا (عبد الله بن بلقين) يصطنع النصارى، ويعتمد على الفرسان النصارى، ويتخذهم نصحاء وأمناء ووزراء يعاونوه في حربه ضد المسلمين!، وهذا (ابن هود) نكبة الإسلام في شمال شرق الأندلس كان أكبر ملوك الطوائف تسامحًا نحو الأقليات، ويعتمد على محالفة النصارى في كل مشاريعه ضد المسلمين، وكان هو السبب وراء شهرة الفارس الصليبي (الكمبيادور) الذي أصبح فيما بعد أكبر نكبة على دولة الإسلام في الأندلس، وهو معدود ضمن أبطال إسبانيا القوميين حتى الآن.
هذه كانت حالة (الآخر) أو (الأقليات) في ظل حكم المسلمين بالأندلس رفاهية وأمان ورعاية وحماية ووزارة وبطانة وكلها أمور يجب أن تجعل ولاءهم الأول لهذا الحكم وهذا المجتمع، ولكن كيف كان رد فعل الأقليات تجاه كل هذه المزايا والنعيم؟
غير أن هذا التسامح لم يفد كثيراً مع قلوب بعض النصارى الذين أكلهم الغيظ من تفوق ورقي الأندلس المسلمة عن إسبانيا النصرانية وشيوع حالة من الانبهار بالحضارة والثقافة الإسلامية جعلت أعداد المتحولين إلى الإسلام من أبناء النصارى الإسبان في تزايد يومي. وكان من مظاهر تأثر الشباب المسيحي، أنهم كانوا يكتبون ويتكلمون العربية، محتقرين دراسة اللغة والآداب اللاتينية، وهو أمر كان شديد الخطر على وطنيتهم ودينهم من وجهة نظر الكثير من القساوسة والرهبان الإسبان.
وفي النصف الأول من القرن التاسع، لم تكن اللغة والآداب بالعربية فقط، بل وكذلك الأفكار والتقاليد الإسلامية قد انتشرت بين المستعربين الإسبان. وهذا ما تشير إليه وثيقة هامة كتبها نصراني قرطبي معاصر هو ألفارو القرطبي في سنة 854 م وفيها يصف بقوة وبلاغة الذعر الذي أصاب الأشراف الكرماء البواسل الذين كانوا يحتفظون بالعاطفة المسيحية والوطنية الإسبانية. وكيف أن شبانًا من المسيحيين يمتلئون حياة وقوة وفصاحة، يتقنون اللغة العربية، ويبحثون بشغف عن الكتب العربية ويدرسونها بعناية ويمتدحونها بحماسة. هذا في حين أنهم يجهلون جمال الآداب الكنسية، ويجهلون شريعتهم ولغتهم اللاتينية، وينسون لغتهم القومية.
هذه الظاهرة دفعت بعض النصارى للقيام بحملة انتحار جماعي عرفت في التاريخ الكنسي الإسباني باسم (شهداء قرطبة) من خلال قيام العشرات من القساوسة والرهبان بسب النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاراً جهاراً في قلب قرطبة، وهم يعلمون أن عقوبة هذه الجريمة الإعدام، وبالفعل تم إعدام 48 نصرانياً في هذه الحركة الجنونية آخرهم قائد الحركة القس (إيولوخيو).
أما في عهد ملوك الطوائف، فرغم المكانة الفائقة والتسامح الكبير من جانب ملوك الطوائف إلا أن النصارى لم يشعروا أبدًا أنهم جزء من المجتمع المسلم، ولم يشعروا قط بعاطفة من الولاء نحو تلك الحكومة المسلمة التي كانت تبذل وسعها لحمايتهم واسترضائهم بل لبثوا دائمًا على ضغنهم وخصومتهم لها وتبصرهم بها ينتهزون أية فرصة للإيقاع بها، وممالأة ملوك إسبانيا النصرانية ومعونتهم بكل وسيلة على محاربتها وتسهيل مهمتهم في غزوها والتنكيل بها، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
أ-حصار قلمرية سنة 456 هـ: وفيه قام النصارى المعاهدون، وقد كانوا كثرة في هذه المنطقة بدور بارز في معاونة الجيش الإسباني الصليبي، وقام رهبان دير (لورفان) القريب من قلمرية بمؤنهم المختزنة بإمداد الجيش الصليبي ودلوهم على عورات المدينة حتى سقطت بيد الصليبيين.
ب-سقوط طليطلة سنة 478 هـ: دأبت الأقليات في طليطلة على تدبير الدسائس وبث الفتن والاضطرابات داخل المدينة والاتصال المستمر بألفونسو الصليبي زعيم صليبي أسبانيا ومؤازرة الناقمين من المسلمين الأغبياء ضد الحكومة القائمة والعمل على تحطيم كل جبهة حقيقية للمقاومة ولعبت الأقليات دورها على أكمل وجه حتى سقطت طليطلة بيد ألفونسو الصليبي سنة 478 هـ.
ج-غزوة الأندلس الكبرى 519 هـ: هذه الغزوة تمثل قمة الاجتراء والخيانة وذروة نكران الجميل من جانب الأقليات، عندما قام النصارى المعاهدون باستدعاء (ألفونسو الأرجوني) المعروف بالمحارب، وكان أقوي ملوك الصليبيين وقتها لغزو الأندلس واحتلالها ووعدوه بانضمام عشرات الألوف منهم، وأرسلوا له بأسمائهم في عرايض لضمان ولائهم، ووعدوه بالمساعدة بالذخائر والمؤن والأرواح والدماء، وبالفعل قام ألفونسو المحارب بغزوته الشهيرة واخترق قواعد الأندلس يعيث فيها فسادًا، وجنود (الأقليات) ينضمون إليه أثناء سيره يدلونه على المسالك والطرق ومداخل البلاد، ولكن بفضل الله -عز وجل- وحده فشلت تلك الغزوة الجريئة، وعاد ألفونسو خائبًا فما كان من (الأقليات) إلا أن شعرت بخطورة موقفها، ففر عشرات الألوف من النصارى، ورحلوا في صحبة (ألفونسو) وتركوا ديارهم وأهليهم.
بالجملة كانت الأقليات في الأندلس نكبة على البلاد والعباد، ورغم كل ما لاقوه من عون ورعاية وحماية من الحكومات الإسلامية، وكانوا طابورًا خامسًا للأعداء، وهذا ما أقر به مؤرخي الصليبيين أنفسهم فهذا الأستاذ (بيدال) يقول: "إن نجم المعاهدين قد بزغ ثانية عقب انحلال الدولة الأندلسية وقيام دول الطوائف الضعيفة واستطاعوا أن يؤدوا خدمات جليلة لقضية النصرانية والاسترداد النصراني". بل إن الحرية الممنوحة لـ (الأقليات) دفعتها لئن يتطاولوا على المسلمين وأصلهم كما نرى من الرسالة الشهيرة التي كتبها (ابن جرسيا) في تفضيل العجم على العرب سنة 450 هـ، وهي رسالة تفيض تحاملاً ضد الجنس العربي، وتنوه بوضاعة منبته وخسيس صفاته، وحقارة عيشه وميوله وانغماسه في شهوات الجنس، وتشييد بالعكس بصفات العجم (كل من ليس عربي)، وترفعهم عن الشهوات الدنية وتبحرهم في العلوم وغير ذلك، مما يوضح نتاج سياسة التسامح واللين مع (الأقليات) والجدير بالذكر أن خيانات وجرائم (الأقليات) المتكررة دفعت فقهاء المسلمين لئن يحملوا الحكام على عقابهم كما حدث من كبير فقهاء الأندلس (ابن رشد الجد) عندما أصدر فتوى بوجوب تغريب النصارى المعاهدين من الأندلس إلى المغرب، وذلك سنة 521 هـ، في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف.
ومن خلال هذا السرد الموجز للأثر التاريخي للنصارى في الأندلس يتضح لنا عدة أمور:
أولاً: أن الأقليات قد نعمت في ظل حكم الدولة الإسلامية بكل أنواع الأمان والرفاهية والمساواة التي لم يكن يخطر لهم بمثلها على بال لو حكم بعضهم بعضًا، فعندما حكموا الأندلس بعد سقوط دولة الإسلام بها طردوا كل اليهود منها. ولم يعلم من أحداث التاريخ شيئًا يدان به المسلمون في معاملتهم للأقليات، بل إن حسن المعاملة كانت سببًا لإسلام الكثير منهم، كما حدث مع نصارى حمص أيام ولاية أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- سنة 15 هجرية.
ثانيًا: أن الأقليات رغم كل هذه المعاملة الحسنة والتسامح الكبير الذي يصل على حد التساهل لم يشعروا أنهم جزء من المجتمع المسلم بل دائمًا، وأبدًا يشعرون أنهم نسيج بمفرده، مثلما حدث مع نصارى مدينة طرابلس الشامية الذين رحلوا بعيالهم ونسائهم مع الصليبيين عندما خرجوا من هذه المدينة مع نهاية الحروب الصليبية سنة 680هـ، ونجد أيضاً أن الإنجليز عندما احتلوا العراق سنة 1917م/1335هـ، دخلوا بغداد في استقبال رائع وكبير من اليهود والنصارى الذين أعلنوا أنهم في خدمة الإنجليز وتحت تصرفهم، وعندما طالب المسلمون بالعراق تكوين دولة مستقلة لهم من شمال الموصل إلى الخليج العربي سنة 1338هـ، رفض اليهود والنصارى ذلك وطلبوا أن يكونوا رعايا بريطانيين.
ثالثًا: أن (الأقليات) لم تكتف بانعزالهم شعوريًا ووجدانيًا عن المجتمعات المسلمة التي يحيون فيها بل تمادوا في ذلك، وأصبح بمثابة الطابور الخامس لأعداء الأمة المسلمة يحيكون الدسائس وينقلون الأخبار ويتجسسون لصالح الأعداء فهم مع كل عدو وحاقد على الإسلام، حتى ولو لم يطلب الأعداء منه العمل فالأقليات دائمًا تحت أمر وخدمة وتصرف أعداء الإسلام، ولم يعلم منهم موقفًا واحدًا في نصرة الدين أو الدفاع عن مجتمعه المسلم الذي يحيى فيه إلا ما كان اضطراريًا أو دفاعًا عن النفس.
رابعًا: أن (الأقليات) لم تنشط أو ترفع رأسًا أو تحيك المؤامرات أو تتعاون مع أعداء الإسلام إلا في الفترات التي تضعف فيها عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين أنفسهم ويتساهلون مع (الأقليات) ويرفعونهم إلى درجة المساواة مع المسلمين كما حدث عند إطلاق الخط الهمايوني في عهد السلطان (محمود الثاني) حيث شهد هذا العصر إطلاق المحافل الماسونية والمدارس التبشيرية والإرساليات النصرانية، وظهور الأفكار التحررية والعلمانية، ومن قبل نشطت الأقليات في الأندلس في عهد ملوك الطوائف المشهورين؛ لتمييعهم الشديد في أمر الإسلام، وضعف عقيدتهم الإسلامية، مما أتاح الفرصة أمام (الأقليات) لئن تتآمر مع أسبانيا الصليبية وتضييع حواضر الإسلام التليدة، قرطبة، طليطلة، إشبيلية، وعلى المقابل ففي الفترات التي كانت الدولة المسلمة تطبق شرع الله بصورة تامة وكاملة خاصة عقيدة الولاء والبراء، وكانت شروط أهل الذمة تطبق على الأقليات كانت هذه الفترات، هي فترات القوة والعظمة والفترات التي لم يستطع فيها أهل الذمة أن يتحركوا أو يخرجوا مكنون صدورهم، أو حتى يفكروا في التآمر على المجتمع؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أن يد الشرع ستطالهم، وعندها يكون العقاب الأليم والحد الفاصل.
التعليقات